الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الغداء

كان ذلك فى أثناء العرض المسرحى عندما لمحتها.. أشارت إلى بيدها لكى أذهب حتى أجلس بجوارها فى الاستراحة.. لقد مر وقت طويل منذ آخر مرة رأيتها فيها..الواقع أنه لو لم يذكر اسمها أمامى بوضوح لما عرفتها قط!..قالت لى بحرارة:



«لقد انقضت مدة طويلة على لقائنا الأول!» ثم فى شىء من الخفوت: «.. وها نحن نتقدم بالسن».

 وعادت لنفس الحرارة :

«ما أسرع مرور الأيام!» وصمتت لحظة ثم سألت: «هل تذكر لقاءنا الأول؟»

وعندما لم أرد بسرعة ذكرتنى:

«حين دعوتنى للغداء!»

وهل أنسى تلك المناسبة؟ حدث ذلك قبل عشرين عاماً.. حين كنت أعيش فى باريس فى شقة متواضعة تطل على مقبرة فى الحى اللاتينى.. فى هذا الوقت لم أكن أجد ما أسد به جوعى.. ولم أكن أكسب إلا الفتات! وبدأت القصة عندما بعثت إليَّ تلك السيدة برسالة حول كتاب لى كانت قد قرأته.. لم أجبها بشىء أكثر من الشكر العميق لاهتمامها بما كتبت. ثم حدث أن تسلمت منها رسالة أخرى بعد فترة وجيزة مفادها أنها سوف تغتنم فرصة مرورها بباريس للحديث معى قليلاً، وأنها سوف تقضى بعض الوقت من صباح ذلك اليوم فى لوكسبورج وبعدها يمكنها أن تلبى دعوتى على الغداء فى فويو لأن وقتها – كما قالت – ضيق جداً!

وفويو هذا هو أحد أرقى المطاعم الباريسية.. يرتاده علية القوم والشيوخ الباريسيون وأكابر فرنسا.. وأسعاره بالتأكيد تفوق طاقتى الواقع لم يخطر فى بالى أننى سوف أكون أحد رواد هذا المكان فى يوم ما.. لكن الزهو أخذ منى كل مأخذ!

كنت آنذاك فى مقتبل العمر، وهذا يعنى أن حيائى كان أقوى من رفض أى طلب لسيدة (وفى الحقيقة أن معظم الرجال لا يمكنهم التغلب على هذا الحياء إلا فى سن متأخرة جداً، عندما يبلغ الواحد منهم أرذل العمر، ويصبح رفضهم وقبولهم سيّان!) يومها لم يكن فى جيبى أكثر من ثمانين فرنكاً ذهبياً كنت أؤخرها لآخر الشهر.. ومن المفترض أن أى غداء متواضع ما كان ليكلفنى أكثر من خمسة عشر فرنكاً ذهبياً. قلت لنفسى: «لو امتنعت عن شرب القهوة فى الأسبوعين القادمين لاستطعت أن أتدبر الأمر دون عناء»!

ووعدت صديقتى – بالمراسلة – أن أقابلها فى مطعم فويو يوم الخميس فى الساعة الثانية عشرة والنصف وأدركت عندما رأيتها كم أنها متكلفة أكثر منها جذابة.. وأنها – كما توقعت تماماً – تخطت سن الشباب! لقد بدا لى أنها فى العقد الرابع من عمرها.. ورغم أنه سن ساحر للغاية إلا أنه لا يشعل نيران عاطفة مفاجئة جامحة من النظرة الأولى.. ومما لفت نظرى أكثر أن أسنانها كانت بيضاء كبيرة مصفوفة بعناية وإتقان بشكل أكثر غرابة مما يمكن أن يحتاج إليه المرء عملياً.. صحيح أنها كانت ثرثارة.. لكننى لم ألق بالاً لذلك وقتها.. الواقع أننى كنت على أتم استعداد للإصغاء إليها ما دامت متحمسة هى للكلام معي! وجاءنا النادل بقائمة الطعام.. وفى هذه اللحظة انتابنى الذعر!

لقد كانت الأسعار تفوق أبشع كوابيسى! لكنها طمأنتنى حين قالت:

«إننى لا أتناول شيئاً عند الغداء أبداً».

فأجبتها بكرم شديد:

- «يا إلهى.. غير معقول.. دعيك من هذا الكلام»!

