الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حديث المرآة

استيقظ وقد تقدم النهار، وصخب المدينة يغزو هواء الغرفة من بابها الموارب. فى زخم القلق من الموت، فى خوفه التام، فى قطعة الطين -الصلصال الذى خُلق منه بالذات- قطعة الطين التى تحت لسان أخيه- كان عليه أن يفكر: لو لم تكن روحه فى حالة أخرى. لكن الشمس الساطعة التى تضيء الحديقة حرفت انتباهه نحو حياة أخرى أكثر عادية، أكثر دنيوية، وربما أقل حقيقة من وجوده الداخلى الجبار. أشرقت فى حياته كرجل عادي، كحيوان يومي، فجعلته يتذكر -دون أن يعتمد فى ذلك على جهازه العصبي، بل على كبده الفاسد العليل- الاستحالة التى لا خلاص منها للنوم كبرجوازى متعفن. فكر -وكان هناك، فى الواقع، شىء من الرياضيات البرجماتية فى تلعثم الأرقام وفى ألغاز المكتب الحسابية.



 

الثامنة واثنتا عشرة دقيقة: «سأصل متأخرًا بكل تأكيد». مرّ برؤوس أصابعه على خده. الجلد الخشن المزروع بجذوع نامية، خلّف لديه انطباعًا بالشعر الخشن عبر قرون استشعار براجمه. بعد ذلك، تلمس براحة يده نصف المفتوحة الوجه الساهم الساهي، بحذر؛ بالهدوء الوقور للجرَّاح المتمكِّن الذى يعرف أين نواة الورم. ومن السطح اللين راحت تبرز نحو الجوف، المادة الصلبة للحقيقة التى يجعلها الغم، فى مناسبات، رمادية شاحبة. هناك تحت أنامله وبعد البراجم، عظمٌ فى مواجهة عظمٍ- كان شرطه التشريحى الذى لا يرحم قد دفن نظامًا من المركبات، كونًا مضغوطًا من أنسجة من ألياف من خلايا، من عوالم أصغر، تسند تدعم ترفع درعه اللحمى إلى مستوى أقل ديمومة من الوضعية الطبيعية والأخيرة لهيكله العظمى.

أجل. فعلى الوسادة، غاصت رأسه فى المادة اللينة، وفى جسمه المنبطح على استرخاء أجهزته، كان للحياة مذاق أفقي، وضع أفضل لمبادئها الأساسية. كان يعرف أن هذه المهمة الطويلة الشاقة التى تنتظره ستبدأ إذا ما بذل جهدًا أدنى بإطباق جفنيه، بالتحلل فى مناخ غير معقد، ودون أية التزامات بالزمان أو المكان: دون حاجة، عند تحقيقها، إلى أن تتعرض هذه المغامرة الكيميائية التى تشكل جسده إلى أدنى انتقاص أو تقصير. بل على العكس، فهكذا، وجفناه مطبقان، سيكون هناك اقتصاد تام فى الموارد الحيوية، غياب مطلق للاستهلاك العضوى، أليس كذلك؟ ويمكن لجسده الغارق فى بحر الأحلام أن يتحرك، يحيا، يرتقى إلى أشكال وجودية أخرى يكون لعالمه الواقعى فيها ولحاجته الحميمة زخمًا مماثلًا إلى حدّ التطابق فى العواطف -إن لم يكن أكبر- فتظل معها ضرورة العيش كافية تمامًا دون التسبب بأى ضرر فى تكامله البدنى. وستكون أسهل بكثير -عندئذ- مهمة التعايش مع الكائنات والموجودات، والتفاهم السلمى والتصرف مع ذلك كما هى الحال فى العالم الواقعى. فمهام مثل الاستيقاظ وحلاقة الذقن، وركوب الحافلة، وحلّ معادلات المكتب، ستكون سهلة وغير معقدة فى الحلم، وستمنحه بعد تحقيقها الإحساس نفسه بالرضا الداخلى والسلام التام.

من الأفضل عمل ذلك بهذه الطريقة الاصطناعية، مثلما كان يفعل من قبل؛ باحثًا فى ضوء الغرفة الشحيح عن اتجاه المرآة. مثلما كان سيواصل عمله لو لم يحدث، فى تلك اللحظة، أن آلة ثقيلة، وحشية لعينة وعبثية، أفسدت مادة حلمة المستجد الدافئة. والآن، بعودته إلى العالم الذى يعرفه الناس، اكتسبت المسألة بكل تأكيد طابعًا أشد حدة وخطورة. ولكن مهلا، فإن النظرية الغريبة التى أوحت له للتو باسترخائه، قد حرفته باتجاه منطقة إدراك، ومن داخل قدمه أحس بانفراج الشفتين نحو الجانبين، فى حركة لا بد أنها كانت ابتسامة عصبية لا إرادية. وبإحساس بالانزعاج -مازال فى أعماقه يواصل الابتسامة الطارئة.

