السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

رسالتان إلى ميلينا

يبدو أنها الرئة!.. طوال النهار وأنا أقلب هذه العبارة فى رأسى، ولم أستطع التفكير فى أى شىء آخر، لم أستطع أن أفكر حتى فى أن هناك نذيرًا كان قد أنذرنى حقًا بهذه العلة، ولعل المرض، وهذا ما نأمله – وتشير تلميحاتك إلى هذا الأمر- يبدو فى حالتك فى صورة اشتباه لا صحة له، إلا أن مرض الرئة الحقيقى (ونصف سكان أوروبا الغربية يعانون بشكل أو بآخر من الأمراض الصدرية) هذا المرض الذى عرفته من خلال خبرتى الخاصة التى استمرت ثلاثة أعوام، لعله يكون قد أفادنى بقدر ما آذانى.



بدأ لى الأمر منذ حوالى ثلاث سنوات، فى منتصف ليلة ما بنزيف، صحوت مملوءًا بالفزع بسببه، كما يحدث للمرء عندما يواجه شيئًا جديدًا للمرة الأولى، نهضت (بدلًا من أن أكمل رقادى ممددًا كما تعلمت أن أفعل فيما بعد حسب أوامر الأطباء.).. وبالطبع كنت فى غاية الاضطراب.. مشيت نحو النافذة، انحنيت أتطلع إلى العالم خارجها.. وقصدت حوض الغسيل.. وتجوّلت قليلًا فى أرجاء الغرفة.. وجلست فوق السرير. كان النزيف مستمرًا بلا توقف، إلا أن ذلك لم يسمح للبؤس من الاقتراب منى.. والسبب هو أننى كنت شيئًا فشيئًا أعلم بصورة لا تقبل الجدال أننى سوف أنام، وذلك بعد أن مضت ثلاث سنوات أو أربع هجرنى فيها النوم.

.. للمرة الأولى سوف أنام، بعد أن يتوقف النزيف.. وبالفعل قد توقف (كأنه لم يتكرر منذ ذلك الحين.) وسبحت فى النوم ما تبقى من الليل.

وعندما دخلت الخادمة (وكان ذلك فى شقة بالقرب من قصر (شوينبورن) صباحًا)، وهى بنت لطيفة طيبة جدًا هى نكران الذات بنفسه أثناء تعاملها مع الآخرين.. لكنها أيضًا كانت بنتًا واقعية.. عندما رأت الدم قالت:

- «سيدى.. أعتقد أنك لن تعيش طويلًا.!!»

لكننى كنت أتحسن.. أحسست بهذا على غير العادة.. وذهبت إلى عملى.. وعند الظهيرة ذهبت إلى أقرب طبيب.. أما بقية القصة فليس لها أهمية تذكر.

لقد قصدت فقط أن أقول : «إن مرضك ليس هو ما أقلقنى (خاصة أننى أقاطع نفسى بصفة مستمرة وذلك فى سبيل أن أعالج ذاكرتى، مكتشفًا الانتعاش الذى يمكن أن تشعر به وسط الحقول، تحت كل هذه الرقة، لأقرر بينى وبين نفسى قائلًا: لا، إنك لست بالعليل، إنه نذير بالمرض وليس هو المرض.. ليس مرضًا بالرئة)..

وعليه فلم يكن هذا هو ما يرعبنى.. ما يفزعنى حقًا هو التفكير فيما لابد سبق ذلك الاضطراب.. فى تلك اللحظة كدت أتخلى عن كل شىء فهمته من رسالتك، وأتجاهل كل شىء من نوع: لا يوجد جحيم ألعن-شاى وتفاح- كل يوم من الساعة الثانية حتى الساعة الثامنة.. وكل هذه الأمور لم أتمكن من فهمها.. ويبدو أنه لا يمكن تفسيرها إلا حين تقال باللسان.. وبالتالى فسوف أتجاهل هذه الأمور (مع أننى سأتجاهلها فقط فى رسالتى هذه، ذلك أن المرء لا يمكنه أن ينساها!).

سوف أفكر فقط فى التفسير الذى أهدانى إليه عقلى الآن، فى حالة علتى الشديدة، والذى يمكن تأويله بتفسيرات كثيرة. إن ما حدث هو أن العقل لم يكن باستطاعته أن يتحمل المزيد من الهموم والتعاسة ونير الأعباء فوق كتفيه.

إن عقلى يصرخ قائلًا: «كفى.. لقد عجزت عن تحمُّل ذلك.. لكن يجب أن يوجد من يواصل الاهتمام بسلامة كل شىء.. ويجب عليه أيضًا أن يخلّصنى من بعض الأعباء فوقى.. وسوف تظل الأمور تسير فى مجراها الطبيعى لبعض الوقت!»

