الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

صبى

صغارا  كنا، نخرج من المدرسة بعد نصف نهار، نقف على أعتاب بيوتنا بتردد، نخشى أن تحد جدرانها من حركتنا؛ نلقى حقائبنا إلى الداخل، ونرتد سريعا إلى الوراء، ننطلق إلى البراح، نركض بأقصى سرعة، لا نعبأ بحرارة الجو، أو لهيب الرمل، نثير ضجة، طالما أرقت مضاجع أهالى النجع، وأفسدت عليهم قيلولتهم، نجتمع تحت شجرة (زيتون) عتيقة، نلوذ بظلها الوارف، تشكل أبداننا حلقة، لم نغلقها قط، نترك موضعا شاغرا؛ فهو فى العادة يأتى متأخرا ساعة أو ساعتين.



يقبل من بعيد، يجرجر رجليه، يغوص جسده النحيل فى جلبابه المهلهل، يدنو منا، يبدو عليه التعب، نرى عينيه الناعستين، ووجهه الشاحب المعفر بالتراب، نبصر شعره الأشعث، وآثار الروث العالقة بملابسه؛ فنرثى لحاله.

يجلس فى مكانه المعتاد؛ فتلتئم الحلقة. يلتقط أنفاسه، ويسألنا بلهفة عن أخبار المدرسة؛ فتتدفق الحكايات. نحكى بحماس، ويضج المكان بأصواتنا، بينما يرهف هو السمع، ولا تفارق الابتسامة الخافتة ثغره. يمر الوقت، ونمل الكلام؛ فنسأله، فجأة عن أخباره؛ فتشرد عيناه الحزينتان بعيدا، ويكتسى وجهه بالحزن، ويتلعثم قليلا، وتذوب الكلمات على شفتيه، لكنه يحكيفى النهايةعن دنيا لا نعرفها، يحكى عن صبى، يستيقظ فجرا، ويشق رتق الظلام وحيدا، ويتوجه إلى حظيرة تاجر الماشية، ويقبض على حبال الأبقار، والثيران، التى تحاول الإفلات. يخبرنا بأنها تنطحه بقرونها الصلبة؛ فيصمد، ويتحمل الألم، ويصطنع الفتوة والرجولة المبكرة، ويصرخ فى وجوه الحيوانات المستفحلة، ويجرها تباعا إلى الحظيرة المجاورة، ويقيدها فى الأوتاد.

يخبرنا بأن أمام كل ثور عينين من الطوب والأسمنت، يملأ أحدهما بالعلف، ويملأ الأخرى بالماء، وبأنه عندما ينتهى من سقاية وإطعام جميع الثيران، يعود سريعا إلى مكان مبيت الماشية؛ فيجثو على ركبتيه، ويجمع الروث بيديه، ويملأ العربة الحديدية، ويدفعها بكلتا يديه إلى الخارج، مرة بعد مرة، إلى أن تصبح الحظيرة نظيفة تماما. 

عادة ما يقبض أجرته قبيل العصر، وينطلق إلينا، ويفتش فى حكاياتنا عن روحه الضائعة. عادة ما يتباهى ببراءة بأن الناظر لم يعاقبه قط، وبأنه كان الأبرع فى حل مسائل القسمة المطولة، فى الوقت الذى فغرنا فيه أفواهنا كالبلهاء أمام السبورة السوداء. يعيد على أسماعنا ذكر ما رسمه فى كراسة الرسم، من عرائس المولد، وورد الربيع، وحدائق شم النسيم، ومظلات الشتاء، وحبات المطر، و شموس الصباح، وعصافير البراح. يخبرنا بأنه ما زال يحتفظ بمريلة التيل الصفراء، وحقيبته الممتلئة بالدفاتر والكراسات الملونة. يحكى، ويحكى، إلى أن يتهدج صوته؛ فيمسك عن الكلام، وينكت الرمل بقطعة جريد فى يديه، ثم يتنهد بحرقة، وتخنقه العبرة، وتنهمر الدموع على خديه؛ فيهب من مكانه، ويمضى فى طريقه، ولا يلتفت إلى نداءتنا. نتركه لحاله، ريثما يفرغ يهدأ، يغيب عن أنظارنا، ولا نخشى فقدان أثره؛ نصل إلى ذلك المكان البعيد الصامت، نراه ممددا على الرمل، قد أسلمه التعب إلى النوم، ونرى حوله شواهد شاخصة، وألواحا رخامية منقوشة، ونباتات صبار، وعيدان ريحان، طالما أصغت إلى نشيجه، وطالما ارتوت بدموعه الغزيرة.