الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

إيمــا

 فى الرابع عشر من يناير 1922، عندما عادت إيما ثونث من مصنع الأقمشة «طربوك ولوفينتال»، وجدت فى قاع الدهليز رسالة موسومة بطابع البرازيل علمت من خلالها أن أباها قد انتقل إلى الرفيق الأعلى. خدعها فى النظرة الأولى الطابع البريدى والغلاف، ثم أقلقها الخط المجهول فيما بعد. تسعة أو عشرة أسطر ملطخة. أرادت أن تترع الورقة بسرعة البرق وقرأت إيما ما يفيد بأن السيد ماير قد ابتلع جرعة فيرونال قوية المفعول وأنه توفى على إثرها فى اليوم الثالث من الشهر الجارى بمستشفى باكى.



 

وقَّع الخبر رفيق والدها فى البنسيون، وهو رجل يدعى فيين أو فاين، أصله من ريوكراندى، لم يكن باستطاعته أن يعلم أنه يتوجه بالخطاب إلى ابنة المرحوم. 

تركت إيما الورقة تسقط من بين يديها. وكان أول ما شعرت به هو غصة مؤلمة فى البطن والركبتين ثم شعور بخطأ أعمى باللا واقع والبرد والخوف ثم أرادت أن تكون فى اليوم التالى.

فهمت بعد ذلك أن هذه الإرادة لم تكن لتجدى لأن موت أبيها كان الحدث الوحيد الذى وقع فى هذا العالم، وأنه سوف يظل يقع مرات لا نهائية وإلى الأبد. التقطت الورقة وطارت إلى غرفتها، وهناك أخفتها خلسة داخل درج كما لو كانت بكيفية ما تعرف مسبقًا الوقائع اللاحقة. لقد بدأت تلمحها منذ الآن؛ فصارت من ستكون فيما بعد. فى العتمة المتنامية بكت إيما حتى انتهى نهار ذلك اليوم انتحار مانويل ماير الذى كان يسمى فى الأيام الباسمة الغابرة إيمانويل ثونث. تذكرت نزهات الصيف فى مزرعة بالقرب من كواليكواى وتذكرت أمها (أو تظاهرت بذلك) وتذكرت البيت الصغير الذى انتزع منهم وتذكرت الفسيفساء الصفراء فى زجاج نافذة وتذكرت سيارة السجن والشعور بالمهانة وتذكرت الرسائل المجهولة المرسل مع الراتب الشهرى والتى كانت تتحدث عن «اختلاس صاحب الصندوق» كما تذكرت (وهو ما لن تنساه فى حياتها) أن أباها أقسم فى الليلة الأخيرة أن المختلس هو لوفينتال هارون لوفينتال دون سواه، وكان من قبل وكيلا للشركة فأصبح الآن من المالكين لها. احتفظت إيما بالسر منذ سنة 1916 ولم تفشه لمخلوق. بما فى ذلك صديقتها الأقرب إلسا أورستاين. ربما كانت بذلك تتجنب عدوى عدم التصديق، أو لعلها كانت تعتقد أن السر كان الرابط المقدس بينها وبين الغائب. لم يكن لوفينتال يعلم أنها تعلم، وكانت إيما ثونث تستمد من هذه المسألة التافهة شعورا بالعظمة. لم تنم تلك الليلة وحينما حضر النور فى مربع النافذة كان مخططها قد اكتمل. حاولت أن يكون هذا اليوم الذى بدا لها غير متناه أشبه بكل يوم آخر. تسرى بالمصنع إشاعات عن إضراب، وأعلنت إيما مثلما فعلت دائما أنها ضد كل عنف. فى السادسة بعد انتهاء العمل ذهبت صحبة إلسا إلى ناد خاص بالنساء به مكان لممارسة الرياضة وحمام سباحة متواضع. سجلتا اسميهما وكان عليها أن تعيد اسمها ولقبها مرة أخرى كما كان عليها أن تتجاهل السخريات المبتذلة المصاحبة للتعليقات. ناقشت هى وإلسا وصغرى آل كرونفوس السينما التى ستذهبن إليها مساء الأحد ثم جاءت سيرة الخطاب فلم يتوقع أحد أن تتحدث إيما فى هذا الأمر. أبريل القادم سيكون التاسعة عشرة من عمرها؛ ومع ذلك يرعبها الرجال. 

عندما عادت أعدت الحساء وبعض الخضر وأكلت بسرعة ثم اضطجعت وأرغمت نفسها على النوم. هكذا فى عمل وابتذال مضت جمعة الخامس عشر أمس. يوم السبت: أيقظها نفاد الصبر. ليس القلق بل نفاد الصبر والشعور الخفى بالراحة لأنها صارت أخيرا فى ذلك اليوم الموعود. ليس عليها الآن أن تتدبر أمرها وتحتال وأن تتخيل فخلال بضع ساعات ستكون فى قلب بساطة الوقائع. قرأت فى جريدة لابرينسا أن السفينة نوردستارنان المُسجَّلة فى مالمو، سوف تُبْحِر هذه الليلة من الرصيف رقم ثلاثة. ثم أنها هاتفت إلى لوفينتال وألمحت إلى أنها تريد أن تخطره، من وراء زميلاتها، بموضوع الإضراب، ووعدت أن تمر بالمكتب عندما يهبط الظلام. كان صوتها يرتجف، رجفة تليق بواشية. 

