السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قصة مترجمة

وشاية

(أهينوف) أستاذ اللغة، كان يزوج ابنته إلى مدرس مادتى التاريخ والجغرافيا. وقد مرت معظم مراسم حفلات الزفاف بسلام، وفى القاعة كان هناك الكثير من الغناء والعزف والرقص وكان هناك طنين كثير بين الحاضرين، وكلمات متطايرة تتناثر من أطراف الحديث. جلس أستاذ الرياضيات، ومعلم اللغة الفرنسية ومساعد العمدة، يثرثرون فيما بينهم، يتحدثون بسرعة ويقاطع أحدهم الآخر وهم يتكلمون بصوت عال شارحين للضيوف حالات دُفن فيها البشر أحياء! ولا واحد منهم يؤمن بالروحانيات، لكنهم جميعاً اقتنعوا بأن هناك العديد من الأمور فى هذا العالم تحدث من وراء قدرة عقل الإنسان.



 

فى الحجرة المجاورة كان مدرس الأدب يثرثر، وبمجرد أن دقت الساعة تعلن منتصف الليل، ذهب سيد الدار إلى المطبخ ليرى إذا ما كان كل شىء جاهزاً من أجل العشاء. كان المطبخ، من الأرض إلى السقف يحتشد بالبط المدخن والأرز المحمر وروائح أشياء عديدة.وعلى مائدتين رُصت المقبّلات وفواتح الشهية، المرطبات والمشروبات المنعشة، حيث جلست – إلى جانب كل ذلك – الطاهية (مارفا)، المرأة حمراء الوجه، التى تبدو كبرميل حوله حزام، وكانت تتحرك بنشاط الآن بين الموائد. 

وقال (أهينوف) وهو يفرك كفيه ويلعق شفتيه: «حسناً يا (مارفا)، أرينى الطبق الرئيسي! «ثم تابع فى نشوة: «يا لها من رائحة! يمكننى أن آكل المطبخ بأكمله.. تعالى أرينى الطبق الرئيسى!»

رفعت (مارفا) أحد الأطباق، ثم–بحرص–أزاحت صفحة من الورق المشحّم. وتحت صفحة الورق كان هناك طبق حافل، ارتكزت فى منتصفه قطع وفيرة من اللحم، هائلة الحجم، تغطت بـــ(الجيلى) وتزينت بالبقدونس والكرفس والزيتون والخيار.حدق (أهينوف) فى الطبق، وتأوه، لمع وجهه، ورفع عينيه عالياً.ومال لأسفل بشفتيه مطلقاً صوت عجلة غير مزيتة. وبعد أن وقف دقيقة كاملة، مص أصابعه فى سرور وطقطق بلسانه ثم لعق به شفتيه وأفرج من بينهما صفير استحسان. 

وفى هذه اللحظة جاء صوت من باب الحجرة المجاورة:

«آه، هذا صوت قُبلة حارة! من تُقبّلين يا (مارفا) عندك؟!» وكان المتكلم هو المساعد (أوشر) الذى أخرج رأسه من فرجة الباب لينظر «من هذا؟ آها – ظريف أن أقابلك يا (سيرجي). يجب أن تقول أنك جدّ لطيف للغاية.. هذا حق!»

قال (أهينوف) فى حيرة:

«أنا لا أُقبّل، من قال لك هذا أيها الأحمق؟ إننى فقط.. لقد كنت.. أصفر من بين شفتى.. كنت أعبر عن إعجابى بــــ.. كنت أريد أن أقول.. أنه إحساس بــــ.. بالسعادة.. عن منظر.. عن منظر اللحم»

«قل هذا للآخرين إذن!»

ثم اختفى الوجه المتطفل وانغلق الباب.. واحمر وجه (أهينوف) وفكر: «هذا اللعين سوف يذهب الآن ناشراً الفضيحة، سوف يخسف بسمعتى الأرض بين أفراد المجتمع».

ثم تسلل (أهينوف) بحذر وخوف إلى القاع وراح يبحث متلصصاً عن (أوشر).كان (أوشر) واقفاً عند (البيانو)، يهمس بشىء ما لأخت زوجه المفتش، وكانت هى تضحك بينما يبدو عليه الاغتباط والخبث.

عم يتكلم! فكر (أهينوف)، عنيّ، سحقاً له، وهى سوف تصدقه.. سوف تصدق كل هذا! إنها تضحك! ارحمنى يا ربي! كلا، لا يمكننى أن أدع هذا يحدث.. لا يمكننى.. لا بد أن أفعل شيئاً حيال هذا.. سوف أتحدث إليهم جميعاً، وعندها سوف يبدو للجميع أنه ليس إلا أحمق مروجاً للشائعات.

مد (أهينوف) رأسه، وما زال يشعر بوطأة الحرج، ثم توجّه إلى مدرس اللغة الفرنسية.

«لقد كنت منذ قليل بالمطبخ، أتفقد العشاء»، قال لرجل الفرنسية، «أعرف أنك مغرم باللحم المشوى، لقد أعددت لك طبقاً حافلاً، يا رفيقى العزيز، يفوق كل شىء! ها ها ها! وبالمناسبة.. كدت أنسى.. فى المطبخ.. منذ قليل.. مع هذا اللحم.. قصة صغيرة جداً! ذهبت إلى المطبخ الآن وأردت أن ألقى نظرة على أطباق العشاء، نظرت إلى اللحم المطهو، ومصصت شفتى بإعجاب عند مشهده، وفى هذه اللحظة بالذات.. هذا الأحمق (فانكين أوشر) جاء وقال: «ها، ها، ها! إذن أنت تُقبّلها هنا!» أُقبّل (مارفا)، الطاهية! هل تصدق هذا؟ الأحمق السخيف.. المرأة مرعبة تماماً، كأنك جمعت كل الوحوش معاً فى شخص واحد.. وهو يتحدث عن تبادل القبلات.. هذا الشاذ المعتوه!»

