الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

من زاوية أخرى

برع الشاب الأمين فى مجال عمله جدًا، وكان مكافحًا مجتهدًا جدًا إلى جانب الأمانة والصدق اللذين جعلاه محبوبًا من الجميع ونجح أن ينال إعجاب رؤسائه. وابتسم له القدر حتى حجز مكانًا مُهمًا فى العلاقات العامة فى الشركة وفاز سريعًا بالكرسى.



كان لهذا الشاب الدور الأساسى فى إنجاز العمل على أكمل وجه بالدقة والإتقان وفى الموعد المحدد ولربما قبل الميعاد، فلم يكن محبًا للمال أكثر من أن يعمل بالجد والاجتهاد حتى يرضى ربَّه أولاً،  ثم صاحب الشركة ثانيًا. فكلمة ثناء واحدة كفيلة بأن تجعله ينقل الجبال. حب الآخرين له أجبرهم على طاعة من يرأسهم فى العمل حتى صيرهم مثل العبيد.

والشركة ذات فروع كبيرة من القاهرة إلى أسوان لتوزع بضائعها. فى جميع أرجاء الجمهورية، وهى عبارة عن مكاتب للمحاسبين والسكرتارية والعمال، والمخازن كانت عبارة عن فناء كبير لتفريغ البضائع، وعنابر فى الدور الثانى للنوم وهؤلاء العمال يحملون كل الطاقة وهم أساس العمل وأكثر فئة تعمل وتبذل طاقة ولولاها لما كان للعمل معنى أو أساس بالإضافة إلى السائقين الذين ينقلون البضائع إلى الموزعين فلا عمل لهم غير قيادة السيارات وأخذ البقشيش.

وكثيرًا ما تأتى الشحنات تفرغ بالمخازن ليلاً حتى يظل العمال ساهرين طوال ليل الشتاء القارس الذى يتحول إلى ليل ساخن جدًا من كثرة الطاقة والجهد المبذول طوال الليل. 

وكان أمناء المخازن يعدون ويحصون البضاعة ويشرفون على رصها فى صفوف منظمة داخل المخازن وإعطاء التقارير بذلك ويكون المكتب على علم بالكميات المستوردة، وكل هذا عن طريق هؤلاء العبيد، وعندما ينتهى تفريغ الشاحنات صباحًا يبدأ عمل آخر وهو شحن البضائع مرة أخرى فى عربات الشركة لتوزيعها على الموزعين والتجار، فلا يعرفون فى هذه الأيام النوم أبدًا، كانوا أشبه بعمال مناجم الفحم فى أوروبا قبل عصر الثورة الصناعية. عمال محرومون ليس لهم موعد عمل محدد متى يبدأ أو ينتهى، فعملهم فى الصباح أو المساء أو فجرًا وربما كانت فى أجمل لحظات النوم!

عمال حسب الطلب ولكنّ موظفى المكاتب يبدأ عملهم من الساعة التاسعة صباحًا حتى الثانية ظهرًا. 

إلا مدير المكتب الذى يغادر المكتب من دون موعد محدد، فمكانه مكيف صيفًا شتاءً أو لهذا كان يجلس طويلاً أو ليس لديه واجبات أخرى.

وكان العمال مجبرين على العمل، فالعائد قليل والعمل شاق وصعب أو لأنهم كانوا بسطاء يعيشون سعداء مع بعضهم البعض يلعبون ويلهون  كالأطفال، وعلى الرغم من ذلك فكثيرًا ما كانوا يتعاركون مع بعض ولا ينتهى الخلاف إلا بحضور مندوب عن الشركة أو المدير شخصيًا. لأجل هذا كانوا يحبونه جميعًا ولم يهتم بهم أبدًا ولا بمطالبهم ولا بحاجاتهم كل اهتماماته هو العمل فقط والإخلاص والتفانى حتى يرضى صاحب العمل معتقدًا أنه يرضى ضميره وربه.

حتى جار على حق الضعفاء المرغمين على العمل دون جبر من أحد، وهناك عمال قد يتركون العمل تحت الذل والإجحاف وكان عن يقين أنه لا يظلم أحدًا. هو مرح يرحب بالعمل ولا يشتم ولا يهين أحدًا والأهم عنده هو إرضاء صاحب العمل، فهو على حق لكنه نسى حق الأجير، ورغم ذلك كثيرًا ما كان يتفنن فى توفير المال بربط الحزام. بتوفير النفقات بالخصم من رواتب العمال فقط مستندًا لأسباب ضعيفة كالتأخير عن العمل أو تأخير فى يوم الإجازة أو أى أخطاء غير مقصودة ليوفر لخزينة الشركة مئات الجنيهات بمثل قيمة مرتب هذا العامل. رغم هذه القوانين التى تطبق على العمال؛ فإنها لا تطبق على موظفى المكاتب. 

ذات مرة فى إحدى ليالى الشتاء البارد جاءت عشر شحنات دفعة واحدة وعدد العمال قليل جدًا لم يتجاوز الخمسة عمال وأجبر العمال على تفريغ الشحنات  جاء صاحب العمل بسيارته وعندما نزل من السيارة ليباشر العمل صرخ أحدهم فى صاحب العمل (ليه كل الظلم ده كفاية كل دى بضاعة ومفيش عمال كفاية.حرام. حرام)

وازداد الهرج والمرج حاول مدير الشركة وأمناء المخازن تهدئة الموقف ولكن كان الانفجار وضعًا طبيعيًا من كثرة الكبت والعمل حتى تمكن الظلم من الفتى حتى انفجر. وقرر الرحيل. بينما ينهار العمال من كثرة العمل كان صاحب الشركة يمشى متبخترًا مختالاً، فها هى المخازن تمتلئ ليلاً بالبضاعة وتفرغ صباحًا والأموال تدخل دفعات إلى الخزانة ولا يهتم بباقى البشر ورغم هذا العمل الشاق المجحف والجهد المضنى والعَرق المسكوب فى ليالى (طوبة) ذات البرد القارس كل هذا ولم يكن يصرف لهم مكافآت ولا حتى أبسط الأشياء حتى وجبة بسيطة لا تتكلف أبسط القروش. 

وعندما طالبوه ببعض النقود لأجل وجبة للعمال رفض متحججًا أن هذا من اختصاص مدير الشركة وعندما طالبوا المدير تلعثم ورفض الاقتراح.

ولم يكن قانون ولا نظام يحكم العلاقة بين مالك العمل والأجراء سوى هذا المدير الظالم الذى لا يهتم بشىء سوى العمل ثم العمل وأخيرًا رضى صاحب العمل. 

والغريب فى هذا الأمر أن الشركة لا تجبر أحدًا على العمل ولا يوجد إجبار نهائيًا، والمحير أيضًا أن العمال كانوا يتمسكون بالعمل رغم كل هذا. تمر الأيام والشهور والسنوات يتغير العمال والأمناء والمحاسبون حتى يرحل مدير الشركة ويكبر المالك وتكبر شركته وتزداد أمواله فى البنوك ويرحل المدير وقلبه مطمئن، لكن كان هناك رأى آخر.