الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

دُعــابــة

سطع النور فى أحد أيام الشتاء شديدة البرد، صقيعٌ حاد قارس، وكانت ندف ثلجية كقطع فضية تغطى الخصلات المتحدرة على جبين (نادينكا)، وعلى ذقنها وأسفل شفتها العليا. كانت تتعلَّق بذراعى ونحن واقفان فوق ربوةٍ عالية.



ومن مكاننا حتى قاع الأرض امتد سهلٌ انعكستْ عليه الشمسُ بوضوحٍ وكأنه مرآة صافية. وإلى جانبنا كانت مزلجةٌ عليها قماشٌ أحمر اللون فاتح. وكنت أرجوها: «هيا بنا لنتزحلق للأسفل يا نادينكا. مرةً واحدة فقط. أؤكد لكِ أنه لن يحدث أى مكروه».

 

ولكن (نادينكا) كانت تُصر على موقفها، كانت خائفة. إذ إن المنحدر الذى يبدأ من تحت حذائها الطويل إلى أسفل التلة الثلجية بدا مريعًا لها يثير الرهبة كأنه هاوية سحيقة إلى بحر الظلمات. لاح عليها التردد وخانتها ثقتها برأيها وحبست أنفاسها وهى تنظر إلى الأسفل تحاول جمع أطراف شجاعتها، بعد أن اكتفيتُ بأن اقترحتُ عليها امتطاء المزلجة، ولكن ماذا لو كانت هناك مخاطرة بالسقوط إلى الهاوية والغوص فى الظلام؟ كانت ستموت، كانت ولا ريب ستُجن.

قلتُ لها فى لهجة أقرب إلى التوسُّل: «من أجل خاطرى، لا تخافى. لا يجدر بك الخوف، فهو مرضٌ للنفس ووهم لعين».

وفى النهاية استسلمت (نادينكا)، وأخيرًا من أدركتُ قسمات وجهها أنها استسلمت وهى تختنق فزعًا. أجلستها على المزلجة، وهى شاحبة مرتعدة الأوصال، ثم طوّقتها بذراعى، ودفعتها وأنا معها إلى أسفل بحر الظلمات. وانطلقت المزلجة كقذيفة مدفع، وضرب تيار الهواء المندفع بفعل تحليقنا فى وجوهنا بكل عنفوانه وصخبه، ثم أطلق صفيره الحاد المدوِّى فى آذاننا، وثقب أجسادنا كطلقات الرصاص، ثم اشتدت وخزاته فى وهج هديره الهائج وكأنه يحاول أن يقتلع رأسينا من على أكتافنا. كنا بالكاد نتنفس تحت ضغط الريح. بدا الأمر وكأن عفريتا من قاع الجحيم نفسه أمسك بنا بمخلبيه وأخذ يسحبنا إلى سقر تتبعه زمجرته. كل ما كان يحيط بنا ذاب وتلاشى فى خطٍ رفيع طويل حاد يتسارع بشدة. لحظة أخرى وبدا أننا لا بد فانيان.

قلتُ بصوتٍ هامس لا يناسب الموقف: «أحبكِ يا ناديا!»

بدأت المزلجة تتباطأ فى حركتها رويدا رويدا، وخَفتَ زعيق الريح وهدير الهواء، وبدأ التنفس يعود إلى معدله الطبيعى، وأخيرًا وصلنا إلى الأسفل. كانت (نادينكا) شاحبة كالأشباح، ترتجف كورقة وهى أقرب للموت منها إلى الحياة. كانت عليلة لا تكاد تتنفس، فساعدتها على النهوض. قالت وهى تنظرُ إليّ بعينين ملؤهما الرعب: «لا شيء سيجعلنى أكرر ذلك. لا شيء فى هذا العالم كله. كدتُ أموت». 