(وخطر له أنه لا بد من حلاقة الذقن فى حين أنه عليه أن يكون منكبًا على الدفاتر بعد عشرين دقيقة. الاستحمام ثمانى دقائق. وبالعجلة تصبح خمسًا.

والفطور سبع دقائق، قطع سجق عتيقة كريهة. البقال، والبراغى المفكوكة، والعقاقير اللازمة، والمشروبات؛ وهذا أشبه بصندوقِ أعرفُ صندوق من هو؛ لقد نسيت الكلمة -الحافلة تتعطل أيام الثلاثاء ويتأخر سبع دقائق- بيندورا؟ لا، بيلدورا؟ بالإجمال نصف ساعة. لم يعد هناك وقت. لقد نسيت الكلمة، إنه صندوق يشم كل شىء. بيدورا. الكمة تبدأ بحرف ب عموما). مرتديًا الروب، وقد وجد نفسه أمام المغسلة، وجه ناعس، شعر مشعث، ودون حلاقة، ألقى إليه نظرة قانطة من المرآة. ارتجف، اجتاحته رعشة خفيفة، صاعدة مثل خيط بارد عبر أعصابه، حين اكتشف فى تلك الصورة شقيقه الميت فى لحظة نهوضه. الوجه المتعب ذاته، النظرة نفسها التى لم تستيقظ تمامًا بعد.

 

 

 

حركة جديدة بعثت إلى المرآة كمية من الضوء مستعدة للتحوّل إلى إيماءة لطيفة، لكن العودة العفوية لذلك الضوء جلبت له -خلافًا لنواياه- تقطيبة جبين فظة ويأس. ماء. التدفق الدافئ انفتح غزيرًا، وافرًا، وموجة البخار الأبيض والكثيف فصلت بينه وبين زجاج المرآة. وهكذا - منتهزًا فرصة الانقطاع فى حركة سريعة- تمكن من التوافق مع زمنه ومع الزمن داخل لُجين المرآة.

 ارتفعت سحابة البخار مالئة بحواف زجاجية قاطعة، بمعادن باردة؛ وأظهرت له السحابة من جديد - وقد انقشعت الآن - الوجه الآخر، معكرًا بتعقيدات عضوية، وقوانين رياضية، تحاول بها الهندسة صوغ طريقة جديدة للكتلة، شكل جديد للضوء. هناك، قبالته، كان الوجه، ينبض، يتألق بوهج حضوره الخاص، متحولًا إلى إيماءة، كانت فى الوقت نفسه باسمة وهازلة تطل على الزجاج الآخر الرطب الذى غادرته كثافة البخار.

ابتسم. (فابتسم) أخرج -لنفسه- لسانه (فأخرج -للواقعي- لسانه). كان لسان من هو فى المرآة معجونا، أصفر: (هناك حموضة فى معدتك) شخَّص الحالة (بحركة دون كلام) مرفقًا ذلك بتكشيرة. عاود الابتسام. (فعاود الآخر الابتسام) لكنه استطاع الآن أن يلاحظ أن هناك شيئًا من البلاهة، من التصنع الساذج، ومن الزيف المكشوف فى هذه الابتسامة التى ترد عليه. مسد شعره (فمسد شعره) بيده اليمنى (اليسرى)، كى يرد، فى الحال، النظرة الخجول (ويختفى).

استغرب سلوكه الشخصى بالوقوف أمام المرآة والقيام بحركات كصبى أبله. ومع ذلك، فكر فى أن الجميع يحافظون أمام المرآة على السلوك نفسه، فكان سخطه عندئذ أعظم، حيال اليقين بأنه هو، حيث الجميع بلهاء، يقدم إتاوة للابتذال العام. 

