الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

بنت الجيران

لم تكن من عادات «مُنَى» أن تقف فى بلكونة بيتهم، ولا كان من عاداتها أن تستمر فى ذلك فترة طويلة. لكنها خالفت عاداتها منذ نحو أسبوعين.. فقط بعدما سكن أحد الشبان الشقة الجديدة المواجهة لشقتهم. وقد لفت نظرها وسامته الشديدة، وابتسامته البشوشة التى لم تفارقه منذ رأته أول مرة.



استمر نحو أسبوع فى «توضيب» الشقة. غيّر ألوان الحوائط. وأحضر الأثاث على سيارة كبيرة. ساعده فى نقلها بعض من صبية وشبان الشارع. وبعد ذلك بيومين، استقبل أهله فيها.. رأتهم وأحسّت أنهم «ناس طيبين». وبينها وبين نفسها، تمنّت لو كانت واحدة منهم. أو أن تصبح واحدة منهم.

وكانت أمّها تلحظ التغيير، فتبتسم بينها وبين نفسها. لم يكن يخفى عليها شىء من ابنتها. وكانت تعلم أن حياتها مقفولة. لا صاحبة فى حياتها، ولا قريبة تزورها. منذ تخرّجت فى الجامعة لزمت بيتها. ولم يكن لها من التجارب الرومانسية حظ؛ فقد كانت شديدة الجدّيّة فى تعاملاتها، وحذرة لأقصى الحدود، وتعلم أنها ستُحَدّثها حين تتطور الأمور، وتبلغ حدًا يستوجب تدخُّلها.

وكانت بين «منى» وأمّها نظرات ماكرة، تعلم منها متى يكون ذلك الشاب واقفًا فى بلكونته، ومتى يخرج فى الصباح، ومتى يعود؟. وانتظرت «منى» من أمّها أن تعلم منها بطريقتها الخاصة المعلومات التى تنتظرها عن ذلك الشاب. تلك الطريقة التى تميز أى امرأة مصرية عن غيرها فى العالم.

حتى كان يومًا..

دخلت فيه الأم متعَبة للغاية، وهى تحمل الأكياس التى عادت بها من السوق. وكان الجو شديد الحرارة. ارتمت على الكرسى فى تعب. وناولتها «منى» كوبًا من الماء المثلج. شربته دفعة واحدة. ثم فجأة قالت فى حدة: «هل تعلمين أن ذلك الشاب قد خدعنا طوال الوقت؟!»..

فاتسعت عينا «منى» ذعرًا، وقالت مختنقة: «أحمد؟!». وكانت قد عرفت اسمه منذ فترة، فردت الأم فى حدة، وكأنما تلوم منى: «نعم. سى زفت. إنه خاطب. وخطيبته أهلها معزومين عندهم الليلة».

كانت «منى» شبه منهارة، فقالت وهى تكاد أن تبكى: «هل أنت متأكدة يا أمى؟!».

فاندفعت الأم تقول صائحة: «لقد عرفت من جارتنا أم سهير. إنها فى الشقة التى تعلوه. وقد تعرّفت عليه وعلى أسرته. وعرفت عنهم كل شىء».

فارادت «منى» أن تجادل، لكنها لم تستطع، فأنفلت دمعُها، وجرت نحو غرفتها. وبعدما أغلقت عليها الباب بالمفتاح، ظلت تبكى فترة طويلة. حتى أحمرت عيناها. فى البداية كانت تبكى بصوت مكتوم، غير أنه انفلت منها. فظلت تبكى بصوت عالٍ يشبه النحيب.

لقد لاحظت أنه أيضًا بات يتطلع إليها كلما رآها فى البلكونة. وبات يبادلها النظرات الحانية. وتُحسّ أنه يريد أن يقول لها شيئًا. ولكنها لم تكن تخرج من بيتها إلا قليلاً..

هل يمكن أنه كان يخدعها طوال الوقت؟!

ثم ما لبث حزنها أن تحوّل إلى غضب. غضب شديد. حتى فكرت أن تقوم، وتتناول أحجارًا تقذفه بها حين يقف فى بلكونته؛ ليمارس عليها لعبة الخداع. الذى أصبح من المعلوم حجم إتقانه لها!

ولم تخرج من غرفتها حتى العِشاء.. حتى سمعت صوت أمّها يقول فى رجاء: « تعالى يا ابنتى ساعدينى فى تنظيف الموائد وغسل الصحون. لقد أنهَدّ حيلى فى تحضير الطعام لأبيك وأخوتك الصغار».

فمسحت دمعَها. ونهضت. وحين فتحت الباب وجدت أمّها، فارتمت فى أحضانها باكية. حزينة.

ومرت أيام لم تعد تدخل فيها إلى البلكونة؛ كى لا تراه. باتت شاردة الذهن، على نحو محزن. تفكر فى الخدعة التى تعرضت لها، وتشعر بالغيظ والغضب. وتحاول أن تنسى، فلا تستطيع. وبين نفسها تأكدت أن كل هذا الغضب والحزن باعثه الأول كان حبًا حقيقيًا له. حبًا صادقًا للغاية، فإنها لم تكن قد رأت منه ألا ما يَسرّ. حتى علمت حقيقته القبيحة. وشخصيته اللئيمة!

