الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عازب السينما الأرستقراطى

«الباشا» لقب اشتهر به خلال مسيرته الفنية، وهو أحد رموز التمثيل فى السينما العربية والعالمية.



ترك بصمة لا يمحوها الزمن، أو تتجاهلها الأجيال.

صفحات كتبت عنه فى مجلة «لايف» الأمريكية، وصفته بأنه أعظم ممثل فى الشرق بالمقارنة مع الممثل البريطانى الكبير تشارلز لوتون, فى نسخة مصرية من أورسن ويلز بملامحه المعبرة ونظراته المؤثرة.

واختارته أيضًا مجلة «بارى ماتش» الفرنسية بوصفه واحدًا من أفضل 10 ممثلين عالميين.

هو «زكى رستم» ذلك العبقرى الذى جمع بين الشدة والشراسة بأدوار الشر، والوقار والهيبة والصوت الرخيم فى أدوار الخير والذىحلت فبراير الماضى ذكرى وفاته.

مسيرة طويلة قدم خلالها ما يقرب من 240 فيلمًا وصل لنا منها نحو 60 فيلمًا، جسد خلالها جميع الشخصيات بكل تلقائية وبساطة وحزم، فتارة يمثل «ابن الذوات» ويعكس تمثيله لهذا الدور بيئته التى نشأ بها، وتارة أخرى شرير يكرهه الجميع.

لكنه هو الباشا الذى اتفق الجميع على مهابته واحترامه.

ولد زكى محمود رستم فى عام 1906 لأسرة أرستقراطية.. والده سياسى بارز، وصديق شخصى للزعيم مصطفى كامل.

 

 

 

 

عاش طفولته فى قصر جده اللواء محمود باشا رستم أحد رجال الجيش المصرى البارزين، بحى الحلمية الذى كانت تقطنه الطبقة الأرستقراطية أوائل القرن العشرين.

عائلها الأكبر محمود باشا رستم من كبار ملاك الأراضى بحوالى 1800 فدان بالوجه البحرى ما بين المنصورة والمنوفية.

تولى متابعة الأبعادية من بعده ابنه محرم بك العضو البارز بالحزب الوطنى والصديق الشخصى للزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد، وكان وزيرًا فى عهد الخديو إسماعيل.

عشق «زكى رستم» التمثيل منذ الصغر، ويروى أنه كان يخرج مع مربيته لمشاهدة المولد وعروض الأراجوز، وفى الابتدائية كان يذهب مع أسرته لعروض فرقة جورج أبيض.

وفى إحدى المرات شاهد جورج أبيض يؤدى شخصية «أوديب» فى «أوديب ملكًا» فعاد لمنزله وحاول استرجاع طريقة تمثيله.

السراى التى كانت مقامة على 5 أفدنة، ومقسمة إلى 50 غرفة، فى بدرومها أقام «زكى رستم» أول مسرح، حيث ينتهز فرصة سفر أبيه، ويأخذ «الطرابيزات» وستائر البيت والمفارش ويقيم المسرح.

أبطال المسرحية شقيقاته البنات وأخوه الأصغر «عبدالحميد» ومجموعة الخدم والمربيات، ويقوم هو بكتابة المسرحية وإخراجها.

المسرحيات تجرى فى السر لا يعلم عنها أحد شيئًا إلا المشاركون فيها، لكن السر لم يعد فى بئر.. فقد أفشته المربية الإيطالية جوزفين، وعرفت الوالدة، فصادرت الملابس والأدوات التى كانوا يستخدمونها فى بناء المسرح، وسرعان ما علم أبوه أيضًا بهذا السر فهدد بحبسه فى العزبة حتى يستقيم.

1915 توفى والده وباعت الأسرة سراى الحلمية بـ40 ألف جنيه، وانتقلت إلى حى الأرستقراطية الجديد الزمالك، وبالتحديد فى الفيلا رقم 1 شارع الكامل محمد.

فى هذه الفترة اضطر «رستم» لترك التمثيل مؤقتًا، وأخرج طاقته فى رياضة المصارعة، ورفع الأثقال وحصل على المركز الثانى على مستوى مصر عام 1923، ونشرت صورته فى المجلات وهو يستعرض عضلاته بطريقة كمال الأجسام.

ثم تمرد وفضل التعب والعناء حبًا فى الفن.

