الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

دٌكان السعادة

قصة: ألبرتو مورافيا - ترجمة: د. هانى حجاج



قبل منتصف ظهيرة كل يوم بقليل، كان الموظف العجوز، المتقاعد، ميلون، يخرج من منزله، مصطحبًا أرمينيا زوجته، وجيوفانا ابنته. كانت زوجته بدينة ومتقدِّمة فى السن، وابنته النحيلة الشاحبة وقد أصبحت الآن مسنَّة وكالمخابيل. كان آل ميلون الثلاثة، الذين يسكنون ساحة «ديللا ليبيرتا»، يصعدون ببطء، على خطا أرمينيا السمينة، يمسحون شارع «كولادى ريانزو»، متأمِّلين واجهات المحلات الواحدة تلو الأخرى. وكانوا يغيِّرون الرصيف فى ساحة «ريزور جيمنتو» ويعودون، وهم يتابعون تأمَّل الفاترينات بالعناية ذاتها، نحو ساحة «ديللا ليبيرتا».‏

يستغرق مشوار الذهاب والعودة حوالى الساعتين، بصبر مناسب حتى تحين ساعة العشاء. ولم يعد أفراد عائلة ميلون الثلاثة، الفقراء جداً، يدخلون إلى قاعة سينما أو مقهىً منذ زمنٍ طويل. كان التنزُّه هو تسلية حياتهم الوحيدة الممكنة.‏

وفى يومٍ من الأيام، وبعد أن خرجوا فى الساعة المعتادة وصعدوا شارع «كولادى ريانزو» تقريباً حتى ساحة «ريزور جيمنتو»، لفت انتباه أفراد عائلة ميلون الثلاثة محل جديد، وكأنه فُتِح بطريقةٍ سحرية، فى المكان الذى لم يكن حتى مساء أمس سوى شبكة مغبرة حول حظيرة مهجورة. وكان صقيل الزجاج يمنعهم عن تمييز البضاعة. فاقتربوا، ثلاثتهم، من المحل، ودون أن ينبسوا ببنت شفة، شكلوا نصف دائرةٍ على الرصيف وهم يصطفون أمام واجهاته.‏ 

كانوا يرون الآن البضاعة بوضوح: السعادة. كان أفراد عائلة ميلون الثلاثة، مثل جميع الناس هنا، قد سمعوا دائماً، الحديث عن هذه السلعة، ولم يروها قط. كانوا يتناقشون حولها هنا وهناك، كأنها شىء نادر جداً، فيصفها البعض بالخيالية، مشككين بوجودها الحقيقى تقريباً. وصحيح أن المجلات كانت تنشر من حينٍ لآخر مقالاتٍ طويلة مصوَّرة، يقولون فيها إن السعادة فى الولايات المتحدة إن لم تكن عامة، فهى على الأقل سهلة المنال؛ لكن، كما نعلم، أمريكا بلاد بعيدة، والصحفيون يتخيَّلون أشياء كثيرة. وعلى ما يبدو، كانت توجد وفرة من السعادة فى الأزمنة الغابرة، لكن ميلون، مثل كل الذين كانوا طاعنين فى السن الآن، لا يتذكَّر أبداً أنه رآها يوما ما.‏

وها هو متجر الآن، وكأن الأمر بديهى، وأن الموضوع يتعلَّق بالأحذية أو أدوات المائدة، يقدِّم صراحةً هذه البضاعة، لأى شخص يرغب فى شرائها. وهذا ما يفسِّر دهشة أفراد عائلة ميلون الثلاثة المسمَّرين إلى الأرض، الجامدين أمام هذا المتجر الفريد من نوعه.‏ 

ويجدر القول إن هذا المتجر كان يُحسِن عرض بضاعته جيداً فى واجهاته الكبيرة المؤطَّرة بحجر تيبور الرخامى اللامع، وكانت لافتته من طراز عام 1900، وجميع إكسسواراته وزيناته مصنوعة من المعدن المطلى بالنيكل. وفى الداخل أيضاً، كانت طاولاته على أحدث طراز، وكان بائعان أو ثلاثة من الشبان الحيويين، أنيقى الملبس، يجذبون، بظهورهم فقط، الزبون الأكثر تردداً. وتظهر فى الواجهات «السعادات» مثل بيض «عيد الفصح»، وهى معروضة حسب كبرها، وتوافق جميع الميزانيات. فيوجد منها الصغير والوسط والضخم، قد تكون مزيَّفة، وضعت للدعاية. وكان لكل سعادةٍ بطاقتها الصغيرة، مع السعر المدوَّن عليها بالأحرف الطباعية المائلة.‏ 

وانتهى الأمر بالعجوز ميلون إلى القول بشىء كبير من السيطرة، معبِّراً عن أفكارهم جميعا: - «هكذا إذاً، لم أكن لأتوقع ذلك أبداً..»‏

  فسألته الفتاة ببراءة:‏ 

- «ولماذا يا أبى؟»‏ 

رد عليها العجوز بانزعاج قائلاً:‏ 

- «لأنه، ومنذ سنواتٍ عديدة، يُقال لنا بأنه لا توجد سعادة فى إيطاليا، وأنها تنقصنا، وأن استيرادها يكلِّف كثيراً... وها هم فجأةً، يفتحون مخزناً لا يبيعون فيه سواها.»‏ 

