المتحف الأسود

قصة: ديميترى يارموف - ترجمة: د. هانى حجاج
سكان الطابق السُّفلى غرباء، لكنهم بلا صوت ويدفعون الأجرة فى موعدها. وكانوا يخاطبون الشيخ بإجلال:
- «البيت بيتك، ولهذا السبب نسدد الأجرة لك فى الأوان».
يسعد قلب «شيتان» لأنه يعيدها بدوره إلى المالكين الأصليين للطابق السُّفلى.
استأجر الابنُ الطابقَ العلوى ويطلب من والده الشيخ فى كل مرّة أن:
- «ابقَ معى فى المدينة. فأنت فى بيتك الذى تملكه، أليس كذلك؟»..
وسكن الشيخ الطابق العلوى، لكن المكان ضيق عليه. وما أن يبادر ابنه وزوجة ابنه بالمغادرة إلى عملهما حتى يتسلل إلى العلية ويجلس بجوار النافذة الصغيرة القريبة من السقف، يرسل بصره جهة الجنوب ثم ذات اليمين وذات اليسار يتأمل أسقف المدينة ونهر «توندجا» الأبيض الممتد وسُحُب الخريف تظلل رءوس الناس. يتذكر «كروسيتو شيتان» أيام الصيف وصياح الديكة فى الباحة. ينهض على قدميه فيستيقظ الحمَام تحت أفاريز السقف وهو يرسل هديله إلى عنان الظهيرة. يمد بصره إلى (جرين دير)؛ حيث تترامَى الحقول ويشعر بأن المطر آتٍ.
لأن بيته قديم، عتيق الطراز، حسن الترتيب؛ قرر مجلس القرية المطالبة به!
بل أعلن رئيس المجلس أنهم سيحوّلونه إلى متحف، وتحمّس أولاده وشدّدوا عليه للقبول بذلك. ماطل وقاوم حتى أعلن ابنه الصغير «بيينو» إنه سيبتاع بيتًا فى المدينة، فنفض الشيخ عنه عناده وأذعن. فى مايو تخلص أولاده الثلاثة من الحيوانات التى يحبها، الخنزير والإوز والديكة. حزموا كل شىء واصطحب الأولاد الثلاثة زوجاتهم وأولادهم ورحلوا وتركوا الشيخ وحيدًا يتفاهم مع مجلس القرية. من مجلسه على السطح قرب النافذة فكّر فى كيف أصبحت الأيام قصيرة، يسترجع فى خياله ذلك النهار الطويل وصياح الديكة وفى العتمة لمح بائع الحليب يهتف:
- «كيف حالك يا جارى؟ هل اعتدت كل شىء؟».
يغمغم الشيخ «شيتان»:
- «لا أعرف. ماذا عنك؟!».
لا يرد ويختفى، ويعود فى باكر الصباح:
- «هل عرفت الخبر الجديد؟».
يطل «شيتان» برأسه:
- «لا، ماذا؟».
- «اسمع. هل هذا البيت بيتك؟».
- «لا أعرف. ربما!».
- «أنا أعرف. إنه ليس بيتك. سمعتك تتكلم مع جيران الطابق السُّفلى بالأمس. كنت على وشك الشجار. يا أخى حرام عليك. يبدو أنهم أصحاب البيت. كف عن ذلك، فهم أصحاب البيت. ولدك «بيينو» يكافح لبناء بيت، لكنه لم ينته بعد».
- «فعلاً؟».
- «كذب عليك حتى لا يقتلك القلق. الآن لا تخبره أنك عارف بخدعته الصغيرة؛ لأنه قد بدأ هو بالقلق».
غمغم الشيخ «شيتان»:
- «ولكنى قد عرفت الآن!».
ثم إنه هجر النافذة ولن يعود إليها قبل العصر. وحين عاد ولده وجده مَحنىّ الظهر متهالكًا فى ركن المطبخ:
- «سأذهب إلى القرية. أفتقد جيرانى والرفاق».
فى أمسية ماطرة كهذه، كان «شيتان» يَعبر الحقول تحت السماء الملبدة بالسُّحُب والمغيب ينتشر بسرعة، يدور حول البيت والجرن هرولة. يضع كل شىء فى مكانه. ورائحة التّبْن تفعم أنفه. الدجاجات تنقنق والخيول تصهل وضحكات أولاده وكناته فى كل ركن. ولج إلى الباحة وأنعم البصر حواليه، الحمَام يصفق بأجنحته على الأرض، بعضها يحوم فوق البيت. جددوا السور ووضعوا عليه أوانى فخارية على سبيل الزينة، هذا الهراء الخزفى طبعًا دعاية للمتحف. جر عربة التبن إلى تحت المظلة وأصابته أولى قطرات المطر وهو يجمع كتل الحطب. رقى الدرج الخشبى ذى الصرير فجلجل الصخب فى البيت كله. ترك نور الخارج مطفئًا واجتاز الشرفة. كانت بناته يقفن هنا وينمن هناك.
لكنه باب جديد له قفل جديد.
أخرجَ الشيخُ سلسلة مفاتيحه، خطا فوق العتبة، لكنه تراجع بسرعة. لقد اهتز الباب وشم رائحة غريبة. لا يعرف معناها. تأمل الباحة كأنه يتلمس فيها الحياة السابقة بلا جدوى مع أنه يكاد يسمع صرير العجلات فى موسم الحصاد، يشم رائحة التبن، يسمع غناء الديوك وسُباب الأولاد وضجيج الخيول والخنازير ورفرفة الحمَام والإوز.
ما زالت الحمائم تكنس أرضية البيت بأجنحتها وتحلق فوق السقف. السماء على وشك أن تمطر لكن الليل لم يقترب من الشرفة بعد. ما هذا الذى يظهر فى زاوية مظللة فى الحجرة؟
دُمية كبيرة محشوة بالقش على رأسها قبّعة من الفرو.
- «جميل، جميل يا «شيتان». صنعوا خيال مآتة يحل محلك ويملأ مكانك، أنت على وشك الرحيل عن هذا العالم على كل حال. ماذا عن كميات الثلوج التى هطلت على كتفيك؟ دفقات المطر التى بللت رأسك ووجهك! وهذا الرجل المملوء بالقش يستريح فى حجرتك؟ كن رجلاً وألق به من الشرفة حالاً؛ ليبله المطر هو الآخر. انظر، المطر آتٍ من هذه الناحية».
ألقى الدمية وعاد للغرفة. تراخت ساقاه كالهلام، هوت يداه على ركبتيه.
استمر المطر فى الهطول يغرق الباحة. توقف الإوز عن التبختر والحمَام عن الهديل. قرميد السطح يهمهم بنغم عذب.
جن الليل وذاب الجبل فى الظلمة المتوانية.
أطال «شيتان» الشيخ النظر إلى تلك الناحية، وبدأت عيناه تسكبان الدمع هما الآخران.