إنها الثامنة وسبع عشرة دقيقة: كان يعرف أن الإسراع صار ضروريًا إذا كان لا يريد أن يُطرد من الوكالة. من تلك الوكالة التى تحولت، منذ بعض الوقت، إلى مكان انطلاق جنازته اليومية. هاك الصابون، ولدى ملامسته الفرشاة، أثار بياضًا لرغوة ذات زرقة خفيفة أعادته من مخاوفه. كانت تلك هى اللحظة التى تصعد فيها رغوة الصابون فى جسده، عبر شبكة شرايينه وتُسَهِّل له عمل كل الآلية الحيوية المطلوبة. هكذا، بعودته إلى حالته الطبيعية، بدا له أن الوضع صار أكثر راحة للبحث فى دماغه الصابونى عن الكلمة التى أراد أن يقارن بها متجر مابيل. إنها بيلدورا. متجر خردوات مابيل. (بالدورا؟؟)، متجر المؤن أو متجر العقاقير. أو كل شىء معًا: بيندورا؟!

 كان يفور فى قدح الصابون ما يكفى من الرغوة. لكنه واصل فرك الفرشاة بما يشبه الطقس الكهنوتى. كان مشهد الفقاعات الصابونى الصبيانى يمنحه سعادة طفل كبير واضحة، سعادة تصعد إلى قلب قلبه، ثقيلة وقاسية ومسكرة، مثل خمر رخيصة. كان يمكن عندئذ لبذل جهد جديد بحثًا عن المقطع اللفظى الصحيح أن يكون كافيًا كى تنفجر الكلمة همجية بدائية ووحشية، كى تخرج طافية على ذلك الماء السميك، العكر، لذاكرته المتهربة. ولكن، مرة أخرى، كما فى المرات السابقة، لم تكن الأجزاء الصغيرة المبعثرة، المفككة الضائعة المرتبكة، للجهاز نفسه تلتئم بدقة لتتوصل إلى الاكتمال العضوي، وتأهب هو للتخلى إلى الأبد عن الكلمة: بيندورا؟!

 لقد حان الوقت للتخلى عن ذلك البحث غير المجدي، لأن (رفع كلاهما نظره والتقيا بالعيون) أخاه التوءم كان قد بدأ، بالفرشاة المترعة برغوة الصابون، فى تغطية ذقنه بالبرودة البيضاء المائلة إلى الزرقة، تاركًا يده اليسرى تتحرك - وحاكاه هو باليمنى- بنعومة ودقة إلى أن غطى المنطقة الخشنة المطلوبة. انحرف ببصره، وتراءت لعينيه هندسة عقارب الساعة منهمكة فى حلّ معادلة اكتئاب جديدة: الثامنة وثمانى عشرة دقيقة. كان يفعل ذلك ببطء شديد. وهكذا، بنيَّةٍ حازمة فى أن ينتهى بسرعة، أمسك الموسى على شكل قرن ينصاع لحركة إصبعه الصغرى. وقدّر أنه سينهى العمل خلال ثلاث دقائق، رفع ذراعه الأيمن (الأيسر) إلى مستوى أذنه اليمنى (اليسرى)، ملاحظًا فى أثناء ذلك أنه ما من شىء يمكن أن يكون أشد عُسرا من حلاقة الذقن بالطريقة التى تفعل بها ذلك الصورةُ المرتسمة فى المرآة. وكانت قد تفرعت عن هذه الملاحظة سلسلة كاملة من الحسابات المعقدة جدًا بهدف التحقق من سرعة الضوء التى تقوم بها، بطريقة متزامنة تقريبًا، رحلة الذهاب والإياب لتحدث كل حركة تلقائية. ولكن الجمال الذى يسكنه، وبعد صراع مساوٍ تقريبًا للجذر التربيعى للسرعة التى كان بإمكانه تقصيها، تغلب على المنطق الرياضي، واتجه فكر الفنان المستجد داخله نحو حركات الشفرة التى كانت تكتسى خضرة زرقة بيضاء مع اختلاف ضربات الضوء. وبسرعة (وكان الرياضى والجمالى قد تصالحا) نزل بحد الموسى على الخد الأيمن (الأيسر) حتى خط انتصاف الشفة، ولاحظ راضيًا أن الخد الأيسر للصورة بدا نظيفًا وسط حواف الرغوة.

لم يكن قد انتهى بعد من نفض الشفرة من رغوة الصابون، عندما بدأ يصله، من المطبخ، الدخان المثقل برائحة اللحم المطبوخ الحريفة. أحس بالرعشة تحت لسانه، وبتدفق اللعاب السهل والحار الذى ملأ فمه بالمذاق النشط للدهن الساخن. أخيرًا حدث تغير فى متجر مابيل اللعين. بيندورا؟! لا، ليست هذه هى الكلمة. صخب الغدة وسط الصلصلة انفجر فى مسمعه، مع ذكرى مطر كأنه المطارق، وقد كان، بالفعل، مطر الفجر نفسه. يتوجب عليه بالتالى ألا ينسى الحذاء السميك ومعطف المطر. سجق بالصلصة. لا شك فى ذلك.

