الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
نهاية عصر: «هنا لندن»

نهاية عصر: «هنا لندن»

يوم حزين فعلاً كان يوم الجمعة 27 يناير. فبعد نحو 85 سنة من انطلاق إذاعة القسم العربى من «بى. بى. سى» بعبارتها الافتتاحية الرخيمة «هنا لندن».. توقف الإرسال نهائيًا.



والحزن هنا لسببين:

الأول يتعلق بالعدد الكبير من المذيعين والمذيعات والعاملين فى «بى. بى. سى. عربى».. وهم عشرات وربما مئات من مختلف البلدان العربية، الذين فقدوا وظائفهم.

 

والسبب الثانى يعود إلى «النوستالجيا» أو الحنين إلى الماضى، عندما كانت «هنا لندن» محل جذب وإقبال كبير فى مختلف أنحاء الوطن العربى، حيث تذاع الأخبار التى كانت تحجبها إذاعات العرب وقتها.

ولا ننسى أنه حتى زعماء الدول العربية وحكامها كانوا أيضًا أول من يتابع الاستماع للإذاعة العربية التى تنطلق من العاصمة البريطانية..

كان ذلك زمان، أيام أن كانت «بى بى سى» تتمتع بمواصفات لم تعد تمتلكها الآن: المصداقية والجدية والمهنية والدقة.. والأصوات الرخيمة المتمكنة التى يتم انتقاؤها بدقة... والبرامج التى تقدم بفنية عالية ونوع من الحيادية الغربية، التى تثير شجن المستمع العربى.

 

 

 

«الأسلوب المميز»

لكن لماذا كانت إذاعة «هنا لندن» تتمتع بكل هذا الإقبال والاحترام، حتى إننا كدنا ننسى أنها تمثل دولة الاحتلال والاستعمار البريطانى لكثير من بلداننا العربية وبلدان أفريقيا وآسيا؟

السبب ببساطة يعود إلى «الأسلوب المميز» الذى نشأت على أساسه هيئة الإذاعة البريطانية ككل، فقد رفض الإنجليز أن تكون إذاعتهم نسخة مكررة من إذاعات هتلر الدعائية الصارخة التى تعتمد الكذب وتمجيد النازية نهجًا مقدسًا، وتؤكد تفوّق العنصر الأبيض.. ورفض الإنجليز أن تكون إذاعتهم صورة مكررة من إذاعة الاتحاد السوفييتى زمن ستالين، حيث تتجسد الديكتاتورية والشيوعية والطغيان والتسلط.

اختار الإنجليز أن تقوم إذاعتهم كهيئة مستقلة لا تتبع الحكومة، ويتولى البرلمان متابعة نشاطها ومراقبة عملها دون تدخل مباشر بأى شكل، وهذا ما هيأ لـ «بى. بى. سى» فرصة نادرة لأن تكون أقوى إذاعة فى العالم، بالصراحة والتوازن والحرية والاستقلالية والمهنية.

لا إعلانات

ولأنها نشأت كمؤسسة مستقلة اعتمدت فى دخلها على اشتراكات المستمعين السنوية لتغطية نفقاتها.. ورفضت نشر الإعلانات، حتى تحافظ على هذه الاستقلالية وهذه التوليفة المبتكرة للتحرير الصحفى الأقرب ما يكون إلى الحقيقة، وطبعًا تعرضت «بى. بى. سى» لمحاولات لم تنته من جانب حكومات بريطانيا المختلفة التى قادها حزب المحافظين، وأيضًا من حكومات حزب العمال، للسيطرة عليها والقضاء على استقلاليتها التى مكنتها فى أوقات كثيرة من معارضة مواقف الحكومة البريطانية.. أو تقديم وجهات النظر المختلفة المعارضة لقرارات الحكومة القائمة، حاربها إيدن كما حاربتها تاتشر..حاربها تشرشل كما حاربها بلير.

نشأة «هنا لندن»

وعندما قررت الحكومة البريطانية إنشاء شبكة من الإذاعات الموجهة لدول العالم بلغاتها ضمن صراع القوى الدولى، خلال عام 1938 بتمويل من وزارة المستعمرات وقتها، لم تجد سوى الإذاعة المستقلة عن الحكومة لتوكل إليها هذه المهمة، ومن هنا نشأ «القسم العربى» أكبر الإذاعات البريطانية الموجهة.. واستمع العرب إلى هتاف «هنا لندن» وتابعوه باهتمام لأن الإذاعة العربية من لندن كانت تذيع عليهم.

إذن.. فماذا حدث؟

لماذا فقدت هذه الإذاعة إقبال العرب عليها؟

الأسباب تتعدد، وأولها أن بريطانيا الآن فقدت مكانتها الدولية القديمة كإمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، بعد استقلال مستعمراتها، وخفوت صوتها الدولى، وفقدان الشخصيات السياسية البارزة، حيث حل محلها أشخاص تعتبر المناصب التى يحتلونها، أكبر منهم.

وأصبحت محاولات الحكومات المتعددة للتدخل فى عمل «بى. بى. سى» تعرقل أى تقدم، وأصبح مدير الهيئة يفكر بعقلية تخريفية هى أن المستقبل للإنترنت وليس الإذاعة والتليفزيون؟!

هذا الانهيار على مدى العقود الأخيرة انعكس بالضرورة على حال «بى. بى. سى عربى» فلم تعد هناك مصداقية ولم تعد هناك جدية فى اختيار الكفاءات ولم تعد هناك ميزانيات كافية.. وهكذا تركها مهنيون كثيرون إلى إذاعات وتليفزيونات أخرى.. وأصبح الفشل حتميًا، والإغلاق طبيعيًا.