ونزلت ذات عصر لشراء بعض الحاجات من السوق. فقد كانت أمّها فى حالة من التعب لم تسمح لها بذلك. حين لمحته يمشى فى هدوء كعادته. ولمحها أيضًا، فتغيرت نظراته. لا. لن تضعف له مجددًا. ذلك الكذاب! ومشت. وأحسّت أنه يمشى خلفها.

ثم سمعت صوته يقول، فى صوت شبيه بالهمس: «آنسة منى!». لم ترد؛ بل واصلت سَيرَها. ولكن، بخطوات بطيئة! كرّر نداءه لها. توقفت. اللعنة على الضعف. والخجل. تقدّم نحوها، وقال فى صوت حزين: «هل صدر منّى نحوكم شىء؟».

نظرت له فى غيظ، وقالت: «لا. لم يصدر شىء. إننا حتى لا نعرفك، ولا نعرف أصلك». وشعرت أن الكلمة الأخيرة جارحة، لكن لا يهم. فالحزن الذى عاشته طيلة الأيام الأخيرة ليس عاديًا أبدًا. ودققت النظر إليه. يا له من خبيث!

قال: «إذا كان لم يصدر منّى شىء؛ فلما لم أعد أحسّ منكم مثل ما كنت أحسّ؟!»، فردت فى حدّة: «وما الذى كنت تحسّه؟. هل صدر من أحد فى بيتنا شىء، يجبرك على قول ما قلت؟»..

ابتسم فجأة، وقال: «لِمَ كل هذا الحدّة؟!»، أحسّت بالضعف لابتسامته. فصمتت برهة، ثم قالت: «أستاذ أحمد؛ نحن فى منتصف الشارع، وما تفعله لا يليق، وما كنت أحسب أبدًا أن تبلغ الوقاحة بأحد مثل ما بلغت بك».

فردّ فى حرج: «أشكرك».

أحسّت بالخجل. لكنها واصلت: «لا ينبغى لك أن تطارد جارة لك بهذه الطريقة أبـ...»، فقاطعها فى لهجة بدت لها صادقة: «أنا لا أطاردك. وليس من أخلاقى أن أفعل ذلك أبدًا».

قالت: «أخلاقك! وهل لمثلك أخلاق؟»، فصمت. وأنطلقت: «من الأنسب لك أن تكف عن مطاردتك وملاحقتك بنظراتك وكلامك».

ثم قالت فى تهكم: «وفّر كل ذلك لخطيبتك».

وهنا انفجر أحمد ضاحكًا، حتى بدت كل أسنانه. ولم يتمالك نفسَه من الضحك فترة طويلة، فأرادت أن تمشى غاضبة، لكنه استمهلها: «أرجوك.. مَن قال لك أننى خاطب؟!». لم ترد. قال: «أقسم لك أن هذا الخبر غير صحيح بالمَرّة. وأنه ليس فى حياتى فتاة. وأننى لست من النوع الذى صوّره لك خيالك».

نظرت له فى قوة. كرّر قَسَمَه من جديد. ثم قال فى لهجة جميلة: «إننى ما كنت لأتخذ هذه الخطوة، وهى أن أكلمك فى وسط الطريق؛ إلا لأننى شعرت نحوك بإحساس صادق. وإننى استشعرت منك تغيرًا نحوى. لم أفهم سببه. لكننى الآن فهمت»..

ثم عاد لضحكته من جديد. ورغمًا عنها ابتسمت «منى»..

كانت الأم قد ربطت رأسَها بالفوطة المبلولة بالماء المثلج. وكانت قطرات الماء تنزل على جبهتها، فتمسحها لها «منى» فى رفق. وكانت «منى» مبتسمة ابتسامتها العذبة. التى ملأت وجهها الجميل، بينما أمّها تقول، فى غضب شديد: «منها لله أم سهير. منها لله، كانت تريد أن تضيّع عليك عريسًا مناسبًا». فقالت «منى»، فى حرارة: «كانت تريده لـ سهير يا ماما».

فقالت الأم، فى توعُّد: «صبرها عليّ بعدما أقوم من الوعكة دى. لأفرج عليها الشارع والناس».

فردت «منى» فى حماس: «بعد أن تقومى من هذه الوعكة، ستقابلين وأبى أحمد وأسرته الذين سيزوروننا؛ لطلب يدى». وقالت الجملة الأخيرة، فى خجل شديد. فضحكت الأم، وعانقتها فى عطف. وحب..

وتمّت الخطبة فعلاً بعدما قامت الأم من وعكتها، وزارت أسرة أحمد شقة أسرة «منى». وتم التعارف على صورة أكبر. واتفقا على كل شىء، بين نظرات «منى» و«أحمد» التى تتبادل الحب والمودة.

وعلت الزغاريد من الفرحة..

وكانت أكثر مَن أطلق الزغاريد هى أم سهير، كأنما تكفّر عن ذنبها لما كادت أن تفعله بالعاشقَيْن المتحابَّيْن. لكنها لم تسلم أبدًا، من نظرات أم مُنَى التى تتوعدها بين الحين والآخر.