بعدها حصل «رستم» 1924 على البكالوريا، ورفض استكمال تعليمه واختار التمثيل، وفترة وأعلن انضمامه لفرقة جورج أبيض، ما أثار دهشة والدته أمينة هانم عبدالغفار، التى قالت: «إن من يعمل بالفن أراجوز، وأنا لا أسمح للأراجوزات بدخول منزلى»، وطردته من السرايا، بعدما خيرته بين سكة الفن والتحاقه بكلية الحقوق، وأصيبت فيما بعد بالشلل حتى وفاتها.

بالتوازى.. كان صديق طفولته سليمان نجيب لديه الميول نفسها، ويعانى الكبت والحرمان ذاته والتهديد المستمر، حيث كان والده هو الآخر من كبار الأعيان، وخاله أحمد زيور باشا رئيس الوزراء ورئيس مجلس الشيوخ.

 

 

 

محطة زكى رستم المهمة فى التمثيل كانت من خلال سليمان نجيب الذي قدمه لعبدالوارث عسر ونجح الأخير فى ترتيب لقاء مع جورج أبيض، ووافق على انضمامه لفرقته.

بعدها انضم لفرقة «رمسيس» مع أحمد علام 1925، وأسند إليه أدوارًا رئيسية، ووقتها أقنعه يوسف وهبى بأهمية الاحتراف وتقاضى أجر، وبالفعل تقاضى أول أجر شهرى فى حياته 15 جنيهًا.

بعد عامين انتقل إلى فرقة فاطمة رشدى وعزيز عيد، وتركهما بعد شهور لينضم إلى فرقة «اتحاد الممثلين»، وكانت أول فرقة تقرر لها الحكومة إعانة ثابتة، لكن لم يستمر فيها طويلًا، لينضم للفرقة القومية لشاعر القطرين، خليل مطران لمدة 10 أعوام.

1930 بدأت مرحلة جديدة فى مشوار زكى رستم، باختياره لبطولة الفيلم الصامت «زينب» تأليف الدكتور حسين هيكل، وإنتاج يوسف وهبى.

فى «زينب» أدى «زكى» دور «حسن» أمام بهيجة حافظ ودولت أبيض وحسين عسر وسراج منير وإنتاج يوسف وهبى.

بعد نجاحه فى «زينب»، قدم مجموعة من الأدوار الصغيرة فى أفلام: «الضحايا، العزيمة، ليلى بنت الصحراء»، رصيد كبير من الأعمال السينمائية التى تخطت الـ200 فيلم، لكن لم يعرف منها إلا نحو 60 فيلمًا.

ورغم شهرته فى الشر، فإنه أبدع فى كل الأدوار، حيث جسد المعلم فى «الفتوة» والباشا فى أعمال أخرى، وظهر فى «خاتم سليمان» بشخصية غير معهودة، كذلك ظهر فى دور رجل السياسة فى «النهر الخالد»، كما جسد شخصية الموظف البسيط فى فيلم «صابر أفندى».

أطلق عليه «رائد مدرسة الاندماج» فكان نموذجًا للنجم المنفرد فى مواهبه، الذى يتقمص الشخصية مهما تعددت حالاتها النفسية ومواقفها المتقلبة والمتلونة. وأطلق عليه النقاد لقب «الفنان ذو الألف وجه»، وقالت عنه فاتن حمامة إنها كانت تخاف من اندماجه.

من أشهر المشاهد التى ظهر فيها اندماجه دور «مدبولى», وهو فى قمة السعادة جاء من يهمس فى أذنه: «ابنك الوحيد وذراعك اليمين داسه الترماى».

قال عنه النقاد إنه مشهد سجل فى كتاب السينما العالمية، من فيلم «عائشة» بطولة فاتن حمامة، قدم مشهد فرح وحزن فى لحظة واحدة، وكان «رستم» أو «مدبولى» بلطجيًا يسرح أولاده فى الشوارع لبيع اليانصيب أو السرقة والنشل، ثم يجمع حصيلة شقاء وتعب ابنه وابنته عائشة ليسهر فى الملهى الشعبى حتى الصباح، وكانت عائشة تذهب للمدرسة صباحًا ثم تعود إلى البيت لترتدى لباس العمل، حتى رآها أحد الوجهاء فأخذها عنده لتعيش وتدرس واعتبرها ابنته، بمقابل شهري لوالدها «مدبولى».

شارك فى «الوردة البيضاء» أول أفلام محمد عبدالوهاب 1933، بطولة سميرة خلوصى، والضحايا بطولة محمود الأحمدي وبهيجة حافظ وعبدالسلام النابلسى، كما ظهر فى «كفرى عن خطيئتك» بطولة محمود صلاح الدين وعزيزة أمير وزينب صدقى، وفيلم «الاتهام» 1934 بطولة محمود الأحمدى ومنير فهمى وبهيجة حافظ وزينب صدقى.