بعد دقائق استعادت اتزانها ونظرت إليّ غير فاهمة، هل نطقتُ فعلا بتلك الكلمات الثلاث، أو أنها تخيلتْ ذلك فى غمرة الهيجان الغاضب لتيار الريح؟ جلستُ بجانبها أدخّن وأنظر بإمعانٍ فى قفازى. ثم إنها تأبطتْ ذراعى وقضينا وقتا طويلا نتمشى قرب الربوة الثلجية. من الواضح أن المعضلةالنفسية أرهقتها. هل سَمِعَتْ تلك الكلمات أم لا؟ نعم أم لا؟ نعم أم لا؟ كانت مسألة كبرياء أو شرف، مسألة حياة أو موت.. كانت مسألة فى غاية الأهمية، بل أهم مسألة فى الكون كله. وطفقت (نادينكا) تنظرُ فى وجهى بنفاد صبرٍ وغم نظرة حادة متشككة. كانت تجيبُ بعشوائية وبدون ترتيب، تنتظر ما إذا كنت سأتكلم أم لا. يا الله، يا لهذا اللعب بالمشاعر على هذا الوجه الجميل! لاحظتُ أنها كانت تخوض معركة عظيمة داخل نفسها، وأنها كانت تريد قول شىء ما، تريد أن تسأل سؤالا ما، ولكنها لم تجد التعبير المناسب. على أنها اعترفت فى قرار نفسها أنها شَعَرَتْ بأن النشوة تبعث فى أوصالها حَيرةً وفرقًا وارتباكًا. وقالت من دون أن تنظر إليّ: «عندى فكرة» فسألتها: «ما هى؟» وأجابت بلهجة عجيبة «هيا بنا.. نتزحلق للأسفل مرة أخرى».

عانينا فى تسلق الربة الثلجية من الدرجات مرة أخرى. أجلستُ (نادينكا)، وهى ممتقعة العينين شاحبة الوجه مرتعدة الأوصال على المزلجة. مرةً أخرى طرنا نحو الهاوية المخيفة، ومرة أخرى قابلنا هدير الريح وطنين الهواء فى أعماق الهاوية، ومرة أخرى عندما كان انحدارنا فى أصخب لحظاته وأسرعها، قلتُ بصوتٍ هامس خفيض كالفحيح: «أحبكِ يا ناديا».

عندما توقفت المزلجة، ألقتْ (نادينكا) بصرها على الربوة التى انزلقنا عليها، ثم تأملتنى بنظرة طويلة متفرِّسة، وأرهفت السمع لصوتى الذى لم يكن فيه وزن أنملة من اهتمام أو حس. وكلّ جسمها، كل جزء منه، كل مثقال ذرة فيه، حتى الفراء والقبعة عليها أصدر أقصى علامات التعجب، وعلى وجهها أسئلة محيّرة مرتبكة: «ما معنى هذا؟ من نطق بتلك الكلمات؟ هل قالها، أو أننى فقط تخيلتها؟» أقلقها ذلك الشكُ وأفقدها الهاجس صبرها. لم تجب الفتاة المسكينة على أسئلتى، وعبست، وبلغت عبراتها طرف جفنيها. فسألتها: «ألم يكن من الأفضل لو عدنا إلى الدار؟» فأجابت بحرارة: «أنا..أنا أحب هذا التزحلق. هلا تزحلقنا مرة أخرى؟»

لقد راق لها التزحلق وركوب الهاوية، ولكنها عندما ركبت على المزلجة، كما فى المرتين السابقتين، كانت شاحبة مرتعدة الأوصال بالكاد تتنفس من فرط الهلع. وعندما تزحلقنا للمرة الثالثة، لاحظتُ أنها كانت تحدق فى وجهى وتراقب شفتيّ. ولكننى وضعتُ منديلى على شفتى، وسعلتُ، وعندما وصلنا إلى منتصف التلة استطعتُ أن أهمس «أحبكِ يا ناديا».

وبقت الأحجية كما هى. كانت (نادينكا) صامتة، تتفكر فى شيءٍ ما. رافقتها إلى البيت، وحاولتْ أن تمشى ببطء، تخفف سرعتها وتنتظر ما إذا كنت سأقول لها تلك الكلمات أم لا، ولاحظتُ كيف أن روحها كانت تعانى، وكيف كانت تجتهد كى لا تقول لنفسها: «لا يمكن أن تكون الريح قد قالتها. ولا أريد أن تكون الريح هى التى قالتها».

فى الصباح التالى تركتْ لى رسالة جاء فيها: «إن كنت ذاهبًا للتزحلق اليوم، خذنى معك. ن».