من بين حواسه كلها ليست هناك واحدة تستحق الشك مثل حاسة الشم! ولكن، بغض النظر عن حواسه الخمس، وحتى لو كانت تلك الحفلة ليست إلا تفاؤلًا من جانب خياشيمه، فإن الحاجة إلى الانتهاء بأسرع ما يمكن، فى تلك اللحظة بالذات، هى الحاجة الأشد إلحاحًا على حواسه الخمس كلها. وبدقة وخفة ورهافة -أبدى لها الرياضى والفنان النواجذ- ارتفع بموسى الحلاقة من الأمام (الخلف) إلى الخلف (الأمام) حتى طرف الفم (الأيمن) الأيسر، بينما يده اليسرى (اليمنى) تمسد الجلد، ميسرة بذلك مرور حافة الشفرة المعدنية من الأمام (الخلف) إلى (الأمام) الخلف، ومن أعلى (أعلى) إلى أسفل، وإنهاء العمل -كلاهما يلهث- بالتزامن.

فى النهاية، وحين كان يقوم بآخر اللمسات الفنية الدقيقة على خده الأيسر بيده اليمنى، تمكَّن من رؤية كوعه على صفحة المرآة. رآه شاذًا، ضخمًا، غريبًا، مجهولًا، ولاحظ بدهشة عارمة أن هناك، فوق المرفق، عينين كبيرتين أيضًا ومجهولتين كذلك، تبحثان قلقتين عن وجهه الفولاذى الآخر. هناك من يحاول خنق أخى. ساعد قوى. دم! 

 فتَّش فى وجهه عن الموضع المقابل؛ لكن إصبعه ظل نظيفًا، ولم تكشف اللمسة عن وجود أى سائل دافئ. تعجب من هذا. لم تكن ثمة جروح فى جلده أيضا، ولا خدش واحد، ولكن هناك، فى المرآة، كان الآخر ينزف نزفًا خفيفًا. وفى أعماقه عادت تتجسد حقيقة الغم بأن مخاوف الليلة الفائتة ستتكرر. وأنه الآن، أمام المرآة، سيشعر مرة أخرى، سيعى ازدواجية الشخصية، سيفهم الارتباك. ولكن الذقن كانت هناك (مدورة: وجهان متماثلان بالملامح ذاتها). هذه الشعيرات فى نقرة الذقن تحتاج إلى موسى مدببة الرأس. ظن أنه لمح سحابة ارتباك تحجب الإيماءة المتعجلة لصورته. أيكون ممكنًا أنه بسبب السرعة الكبيرة التى كان يحلق بها (وهنا سيطر الرياضى على الموقف تمامًا)، لماذا لم تصل سرعة الضوء إلى تغطية المسافة الكافية لتسجل الحركات كلها؟ أيمكن له، فى تعجله، أن يكون قد سبق صورة المرآة وأنهى المهمة قبلها بحركة واحدة؟ أم أنه من الممكن يا ترى -وهنا تمكن الفنان، بعد صراع قصير، من إبعاد الرياضي- أن تكون الصورة قد اكتسبت حياة خاصة بها وقررت - لأنها تعيش فى زمن غير معقد- أن تنتهى ببطء أكبر من شخصها الخارجي؟ فتح صنبور الماء الساخن وهو مرتبك بصورة ظاهرة، وأحس بتصاعد البخار الدافئ والكثيف، بينما كان خبط وجهه بالماء الجديد يملأ أذنيه بضجة حلقية. خشونة المنشفة اللطيفة، المغسولة حديثًا، على البشرة جعلته يتنفس بعمق كحيوان حى. باندورا! هذه هى الكلمة: باندورا!!

نظر إلى المنشفة بدهشة وأغمض عينيه مرتبكًا، بينما كان هناك، فى المرآة، وجه مثل وجهه يتأمله بعينين كبيرتين غبيتين، والوجه مقطوع بخط داكن. فتح عينيه وابتسم (ابتسم). لم يعد هناك ما يعنيه على الإطلاق. الحق إن متجر مابل هو صندوق بندورا. رائحة السجق الساخن فى الصلصة الشهية استدعت حاسة شمه، بمزيد من الإلحاح الآن. وأحس بالرضا -رضا إيجابى- لأن كلبًا كبيرًا، فى أعماق روحه، أخذ يهز ذيله.