عام 1937 شارك «رستم» فى بطولة «ليلى بنت الصحراء» مع راقية إبراهيم وبهيجة حافظ ومحمد بيومى وجميل حسين، و«العزيمة» 1939 بطولة أنور وجدي ومختار حسين، وحكمت فهمى.

أما 1945 فشارك فى «قصة غرام» أمام أميرة أمير، وإبراهيم حمودة وبشارة واكيم ومحمود المليجى، و«السوق السوداء» أمام عماد حمدى وعقيلة راتب وعبدالفتاح القصرى.

ظهرت عبقرية موهبته فى «هذا جناه أبى» 1945 تأليف يوسف جوهر وهنرى بركات وإخراج هنرى بركات وقدم عادل المحامى المحافظ صاحب المثل العليا الذى يوكله صديقه ليترافع فى قضية فتاة تتهم ابنه بالاعتداء عليها، ليقدم دورًا غاية فى التعقيد، عندما يكتشف أن الفتاة ابنته من نزوة ارتكبها فى الماضى، ليتحول إلى الدفاع عن الفتاة ويصر على أن يصلح ابن صديقه ما أفسده، وهى عبقرية تحسب لـ «رستم».

فى 1946 شارك «رستم» فى «عدو المرأة» بصحبة محمد فوزى، وصباح ورياض القصبجى، وظهر فى العام نفسه فى «النائب العام» بطولة عباس فارس ومديحة يسرى، وفى «خاتم سليمان» 1947 إخراج حسن رمزى، حيث قدم شخصية مركبة هى «المعلم بيومى»، قدم رستم تطور الشخصية واختلافها بتفوق يحسده عليه أعتى ممثلى السينما.

وكانت له فى الخمسينيات من القرن علامات بارزة فى السينما منها «عائشة» مع فاتن حمامة و«ياسمين» 1950 أمام مديحة يسرى وأنور وجدى وفيروز. فى فيلم «معلش يا زهر» 1950 وهو الذى كتبه يوسف عيسى وأبوالسعود الإبيارى وأخرجه هنرى بركات قدم «رستم» شخصية الأب الطيب ، مؤكدًا أنه الفنان القادر على لعب الأدوار المختلفة بنفس المستوى.

عام 1951 قدم «أنا الماضى» مع فاتن حمامة وعماد حمدي وفريد شوقى، إخراج عزالدين ذوالفقار.

وتقمص ببراعة دور الباشا الإقطاعى المخطط للظلم الاجتماعى فى «صراع فى الوادى» مع فاتن حمامة وعمر الشريف وإخراج يوسف شاهين إنتاج 1954.

 

 

 

تفوق «زكى رستم» على نفسه فى سلسلة أفلام «نيازى مصطفى» مثل: حميدو، رصيف نمرة 5، 1956 أمام فريد شوقى وهدى سلطان، وكذلك فيلم «إغراء» بصحبة شكرى سرحان وصباح، و«أين عمرى» أمام ماجدة ويحيى شاهين وأحمد رمزى.

وتألق فى فيلم «الفتوة» رائعة المخرج صلاح أبوسيف، أمام فريد شوقى وتحية كاريوكا 1957، وفى عام 1958 شارك فى «امرأة فى الطريق» إخراج عزالدين ذوالفقار وتأليف عبدالحى أديب ومحمد أبويوسف، واشتهر بجملته «عمتنى يا صابر»، قال عنه النقاد حينها: عبقرية «رستم» كانت فى الانتقال من القسوة إلى اللين بمنتهى البساطة ودون افتعال.

كما شارك فى فيلم «الهاربة» بطولة شادية وشكرى سرحان وعبدالمنعم إبراهيم.

شهدت فترة الستينيات عددًا رائعًا من الأعمال السينمائية لزكى رستم منها «ملاك وشيطان» بطولة شكرى سرحان ونجوى فؤاد ومريم فخر الدين وصلاح ذوالفقار، «نهر الحب» 1960 بطولة عمر الشريف وفاتن حمامة وفؤاد المهندس، إخراج عزالدين ذوالفقار ولعب دور «طاهر باشا» ووضعه هذا الدور فى مستوى كبار ممثلى الشاشة العالمية الذين مثلوا الدور نفسه فى 17 فيلمًا مأخوذًا عن رائعة تولستوى «أنا كارنينا».

فى 1961 قام «رستم» ببطولة «أعز الحبايب» مع شكرى سرحان وسعاد حسنى ونور الدمرداش.