ثم تتحدث الرئة، مع أنه قد لا يكون لديها الكثير مما يمكنها أن تفقده، مهما كانت الحال التى هى عليها.. لعلها تكون محاولات مثيرة للهلع.. مناقشات تدور بين العقل والرئة دون أن أعلم أنا عن أمرها شيئًا! وما الذى تنوين عمله الآن؟

قد يبدو أمامك أنه لم يكن سوى أمر عارض. لو أنك أحطت نفسك ببعض العناية المتقنة.. وحاجتك إلى شىء من الرعاية، أمر لابد أن يدركه أى شخص مغرم بك. وعليه فإن كل شىء آخر يجب أن يوضع فى المرتبة الثانية.. وهل يمكن أيضًا ألا يكون ثمة شىء من العزاء لك فى أى شىء آخر؟.. كما قلت من قبل: لا.. لست فى حالة من حالات المزاح، فضلًا عن أننى لا أحس مطلقًا بروح الدعابة، ولن أكون كذلك حتى تكاتبينى وتخبرينى كيف ستحاولين إعادة تنظيم حياتك على نحو معقول!.. بشكل يوفر لك المزيد من الصحة الجيدة.

• لماذا لا تغادرين فيينا لفترة قصيرة؟..

هذا السؤال أُلح فى طلبه منك بعد رسالتك الأخيرة، فأنا أفهم الآن لماذا لا يمكنك مغادرة فيينا! إلا أن هناك ـ على الرغم من ذلك ـ أماكن أخرى مُدهشة محببة إلى القلب بالقرب من فيينا، وكثير من الفرص لتوفير الرعاية لك. لن أكتب عن أى شىء آخر بقية اليوم.. إذ أنه لا شىء له أهمية تذكر تدفعنى لكى أتحدث عنه.. سأكتب عن كل شىء آخر غدًا.

أشكرك على المخطوط الذى هزنى من الأعماق، وأشعرنى كذلك بالخجل.. وبالحزن.. وبالسرور..كلا.. هناك شىء آخر قد تبقى لأقوله لك: لو أضاعت عليك الترجمة لحظة واحدة من لحظات نومك، فسوف تستحيل هذه اللحظة إلى لعنة تطاردنى فى كل مكان.. ففى يوم الحساب لن يكون هناك مجال لدراسة التفاصيل لأنه –ببساطة- سوف يكون يوم إقرار الحيثيات : لقد حرمها من النوم.

عن هذا سوف تثبت إدانتى.

وسيكون هذا هو القصاص المتين العادل.

وعلى هذا فإننى أحمى نفسى، عندما أطلب إليك ألا تفعلى شيئًا من هذا بعد الآن.

المخلص لك

(فرانتس كافكا)  

ميدان أونترميه

بنسيون (أوتوبورج)

سيدتى العزيزة (ميلينا)

الآن فقط انقطع المطر الذى ظل يسقط ليومين وليلة، مع أن انقطاعه قد لا يستمر سوى لحظة، إلا أنه بالرغم من ذلك قد حدث وهو حدث يستحق أن يحتفل به الإنسان، وهذا هو ما أفعله بالكتابة إليك.

وحتى المطر إن كان محتملًا فى الحقيقة، فالمرء – فى نهاية الأمر- غريب هنا. وإن يكن مجرد غريب على نحو أو آخر، إلا أن ذلك يثلج صدرى.. أنت كذلك – لو صح تعبيرى (فى لقاء قصير، منعزل، صامت أو يكاد أن يكون، ربما لا يكون تسرّبه من الوجدان محض صدفة.) أنت كذلك تمارسين نوعًا من الاستمتاع بالغربة فى فيينا، مع أنك قد تفقدين ذلك الاستمتاع فيما بعد تحت تأثير الحالات السائدة، لكن.. هل تمارسين أنت أيضًا متعة الشعور بالغربة إلى هذه الدرجة؟ (هذه المتعة التى قد تكون مجرد مصادفة، مجرد دلالة سيئة وقد لا تحدث!)

إننى أعيش هنا على خير ما يرام، ولا يطيق الجسد الفانى عناية أكثر، وتُطل شرفة غرفتى على حديقة مسوَّرة، فيها تنتشى الشجيرات المزهرة (إن النباتات هنا غريبة حقًا، فالزهور تتفتح ببطء، أمام شرفتى، فى جو مثل ذلك الذى يكون فى (براج)، تتجمد فيه بالفعل برك الماء.). وتتعرّض شرفة الغرفة أيضًا لأشعة الشمس، أو بمعنى أصح للسماء التى تحجبها السحب للأبد! كما هو الحال منذ ما يقرب من الأسبوع. فى الحجرة تزورنى الطيور والسحالى وأنواع مختلفة من الكائنات، تأتى إليّ أزواجًا..أزواجًا: إننى أتوق بشدة فى أن تكونى هنا فى (ميران)، لقد كتبت لى أخيرًا عن عدم قدرتك على الكلمة. فى هذه الكلمة تتجاور الصورة والمعنى إلى حد بعيد. وفى (ميران) قد تخف وطأتها نوعًا ما.

مع أرق تحياتى

المخلص ف. كافكا