ومنذئذٍ بدأتُ أذهب كل يومٍ للتزحلق مع (نادينكا)، وبينما نحن نطير بالمزلجة، كنتُ أقول فى كل مرة بصوتٍ خفيض هامس ناعم نفس الكلمات: «أحبكِ يا ناديا.» وسرعان ما اعتادت (نادينكا) على تلك العبارة وأدمنتها كالخمر المسكر أو المخدر القوى الذى لا مهرب من أثره. لم تستطع العيش من دونها. نعم كان التزحلق فوق الربوة الثلجية يرعبها كما كان فى السابق، ولكن الخوف والخطر أضفيا سحرًا غريبًا على كلمات الحب. تلك الكلمات كما كانت دومًا، لغزًا يحير النفس ويعذبها بنشوة حرَّاقة. وبقىَ المشتبهان كما هما، أنا والريح. لم تكن تعرف أيا منا كان يمارس الحب معها، ولكنها بالتأكيد بدأت تفقد الاهتمام بذلك. ما دام الخمرُ مُعتقا مُسكرًا كلُ الكؤوسِ سواءُ. وحدث يومًا أن ذهبتُ إلى ساحة التزلج وحيدًا، وبينما أنا بين الجموعِ رأيتُ (نادينكا) تصعد الربوة الثلجية وتبحث عنى، ثم نزلتْ من على الدرجات فى خفر وحياء. كانت تخافُ أن تذهب بمفردها. ياالله كم كانت تخاف! كانت بيضاء كالثلج، ترتعد، وكأنها تقود نفسها إلى مقصلتها. ولكنها ذهبت، ذهبت دون أن تنظر وراءها، بإصرار. من المؤكد أنها قررت وضع الأمر فى محك الاختبار أخيرًا. هل كانت تلك الكلمات الجميلة ستُسمع من دون وجودى؟ رأيتها شاحبة، انفرجت شفتاها بفزع، وركبت على المزلجة، فأغمضتْ عينيها لتقول للأرضِ وداعًا إلى الأبد. تزحلقت.. لا أعرف ما إذا كانت (نادينكا) سمعت تلك الكلمات أم لا. رأيتها فقط تنهض من على المزلجة باهتة المنظر شديدة الإعياء. وكان من السهل الجزم بالنظر إلى وجهها أنها لم تكن متأكدة ما إذا سمعت شيئا أم لا. لقد حرمها فزعُها وهى تطير إلى الأسفل حاسة السمع، وتمييز الأصوات، وإدراك ماهية كل شىء.

وجاء شهرُ مارس فى النهاية، ومعه أتى الربيع بألوانه الزاهية. أظلمت ربوتنا الثلجية وفقدت بهاءها، وذابت. وهكذا توقَّفنا عن التزحلق. لم يكن هناك مكانٌ آخر تستطيع فيه المسكينة (نادينكا) سماع تلك الكلمات، وبالتأكيد لا شخص آخر يقولها، حيث لم تكن هناك ريح، وكنتُ أنا ذاهبا إلى (بطرسبورج) لمدة طويلة، وربما للأبد. وحدث قبل يومين من رحيلى أن كنتُ جالسًا عند الغروب فى الحديقة الصغيرة التى يفصلها عن فناء منزل (نادينكا) سورٌ عالٍ عليه مسامير. كان الجو ما يزال باردًا، وبعض الثلج ركامٌ هناك قرب كومة السماد، وبدت الأشجار ميتة، ولكن عبق الربيع كان منتشرًا، والغربان تنعق وهى تأوى إلى منامتها. صعدتُ على السور ووقفتُ هناك طويلا وأنا أختلس النظر من خلال فتحة. رأيتُ (نادينكا) تخرج إلى الفناء وتحدق فى السماء بعينين ملؤهما الشوق والحسرة المؤلمة.

كانت رياح الربيع تهب فى وجهها الباهت الكئيب. ذكّرَتها بالريحِ التى كانت تهبّ علينا على الربوة الثلجية عندما سَمِعَتْ تلك الكلمات ، اكفهر وجهها بالوجع وصارت ملامحه حزينة لأقصى درجة، وانحدرت دمعة على وجنتها، ورفعت الطفلة المسكينة ذراعيها وكأنها تتوسل إلى الرياح أن تجلب لها تلك الكلمات مرة أخرى. وفى انتظار الرياح قلت بصوتٍ هامس: «أحبكِ يا ناديا».

وجاء الفرج. يا لذاكَ التغير الذى حدث لـ(نادينكا)! اغرورقت عيناها بالدموع، ثم ملأت وجهها ابتسامة عريضة، فبدت مرحة وسعيدة وجميلة، ورفعت ذراعيها لتستقبل الرياح. بينما عدتُ أدراجى لأحزم أمتعتى.

كان هذا منذ زمنٍ بعيد. (نادينكا) الآن متزوجة. لقد تزوجت -ولا يهم ما إذا كان ذلك باختيارها أم لا- ولديها الآن ثلاثة أطفال. ولم تنسَ أننا ذهبنا ذات مرة للتزحلق، وأن الرياح حملت لها الكلمات «أحبكِ يا نادينكا». بالنسبة لها، كانت هذه هى أكثر اللحظات المؤثرة والجميلة فى حياتها. ولكن الآن وأنا أكبر سنًا أعجز عن أفهم لماذا نطقتُ بتلك الكلمات، وماذا كان هدفى من تلك المزحة.