قالت الفتاة مفكّرة:‏ 

- «قد يكونون اكتشفوا كنزاً!.»‏ 

فانبرى ميلون يقول مغتاظاً:‏ 

- «ولكن أين؟ ولكن كيف؟ ألم يقولوا لنا دائماً إن باطن الأرض فى إيطاليا لا يحتوى على مناجم؟... لا نفط، ولا حديد، ولا فحم، ولا سعادة... ثم، هناك أشياء ينتهى بنا الأمر إلى أن نكتشفها... هل تتخيَّلين... عندى شعور بأننى سأرى عناوين كبيرة تقول: بالأمس، كان «فلان» يتنزَّه فى جبال «كادور»، واكتشف منجم سعادة من نوعيةٍ ممتازة... هيه، كلا، كلا... إنها بضاعة أجنبية.»‏ 

وتدخَّلت الأم بهدوءٍ قائلة:‏ 

- «حسناً، أين المشكلة؟ هناك، لديهم الكثير من السعادة وهنا، ليس لدينا شىء منها: إنهم يستوردونها... أين الغرابة؟»‏ 

رفع العجوز كتفيه حانقاً، وقال:‏ 

- «حججٌ واهية غير معقولة... هل تفهمين فقط ما هو معنى استيراد؟‏ هذا معناه صرف نقودٍ ثمينة... نقود بإمكاننا استخدامها لشراء القمح... إن البلد يتضوَّر جوعاً، نحن بحاجة إلى القمح... ومهما قلتِ، فإن الدولارات اليسيرة التى نجمعها بالحرَام، نقوم بإنفاقها على شراء هذه البضاعة، هذه السعادة!»

حتى لفتت جيوفانا انتباه أبيها قائلة:‏ 

- «ولكننا بحاجةٍ أيضاً إلى السعادة!»‏ 

أجابها العجوز:‏ 

- «هذا شىء غير ضرورى. قبل كل شىء، يجب التفكير فى الغذاء.. أولاً الخبز، ثم تأتى السعادة... ولكن على أى حال هذا بلد اللا منطق: أولاً السعادة، وبعد ذلك الخبز».

فلاحظت زوجته الحليمة:‏ 

- «كم تغضب سريعاً! حسناً، أنت لا تحتاج إلى السعادة.. لكن الجميع ليسوا مثلك».‏ 

وغامرت ابنته بشىء من الإقدام:‏ 

- «أنا، مثلاً...»‏ 

قاطعها الأب بنبرة منذرة:‏ 

- «أنتِ، مثلاً...؟»‏ 

فتابعت الفتاة بقنوط:‏ 

- «أنا، مثلاً، سأشترى حقاً، واحدة، واحدة صغيرةً منها، لأعرف فقط كيف هى مصنوعة هذه السعادة.»‏ 

فقال الأب مقاطعاً ومغتمَّاً:‏

- «هيا بنا».‏ 

وتركت المرأتان نفسيهما تُقْتادان بطاعة كالخراف، لكن العجوز كان الآن منزعجاً. فقال:‏ 

- «لم أكن أتوقَّع ذلك منكِ حقاً، يا جيوفانا. أنا مصدوم!»‏ 

- «ولمَ، يا أبى؟»‏ 

- «لأنها بضاعة من السوق السوداء، من محدثى النعمة، من أصحاب الملايين... إن موظفاً فى «الدولة» لا يستطيع أن يطمح إلى السعادة ويجب ألا يفعل... وعندما تقولين إنك تودين شراءها، تثبتين على الأقل عدم إدراكك...! كيف هذا؟ نحن نؤجِّر غرفاً فى منزلنا، ويصلنى راتبى التقاعدى تقريباً فى أول الشهر، وأنتِ... آهٍ، إنك تخيِّبين أملي، إنك تخيِّبين أملى».‏ 

غشت الدموع عينىّ ابنته. فقالت الأم:‏ 

- «هل ترى كيف أنتَ، إنك تمضى وقتك فى تأنيبها. ثم إنها لا تملك شيئاً فى الحياة، وهى شابة، فأى عجب فى أن تحلم بتذوُّق السعادة؟»‏ 

- «ولكن.. لقد استغنى والدها عنها، فهى أيضاً باستطاعتها الاستغناء عنها»‏.

كانوا الآن قد وصلوا إلى ساحة «ريزور جيمنتو».‏ لكن، خلافاً لعادتهم، أراد العجوز، هذه المرَّة، العودة على الرصيف ذاته. وعندما وصلوا أمام المخزن، توقَّف، ونظر طويلاً إلى الواجهة، وهتف بعناد:‏ 

- «هل تعرفان ماذا أعتقد؟ إنها مزيَّفة»‏. 

- «ماذا تعنى بالضبط؟»‏ 

ازدرد ريقه وقال بحماس:

- «حسناً؛ أمس فقط، كنت أقرأ فى الجريدة أن سعادة صغيرةً مثل هذه، فى أمريكا، أقول جيداً فى أمريكا، تكلِّف عدة مئاتٍ من الدولارات... فكيف من الممكن أن يقدِّموها لنا بهذا الثمن؟ إن سعرها مع تكلفة النقل يكلِّف أكثر بكثير... إنها مزيَّفة، إنها منتجات محليَّة... لا يوجد فى ذلك أدنى شك»‏. 

جازفت الأم بالاعتراض:‏ 

- «لكن الناس يشترونها فعلا»‏.

هز كتفيه متحديا:

- «وما الذى لن يشتريه الناس... سوف يكتشفون ذلك بعد أن يعودوا إلى منازلهم، خلال عدة أيام... غشاشون!»‏.

وتابعوا نزهتهم. لكن جيوفانا كانت تبتلع دموعها، وفى خاطرها أن السعادة، حتى ولو كانت مزيَّفة، ستعجبها كثيرًا!‏