على أنه لم يقع ذلك الصباح أمر آخر ذى بال: اشتغلت إيما حتى الثانية عشر واتفقت مع إيلسا وييرلا كرونفوس على تفاصيل جولة الأحد. أخذت قيلولة بعد الغداء فاسترجعت، مغمضة العينين، الخطة التى دبرتها. وقدَّرت أن المرحلة الأخيرة ستكون أقل رعبا من الأولى وأنها ستذوق معها لا محالة طعم الظفر. فجأة نهضت وهى ترتعش وجرت إلى درج الصوان. فتحته ووجدت تحت صورة ميلتون سيلس رسالة فاين حيث تركتها الليلة الماضية. لا يمكن أن يكون قد رآها أحد. وشرعت فى قراءتها، ثم مزقتها. سيكون من الصعب وربما من غير المناسب سرد وقائع ذلك المساء بنوع من الواقعية. فاللاواقعية صفة للجحيم يبدو أنها تلطف أهواله أو تزيد من حدتها أحيانا. كيف يمكن جعل حدث ما محتملا مع أن مُنفِّذه يكاد لا يؤمن به، وكيف يمكن استرجاع ذلك الهرج المختصر الذى ترفضه ذاكرة إيما ثونث ويربكها؟

كانت تعيش فى حى ألماكرو بشارع لينييرس وذهبت ذلك المساء إلى الميناء. ربما شاهدت نفسها وهى تعبر ممر خوليو السئ السمعة مضاعفة فى المرايا تشهرها الأضواء وتجردها من ملابسها عيون الجائعين الشبقة. بيد أنه من المعقول أكثر الافتراض بأنها ضلت الطريق دون أن يلاحظها أحد. دخلت حانتين أو ثلاثا وشاهدت روتين نساء أخريات وألاعيبهن وفى نهاية المطاف عثرت على رجال من السفينة آنفة الذكر. خشيت أن يبث فيها أكثرهم شبابا حنوا من نوع ما فاختارت آخر لعله كان أشد قصرا منها وسوقى الطبع، وذلك حتى لا يصير الرعب الخالص خفيف الوقع. 

قادها الرجل إلى باب يفضى إلى دهليز يقود إلى سلالم متعرجة ثم إلى نافذة تدخل نور النهار على معينات زجاجية شبيهة بتلك التى كانت فى المنزل الموجود، ثم إلى ممر ثم إلى باب انغلق.

إن الوقائع الخطيرة تحدث خارج الزمن إما لان الماضى المباشر يتجلى فيها كما لو كان مبتورا عما يعقبه وإما لأن الأجزاء التى تؤلفها لا تبدو متتالية. هل فكرت إيما ثونث فى كل ذلك الزمن الموجود خارج حدود الزمن، وفى ذلك الصخب المحير للأحاسيس المنفرطة والشنيعة؛ هل فكرت مرة واحدة فى الميت الذى يحفز تضحيتها؟ على ما أظن أنها فكرت مرة واحدة وأنها فى تلك اللحظة خاطرت بحماس اليائس. فكرت، كأنما بفعل قوة أكبر منها، فى أن أباها قد فعل فى والدتها ما يفعل فيها الآن. تأملت ذلك باستغراب واهن فداهمها الغثيان. 

لم يكن الرجل السويدى أو الفنلندى الأصل يتحدث الإسبانية كان أداة بالنسبة لإيما مثلما كانت هى أداة بالنسبة له غير أنها كانت صالحة لاستمتاعه وصلح هو ليأخذ العدل مجراه. 

عندما انفردت بنفسها لم تفتح إيما عينيها مباشرة. وكان على المائدة ذات المصباح الأوراق النقدية التى تركها الرجل؛ فانتترت إيما واقفة ومزقتها مثلما مزقت الرسالة من قبل. إن تمزيق النقود كفر صريح؛ شأنه شأن رمى رغيف خبز، لذا استغفرت ربها عن زلتها بعد اقترافها مباشرة، وضاع الخوف فى حزن جسدها وفى التقزز الشامل. بيد أنها نهضت ببطء وشرعت فى ارتداء ملابسها. لم تعد بالحجرة ألوان حية إذ كان الغروب الأخير يحتد. وتمكنت إيما من الخروج دون أن يلاحظها أحد وعند المنعطف صعدت إلى حافلة لاكروثى تتجه غربًا. اختارت حسب مخططها المقعد الأكثر تقدما حتى لا يرى وجهها. ربما طمأنها أن تتأكد فى تفاهة نشاط الشوارع أن ما حدث لم يصب الأشياء بعدواه. 