عانى «رستم» أوائل الستينيات من ضعف السمع، واعتقد فى البداية أنه مجرد عارض سيزول مع الأيام، لكن هذا لم يحدث، ففى آخر أفلامه «إجازة صيف» كان قد فقد حاسة السمع تمامًا، لدرجة أنه كان ينسى جملًا فى الحوار أو يرفع صوته بطريقة مسرحية، وعندما كان المخرج يوجهه أو يعطيه ملاحظاته لا يسمعها، ما أحزنه كثيرًا، فى إحدى المرات بكى فى الاستوديو من هذا الموقف.

قدم «رستم» دور الأب البخيل فى قالب من الكوميديا الهادئة الراقية البعيدة عن الابتذال، مؤكدًا موهبته الكبيرة، بعيدًا عن أدوار الشر،. خلال «أجازة صيف» 1968، أمام فريد شوقى ومحمود المليجى ونيللى وحسن يوسف، وجسد دوره وهو فاقد لحاسة السمع تمامًا، حيث كان يكره الاستعانة بسماعة خاصة أنها كانت تقيد حركته واندماجه فى الدور، واعتمد على حفظ دوره وقراءته لشفاه الممثلين أمامه!

اشتهر عن «زكى» الوحدة والانطواء، فلم يكن يقبل أى دعوة للسهر ولا يدعو أحدًا، ولم يكن له أصدقاء سوى سليمان نجيب وعبدالوارث عسر.

كانت موهبته الكبيرة، سببًا فى تلقيه عرضًا للتمثيل فى فيلم عالمى إنتاج شركة كولومبيا، لكنه رفض قائلًا: «غير معقول أشتغل فى فيلم يعادى العرب».

عاش «رستم» طوال حياته عازبًا لا يفكر فى الزواج ولا يشغله سوى الفن، حيث كانت تؤرقه عقدة والدته التى توفيت بعد إصابتها بالشلل بسبب اتجاهه للفن، ومع ضغط أسرته عليه تقدم لفتاة من خارج الوسط الفنى أشادت أسرته بها، لكن سبقه إليها عريس آخر فلم يكرر التجربة، وعندما كبر نصحته شقيقاته بالزواج من امرأة فى مثل سنه ترعاه، رفض قائلًا: لا أنا مش هظلم معايا بنات الناس.

اعتزل «رستم» التمثيل نهائيًا 1968، وابتعد عن الناس بعد فقدانه السمع تدريجيًا، وكان يقضى معظم وقته فى القراءة ولعب البلياردو، وكان يقيم بمفرده فى شقة بعمارة «يعقوبيان» بشارع 26 يوليو، ولم يكن يؤنس وحدته سوى خادم عجوز قضى فى خدمته أكثر من 30 عامًا وكلبه الذى يصاحبه فى جولاته الصباحية، وإذا ما اضطر للخروج فكان يسير فى منطقة محدودة من شارع سليمان وعبدالخالق ثروت، وأحيانًا يذهب للحلاق فيجلس فوق الكرسى المرتفع تاركًا قدميه لـ «الجزمجى» يلمع حذاءه، وكانت وجبة الغداء فى مطعم «الأونيون» وفنجان القهوة فى «الإكسلسيور» ورغم ثرائه لكنه لم يكن يحب أن يطلع أحدًا على ذلك.

قالت عنه المذيعة ليلى رستم ابنة أخيه المهندس عبدالحميد بك رستم: «شخصيته كانت مهابة ومخيفة، ورغم أن زياراته لنا كانت قليلة فإننا كنا نخشاها ونحسب لها ألف حساب، وفى الوقت نفسه كانت جلساته ممتعة وخفيفة، وكان يتميز بخفة دم، وحينما كنا نضحك على ذلك كان يتعجب من هذا الضحك لأنه لم يكن يريد أن يقاطعه أحد أو يعلق على كلامه أحد»، وأضافت: وبالمناسبة كانت شخصيته كذلك فى الوسط الفنى حيث نقل لى الكثير من الممثلين والممثلات حكايات وطرائف تدل على احترام الجميع له ومناداته دائمًا بكلمة «زكى بك».

وحكت «ليلى» فى حوار مع الإعلامي الراحل مفيد فوزى عن عمها قائلة: «الفنان زكى رستم كان إنسانًا غير عادى وهو فنان حقيقى بمعنى الكلمة».

وفى آخر أيامه أصيب «زكى رستم» بأزمة قلبية حادة نقل على إثرها إلى مستشفى «دار الشفاء» وفى 15 فبراير 1972 أسلم الروح لبارئها، ولم يشعر به أحد، ولم يمش فى جنازته سوى عدد محدود.