أكدت كلامها:

- «إننى لا أتناول أبداً أكثر من صنف واحد.. فى ظنى أن الناس يأكلون أكثر بكثير مما هم محتاجون إليه فعلاً». هززت رأسى إعجاباً برأيها لكنها تابعت:

«حسناً!.. ربما سأطلب سمكة صغيرة، هل عندهم سلمون»؟

وتنفست الصعداء! إذ إن موسم السلمون لم يأت بعد، ولم يزل الوقت مبكراً جداً حتى إنهم لم يضعوه فى لائحة الأسعار بعد.. ومع ذلك سألت النادل فى ثقة:

«هل لديكم سلمون؟»

أجاب فى فخر: 

«أجل يا سيدى!»

يا لسوء الحظ!

«لقد وصلتنا للتو كمية من السلمون الممتاز»!

اللعنة! لقد وصلتهم فى ذلك الوقت بالفعل أول كمية من السلمون! ولم أجد بداً من أن أطلب السلمون نزولاً على رغبة ضيفتى. وسألها النادل إن كانت ترغب فى تناول بعض المقبلات ريثما ينضج السلمون، فأجابت: 

«كلا.. أنا لا آكل أكثر من صنف واحد أبداً»!

تنهدت ارتياحاً، لكنها قالت: 

«إلا إذا كان لديكم بعض الكافيار.. فلا بأس»!

شعرت وكأن قلبى غاص قليلاً من صدرى. كنت على يقين بأنه لا قِبل لى بالكافيار، لكنى – بالطبع – لم أستطع أن أخبرها بهذا صراحة. وطلبت النادل من جديد ليجلب لها الكافيار. أما أنا فأخذت أرخص طبق فى قائمة الطعام: قطعة من لحم الضأن! وقالت لى: 

«أرى أنك تخطئ فى تناول اللحم. لست أدرى كيف تستطيع العمل بعد وجبة دسمة كهذه.. أما أنا فأفضل ألا أرهق معدتى».

وبعدها جاءت مشكلة الشراب.. قالت:

«أنا لا أشرب شيئاً مع الغداء مطلقاً».

أجبتها بسرعة:

«ولا أنا».

لكنها أردفت وكأنها لم تسمع ما قلت:

«.. سوى نوع معين من الشراب خفيف جداً على المعدة ومفيد جداً للهضم».

سألتها بنبرة المضياف الكريم (ولكن دون إلحاح):

« وماذا تودين أن تشربى؟»

سطعت أسنانها البيضاء وهى تجيب: 

«إن طبيبى يمنعنى من شرب أى شىء عدا هذا الشراب».

امتقع وجهى قليلاً، ولكنى على الرغم من ذلك طلبت نصف زجاجة من هذا الشراب، وذكرت لها عرضياً إن طبيبى يمنعنى من شرب هذا النوع.

«ماذا ستشرب إذاً»؟

أجبت فى اقتضاب:

«سأشرب ماء»!

أتت على الكافيار.. والتهمت السلمون.. ثم راحت تثرثر عن الفن والموسيقى والأدب.. لكنى كنت منشغلاً عنها بالفاتورة والحساب. وعندما وصلت قطعة اللحم التى طلبتها راحت تنتقدنى صراحة:

«أرى أنك معتاد على الوجبات الدسمة فى الغداء!.. هذا هو عين الخطأ.. لم لا تأخذ فكرتى وتأكل صنفاً واحداً فقط ؟.. هذا سيجعلك تشعر بتحسن كبير..».

أجبتها والنادل يأتى بقائمة الطعام:

«لن أتناول سوى صنف واحداً فقط».

لوحت بيدها أمام النادل علامة الاكتفاء وقالت:

«لا، لا !.. أنا لا أتناول شيئاً البتة عند الغداء. لقمة واحدة لا أكثر.. وأنا آكلها لمجرد فتح الحديث. لا يمكن أن أتناول شيئًا آخر.. إلا إذا كان لديهم بعض من الهليون الكبير.. من المؤسف حقاً أن آتى إلى باريس وأغادرها دون أن أتناول البعض منه»!

غاص قلبى فى صدرى مرة أخرى. كثير ما كنت أرى الهليون فى المحلات. وأعرف جيداً أن ثمنه يفوق الخيال.. وأحياناً كان لعابى يسيل لمنظره دون جدوى. سألت النادل:

«السيدة تسأل إن كان لديكم هليون كبير الحجم»!

وبذلت كل ما بوسعى لأوحى له أن يجيب بالنفى، لكنه رسم ابتسامة عريضة على وجهه الذى يشبه وجوه الكهنة، وأكد لنا أن لديهم هليوناً كبير الحجم من النوع الغض الممتاز الذى لا مثيل له! تنهدت ضيفتى وقالت:

«إننى لا أشعر بالجوع إطلاقاً.. ولكن إن كنت مصراً فلا بأس.. سأتناول الهليون!»