مرت بأحياء متداخلة كثعابين الماء تبصرها فتنساها حينا ثم ترجلت عند أحد المداخل. لقد غدا تعبها بشكل متناقض قوة لأنه يرغمها على التركيز فى تفاصيل المغامرة ويحجب عنها العمق والغاية. كان هارون لوفينتال بالنسبة للجميع رجلا حادا وكان بالنسبة لخاصته الأقربين رجلا بخيلا. كان يقيم فى أعالى المصنع بمفرده. وبما أن الضاحية كانت خلاء فقد كان يخشى اللصوص لذا أطلق فى بهو المصنع كلب ضخم ولم يكن ليجهل أن الرجل كان يضع فى درج مكتبه مسدسا. لقد بكى بغزارة خلال السنة المنصرمة موت زوجته غير المتوقع، بيد أن المال كان حبه الوحيد. وكان يدرك بحرج ذاتى أن قابليته للحصول على المال أقل من قابليته للمحافظة عليه. كان بالغ التدين ويعتقد أن بينه وبين الله ميثاقا سريا يعفيه من التصرف الطيب مقابل دعاء وابتهالات. أصلع بدينا يرتدى عوينات غائمة ولحيته شقراء وكان ينتظر منتصبا بالقرب من النافذة البلاغ السرى الذى ستدلى به العاملة ثونث.

رآها تدفع الحاجز الحديدى -الذى واربه خصيصا لذلك- وتعبر البهو المعتم. ثم أبصرها تقوم بانحراف صغير عندما نبح الكلب المُسلسل. وكانت شفتا إيما منهمكتان مثل شفتى من يتلو صلاة خفية، متعبتان وهما تكرران الجملة التى سيسمعها السيد لوفينتال قبل موته بلحظة. 

لم تقع الأمور على النحو الذى توقعته إيما ثونث؛ فمنذ فجر اليوم السابق تخيلت نفسها مرات عديدة وهى تصوب المسدس بثبات مرغمة الرجل البائس على الاعتراف بجرمه الملعون، عارضة الحيلة الجريئة التى تسمح لعدالة الله أن تنتصر لعدالة الإنسان. وبعد ذلك تزرع رصاصة واحدة فى منتصف الصدر تحدد مصير لوفينتال. 

بيد أن الأمور لم تجر على هذا النحو.

بصدد هارون لوفينتال؛ لم تشعر إيما بضرورة الانتقام على عجل لوالدها قدر شعورها بالرغبة فى معاقبة الفعل الشائن الذى عانته فى سبيل ذلك. لم يكن باستطاعتها ألا تقتله بعد تلك الوصمة البالغة الدقة كما لم يكن لديها متسع من الوقت للقيام بحيل مسرحية. والتمست وهى تجلس فى حياء أعذارا من لوفينتال ثم ادعت، بصفتها واشية، واجبات الولاء له فذكرت بضعة أسماء ولمحت إلى أخرى قبل أن توجم كما لو أن الخوف قد اعتراها. احتالت على أن يغادر لوفينتال الحجرة بحثا عن قدح ماء. وعندما عاد هذا من المطعم وهو لا يصدق –رغم حلمه-مزاعم التأثر المبالغ فيه كانت إيما قد أخرجت من الدرج المسدس الثقيل. ضغطت على زناده مرتين. خر الجسم الضخم كما لو حطمته الفرقعتان والدخان وتكسر كأس الماء وحملق فيها الوجه فى استغراب وغيظ وشتمها فم الوجه بالإسبانية. وانفجر الكلب المُقيَّد نابحا فى الفناء واندفع من الشفتين الفاحشتين دفق دم مفاجئ فلطخ اللحية والملابس. شرعت إيما فى النطق بالاتهام الذى هيأته.. 

«لقد انتقمت لوالدي؛ وليس بإمكانهم إنزال العقاب بى...»

.. غير أنها لم تتممه لأن السيد لوفينتال كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى. لم يعرف قط ولا تمكن من أن يفهم. ذكرها النباح المتوتر أنها لن تستطيع الاستراحة الآن. ليس الآن. أخلت بنظام الديوان وفكت أزرار سراويل الجثة ثم نزعت نظارتيها الملطختين وتركتهما فوق خزانة البطاقات. بعد ذلك رفعت السماعة وأعادت سبق أن كررته عدة مرات بهذا اللفظ أو غيره:

«وقع أمر عجيب.. لقد طلب السيد لوفينتال حضورى بحجة الإضراب.. اغتصبني؛ فقتلته...» 

لم تكن القصة لتصدق فى الواقع لكنها فرضت نفسها على الجميع؛ لأنها كانت بالضرورة صائبة. كانت لهجة إيما ثونث حقيقية كما كان خجلها وحقدها حقيقيين وكذا الإهانة التى لحقت بها ولم يكن الزائف سوى الظروف واسم واحد أو اسمان لا أكثر.