«من هو هذا الشاذ المعتوه؟» سأله أستاذ الرياضيات، وهو يقبل عليهما.. 

«إنه هو، (فانكين) الأحمق.. لقد ذهبت إلى المطبخ.. »

وحكى قصة (فانكين أوشر) معه.. «لقد أمتعنى هذا المعتوه،.. من الأفضل أن أُقبّل كلباً على أن أُقبّل (مارفا)، لو سألتنى رأيى». أضاف (أهينوف). ونظر حوله فرأى خلفه مساعد العمدة.. 

«كنا نتحدث عن (فانكين)»، قال،«الشاذ المعتوه! هو كذلك! لقد ذهب إلى المطبخ.. ورآنى إلى جوار (مارفا)، وبدأ يخترع كل أنواع القصص البذيئة!«لماذا تُقبّلها؟»لا بد أنه تناول الكثير من الخمر. فقلت:«الأفضل أن أُقبّل ديكاً رومياً على أن أُقبل (مارفا)، أن لدى زوجة خاصة بى أيها الأحمق.. لقد أمتعنى حقاً.. وأضحكنى كثيراً!»

«من الذى أضحكك.» سأله المدرس الشاب الذى التحق بالمدرسة حديثاً.. 

«(فانكين).. كنت أقف فى المطبخ، أنت تعرف، أنظر إلى اللحم.. »

وهكذا، فى خلال نصف الساعة أو نحو ذلك عرف كل الضيوف حكاية (فانكين) واللحم.. 

«دعه يثرثر الآن» فكر (أهينوف) وهو يفرك كفيه «دعه! سوف يبدأ فى قص حكايته وسوف يقولون له دفعة واحدة «كف عن هذا الهراء الغير لائق، أيها الأحمق، إننا نعرف كل شىء عنها!»وفى فورة نشوة (أهينوف)، احتسى أربعة كؤوس من الخمر وبعد أن قاد الضيوف عبر الحجرات، ذهب إلى الفراش ونام كطفل برىء، وفى اليوم التالى، لم يفكر أكثر فى هذه الواقعة مع اللحم. ولكن، وا أسفاه، يدبر الإنسان ويقدر الله.. لسان الشر ينطق ولا تصبح استراتيجية (أهينوف) ذات قيمة.. فبعد ذلك بأسبوع – وكان يوم الأربعاء، بعد الحصة الثالثة، بينما كان (أهينوف) يقف فى منتصف حجرة المدرسين يراجع عمل صبى يدعى (فسكين)، عندما دخل ناظر المدرسة وسحبه جانباً وقال: «اسمع.. (سيرجى كابيتونيتش).. أعذرنى.. إنه ليس من شأنى.. ولكن يجب أن أجعلك تدرك.. أنه واجبى،أنت تفهم هذا، هناك الكثير من الهمهمة واللغط هنا وهناك حول غرامياتك مع.. مع الطاهية.. إن هذا لا يعنينى البتة.. اغوها، قبّلها.. كما تشاء، ولكن لا تدع هذا معروفاً للجميع، أرجوك.إننى أنبهك! لا تنسى أنك مدرس فى مدرسة محترمة»

شحب وجهه (أهينوف) وكاد يغشى عليه، وذهب إلى داره كرجل قرصه نحل مزرعة بأكملها، كرجل سقط فى حوض ماء يغلى، وبينما هو فى طريقه إلى الدار، بدا له وكأن المدينة بأكملها ترمقه.. كما شعر وكأنه مغطى بالوحل من قمة رأسه حتى أخمص قدميه.. وفى المنزل كانت مشكلة طازجة تنتظره.. 

«لماذا تتثاقل خطواتك على هذا النحو؟» سألته زوجته على العشاء «لماذا تبدو شاحباً هكذا ؟!.. هل أرهقتك غرامياتك؟.. هل هجرتك (مارفا) ؟.. إننى أعرف كل شىء عن هذا. يا إله المسلمين، لقد فتح الأصدقاء المخلصين عيناى.. أيها الهمجى!» ثم بصقت فى وجهه.. نهض من على المائدة.. لا يشعر بالأرض من تحت قدميه.. وبدون قبعته أو معطفه سلك طريقة إلى (فانكين) ووجده فى بيته.. «أيها الملعون!» صاح به منادياً «لماذا غطيتنى بالطين أمام المدينة كلها؟ لماذا أطلقت هذه الوشاية عنى؟».

«أية وشاية؟.. ما الذى تتحدث عنه؟»

«من أشاع قصة تقبيلى لــ (مارفا)؟ ألم يكن أنت؟ أخبرنى بها.ألم تكن أنت أيها الحقير؟»

اضطرب (فانكين) وتلفت حوله ثم رفع عينيه إلى السماء وهتف «ربى، انسفنى،أو أصبنى بالعمى أو دعنى أموت أن كنت قد تفوهت بكلمة واحدة عنك! بل شردنى يا رب عن بيتى وأهلى، بل اجعلنى أصاب بالكوليرا حتى!» بدا (فانكين) صادقاً، ليس فى هذا.. من الواضح أنه ليس هو صاحب الوشاية..  «ولكن، من؟ من إذن؟» تساءل (أهينوف).. ذاهباً إلى كل ركن بداخل عقله وذاكرته وراح يضرب صدره «من هو إذن؟».