 طلبت لها الهليون! وسألتنى:

«ألن تتناول شيئاً منه؟»

غمغمت:

«كلا.. إننى لا آكله بالمرة».

قالت فى هدوء:

«أعرف أن بعض الناس لا يحبون الهليون. حقاً إنك تفسر ذوقك بأكلك هذا اللحم». 

انتظرنا حتى ينضج الهليون، ونفسى يملؤها الهلع.. فلم تعد المشكلة هى ما سوف يتبقى لدىَّ من مال لآخر الشهر.. بل إن كل ما معى من مال لن يكفى لسداد الحساب.. وسوف تكون كارثة إذا اضطررت إلى اقتراض عشرة فرنكات من ضيفتى لدفع الشيك.. وهذا مستحيل! وقررت أنه إذا لم يكن ما لدىَّ من المال كافياً لدفع الحساب المطلوب، فسوف أضع يدى على جيبى فأتظاهر بحركة درامية إن حافظتى قد سرقت! ولكن.. ماذا لو لم يكن معها هى الأخرى ما يكفى من المال لسداد الحساب؟ سيكون وضعاً محرجاً لكلينا بالتأكيد..عندئذ لن أجد مفراً من ترك ساعتى وديعة فى المطعم على أن أعود لدفع الحساب واستردادها فيما بعد!

جاء الهليون! وخفق قلبى لمرأى حباته الكبيرة الغضة.. وسال لعابى عندما داعبت رائحة الزبدة الساخنة أنفى.

ورحت أراقب تلك السيدة وهى تحشو حلقها بلقم كبيرة وبنهم فظيع، أما أنا فكنت أتحدث بمنتهى التهذيب والرقى عن المسرح فى بلاد البلقان! وسألتها عندما فرغت من الطعام:

- «قهوة ؟»

همست فى رقة:

«أجل وآيس كريم.. فقط»!

كان اليأس قد بلغ منى مبلغه.. فطلبت قهوة لنفسى وآيس كريم وقهوة لها. وقالت وهى تلتهم الآيس كريم:

«أتعرف؟.. أنا مؤمنة بشىء لا أحيد عنه أبداً.. وهو أن على المرء أن ينهض عن المائدة قبل أن يشبع».

سألتها بصوت متهدج: 

«أما زلت جائعة؟»

«لا.. لست جائعة، فأنا لا آكل وجبة الغداء.. أتناول فنجاناً من القهوة فى الصباح ثم وجبة العشاء.. لكنى لا آكل أكثر من صنف واحد عند الغداء.. كنت أتكلم عنك أنت»!

غمغمت متفهماً:

«آه». 

ثم حدث شىء فظيع! فبينما كنت أنتظر وصول القهوة، إذ تقدم منى النادل وقد ارتسمت على وجهه المزيف ابتسامة ملؤها اللؤم وبيده سلة مليئة بالدراق الشهىّ، كل واحدة منه تشبه وجنتى فتاة عذراء ولها ألوان الطبيعة الإيطالية، ولكن مهلاً.. هذا ليس موسم الدارق، كما لا يعلم إلا الله ثمنه! (وقد عرفت ثمنه فيما بعد لأن ضيفتى تناولت واحدة منها بصورة عفوية وهى تتحدث)!

«لقد ملأت معدتك بالكثير من اللحم (وكانت تشير إلى قطعة اللحم الصغيرة الهزيلة) ويجب ألا تأكل المزيد.. أما أنا فلم أتناول سوى وجبة خفيفة، لذلك سوف أستمتع بدراقة لذيذة»!

وجاءت الفاتورة! ووجدت أن ما تبقى معى من المال لم يعد يكفى حتى لدفع البقشيش. ولما رأيتها تتأمل الفرنكات الثلاثة التى تركتها للنادل أدركت أنها ظنت بى البخل، لكنى أيقنت وأنا أخرج من باب المطعم أن أمامى شهراً كاملاً أقضيه مفلساً بلا قرش واحد.. وقالت وهى تودعنى:

- «افعل مثلى تماماً.. لا تأكل سوى صنف واحد فى الغداء»!

أجبتها بسرعة: 

- «بل سأعمل ما هو أفضل.. لن أتناول عشائى نهائياً هذه الليلة»!

صاحت وهى تدلف فى العربة:

- «إنك ظريف للغاية»!

لكنى انتقمت منها فى النهاية! صحيح أنا لست ممن يحقدون على الآخرين، لكنى لا أظننى أرتكب إثماً إذا غمرنى شعور بالرضا والحبور وأنا أرى.. أن وزنها قد صار اليوم..مائة وخمسة وعشرين كيلوجراماً!