الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

جمعه الحضور الإنسانى

كنت أتمنى أن أقول إن آخر مكالمة بيننا، كانت عندما اتصلت به لأسأل عليه، الحقيقة أن آخر مكالمة هو الذى اتصل يودعنى، سألنى عن زوجتى وأولادى وأحوالى، تمنيت له الشفاء ووعدته بإقامة معرض كبير له، كان يسمعنى وكأنه ذاهب إلى عالم آخر، حيث كل شىء حقيقى.



البداية كانت سنة 1990، قابلت جمعة فى المركز الثقافى الفرنسى بالإسكندرية، كان شابًا فى الخمسين، وقد بدأ اسمه يلمع بعد توقف الجيل الذهبى «حجازى وبهجت عثمان واللباد»، وأصبحت الساحة فى احتياج لمن يملأ الفراغ الرهيب، واستطاع جمعة الدءوب المجتهد أن يصنع لنفسه مساحة اعتمدت على ثقافته ووعيه وعلاقاته المتعددة أن يكون دائمًا فى المكان المناسب والزمان المناسب.

وعرف جمعة أنه لن يستطيع أن يقدم الخلطة السحرية لجاهين، ولا أن يقترب من عالم حجازى أو بهجت، فصنع عالمه الخاص ونجح.. كان معه فى هذا اليوم مجموعة من الرسامين، رسمنى جورج البهجورى وتحدثت مع زهدى العدوى، لكنه الوحيد الذى شاهد رسومى وقال لى: لو بتحب الكاريكاتير وعايز تكمل مشروعك يجب أن تأتى إلى القاهرة، يومها لم أكن أعرف معنى أن لى مشروعًا، كنت مهرجًا كبيرًا أعيش على قهوة البوابين فى الإسكندرية وسط مجموعة من أروع المبدعين، لم أكن بارعًا فى الرسم، لكننى كنت سليط اللسان وأحب فقط فن الكاريكاتير.عندما ذهبت إلى القاهرة وعملت فى مجلة كاريكاتير كنت أذهب من حين إلى آخر إلى مجلة روزا لأقابل جمعة فرحات، لو كان موجودًا يستقبلنى، وإن لم يكن موجودًا تفتح لى الغرفة التى يزامله فيها الكاتب الساخر عاصم حنفى ويقدم لى الساعى الشاى حتى يحضر الأستاذ.

كان استقباله رائعًا وحضوره إنسانيًا وتوجيهاته دائمًا فى محلها، كان يساعدنى كى أفهم هذا العالم ويشجعنى على ممارسة فن الكاريكاتير بجدية أكثر ووعى أكبر.

مر وقت طويل من الصداقة والمحبة حتى قابلنى فى كافيتيريا المجلس الأعلى وقال لى: أعلم أن هناك فتاة تحبك وتريد الزواج منك وأعتقد أنها مناسبة لا تراوغ ولا تخف من حياة الاستقرار.

مر وقت طويل وأنت وحدك، ويجب أن تكون لك أسرة فى القاهرة، حضر زفافى وكان موجودًا فى سبوع ابنى الأول يوسف يقدم لى ظرفًا به نقود تحية لأول مولود.

عندما عملت فى جريدة العربى الناصرى.. كان يدفعنى دفعًا لأرسم الكاريكاتير السياسى ورغم أننى كنت أفعل ذلك إلا أنه كان يقول لى: يجب أن يكون الكاريكاتير أقوى، فهو سلاحك الوحيد فى مواجهة هذا العالم.. فى كل مرة كان يعرض عليه أحد أصدقائه من الصحفيين العرب احتياجه لرسام كاريكاتير كان يعرض علىّ أن أسافر وكنت أرفض، وكان دائمًا يقول لى: سعيد إنك ترفض السفر رغم ظروفك الصعبة.. ربما تعود بنقود ولكن ستخسر جزءًا كبيرًا من نفسك، جمعة لم يترك مصر ولم يجر وراء المادة وإنما اسمه الكبير وفنه جعلاه دائمًا يعمل فى أكثر من مكان.

‏فى برنامجه «جمعة كل جمعة» - وهو أول برنامج تخصص فى فن الكاريكاتير- كان يحرص قبل أن تظهر وسائل التواصل الاجتماعى أن ينقل لنا الكاريكاتير فى أجمل صورة من كل أنحاء العالم، وكان لديه حضور وخفة ظل وبراعة فى قراءة الكاريكاتير جعلت هذا الفن يدخل كل بيت.. قلت له ذات يوم: إننى أخجل منك فكلما ظهرت فى أحد البرامج تذكرت حجازى وجاهين وحسن حاكم ولا أتذكرك، فكان يقول لى: أنا أيضًا عندما أظهر فى التليفزيون أتحدث عن أساتذتى: جاهين، حجازى، حسن حاكم وصلاح الليثى ولا أذكرك إنهم أساتذتى الذين أفخر بهم وسعيد أنك تذكرهم.

كان جمعة بسيطًا وطيبًا وودودًا فى علاقته مع كل الرسامين، ولقد منحنى صداقته ولم يشعرنى لحظة بفارق السن، كان دائمًا أكثرنا شبابًا وحيوية.

الآن يجلس مع العظماء فى عالمه الآخر صاروخان ورخا وزهدى وجاهين وصلاح الليثى ومحيى اللباد وطراوى ورءوف عياد وحجازى ومحسن جابر ومصطفى حسين وحسن حاكم يضحك من قلبه ويحكى لهم عما وصل إليه فن الكاريكاتير فى مصر والعالم. تحية إلى الرجل الذى أحبنا فأحببناه.