الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ومن الحب ما شقى..

أخذت فنجان قهوتها فى يوم كانت الشمس ضيفا خفيفا على شرفتها.. خرجت وسط بستانها الصغير تحتضن دفئها وهى ترى الزهور تتفتح وتتمايل أمامها بخفة ودلع لتسقيها من نسيم رحيقها.. جلست تستنشق ذلك الهواء العطرعلى صوت فيروز، ودون أن تشعر بدأ صوتها يتجلى عاليا معها فى الغناء «حبيتك تنسيت النوم ياخوفى تنسانى.. حابسنى برات النوم وتاركنى سهرانة.. أنا حبيتك حبيتك أنا حبيتك حبيتك».. ابتسمت وتذكرت تلك الليالى التي سرق فيها النوم، على أنغام تلك الأغنية، حين أصيبت بسهام عشقه. 



اندمجت أكثر مع الأغنية وبدأت تصول وتجول معها بمنتهى السعادة، حتى الطيور شاركتها تلك اللحظة وبدأت تغرد بجانبها وتصفر لها كتحية وامتنان لصوتها الجميل.. لم تنتبه بعد من ذلك الاستقبال الجماهيرى المصطف أمامها من الطيور، إلا بعد انتهاء الأغنية لتليها بأخرى لفيروز، وكأن تلك الساعة الصباحية فى الراديو مخصصة لأغانيها.. ارتسمت معالم الفرحة عليها، وكأن هذا الصباح يبشرها بيوم جميل.

بدأ قلبها ينتشى من السعادة حتى دخلت فى نوبات ضحك، أفقدتها السيطرة على نفسها.. تركت ضحكتها تعلو وتعلو، لتصل لعنان السماء دون أن توقفها أو تُهدئ منها.. وكأنها افتقدت لصوت ضحكتها الرنانة التى تقلع قلبها من الداخل.. ظلت تضحك وتضحك حتى سقطت دموع عينيها وتحولت تلك الضحكات لسيل منهمر من الدمع يجرى فوق وجنتيها، لن يتوقف.. حاولت السيطرة عليها، كى لا تعكر صفوة جمهورها المتواضع وتفسد عليهم هذا الصباح المنعش.. لكنها فشلت وانهارت أمامهم كالبنيان المتصدع الذى افترشته الأمطار أرضا.. فقد أغرقت الدموع وجهها بالكامل، وجعلته باهتًا ذابلاً منطفئا.. كالوردة التى ذبلت وجفت أوراقها وتطاير رحيقها. 

مسحت بأناملها الناعمة آثار تلك الفوضى التى أحدثتها دموع العين.. لتجد حولها الزهورتحيطها بألوانها المبهجة، لتنير بوجهها الباسم من جديد.. وكأنها تساعدها على الهروب من السقوط فى بحر الدموع والابتلاع داخل أحزانه الهائجة. 

 انسحبت بهدوء وتركتهم يكملوا سيمفونياتهم الغنائية مع فيروز.. وجلست على أريكتها سارحة فى ملكوتها، تستمتع بهذا الجمال المشمس الدافئ، الذى يحتضنها من الداخل ويهدئ نشيجها.. أخذها الحنين عندما كانت فتاة رشيقة القوام أنيقة المظهر.. يتحاكى الكل عن جمال طلتها ورقة أسلوبها، لم تكن فى حاجة للتبرج لتظهر أنوثتها، يكفى أن تتحدث لتطغى روحها الجميلة وابتسامتها المشرقة التى لا تفارق وجهها أبدا على المكان بأكمله.. فرغم عروض الزواج التى كانت تنهال عليها، فإن هذا لم يحرك بداخلها ذرة أنملة من مشاعرها.. فترى أن الحب ليس عرضا وطلبا، يجب أن تجرى وراءه من أجل الالتحاق به، مثلما كان سائدا وسط بنات عائلتها. 

فكانت تستمتع أكثر بحياتها كلما كان قلبها منشغلا بها، خاليا من الحب.. لكن للأسف لم يدم هذا الاستمتاع كثيرا، حتى دق للحب، وزلزل الحبيب كيانها وسرق سكينتها الداخلية وجعلها تدمن أغانى الحب لتراه فيها. 

ضحكت وتذكرت أسلوبها الذى كان يخفى عكس ما بداخلها من مشاعر جميلة تجاهه، عندما كان يثنى عليها بكلمات الحب.. لتذوب كقطعة الثلج أمامه ويحمر وجهها خجلا وتنفرج أساريره ويزداد نورا. 

أخذتها الذكريات وتذكرت وقتها عندما جرت على حضن والديها الذى لم تخرج منه بعد، لتستوطن بداخله.. وبدون مقدمات إنشائية وترتيب للكلام.. بدأت تسترسل فى الحكى عن حبيبها.. حتى قضت ليلها ساهرة داخل أحضانهما، تتغنى بالكلام عن الحبيب الذى سيأتى لمقابلتهما.. فكانت كالفراشة المتحررة فى حديثها تنقل لهما كل ما لذ وطاب فيه.

عاشت أسعد لحظات حياتها فى بداية حبها.. لدرجة أنها حاولت أن تخفى هذا الحب عن أعين الناس خوفا من أن يشيخ ويذبل قبل حصاده.. لكن رائحة عطرها المميز التى تفوح لتملأ أرجاء العمارة وهرولة قدميها على السلالم.. كانت تفشى دائما مواعيد لقائهما وسط الجيران.. فكانت تحلق بحبه عاليا حتى لا تلمس قدماها الأرض فتصاب بواقعية الحب وتصدم بهلاكه. 

لم تتوقع يوما أن رفيق العمر التى اختارت أن تعيش معه الحب، هو نفسه الحبيب الذى حكم عليها بشقاء القلب.. عندما بدأ يدس لها السم فى العسل أثناء لحظات السعادة التى كانت تجمعهما سويا.. ليسيطر عليها، ويجعلها أشبه بالعجين الرخو، مطاعة لأوامره، يشكلها بالطريقة التى تحلو له.. فكلما زادت فرحتها به، كلما أكثر من سمه المعسول.. للإمساك بزمام أمورها والسيطرة عليها أكثر. 

ضحكت على نفسها، وتذكرت سذاجتها فى ذلك الوقت.. عندما كانت فتاة مطيعة له، مفعمة بالحيوية والجمال والحب.. تخطو أولى تجاربها العاطفية، التى ستترك فيها حضن والدها، لتذهب وتتربع داخل أحضان حبيبها لتصبح سيدة قلبه وأسيرة حبه. 

فلم يمر الكثيرعلى زواجهما، حتى بدأت تحكماته تنهال عليها.. وبدأت عقليته تفرض السيادة الذكورية فى جمالها وأسلوبها ومظهرها.. وكأنه ضمن وجودها بعد ما أدخلها عرينه.. فمن الصعب أن يصمد الرجال كثيرا أمام المرأة فى تلاعبهم بالكلمات والأفعال المؤقتة والوعود الوردية.. فالطبع دائما يغلب التطبع، ليسقط القناع الزائف الذى يرتدونه ويكشف عن وجههم الآخر. 

لم تصب بيأس تغيره المفاجئ.. فقد حاولت أن تكسب رضاه وتروض تلك العقلية الذكورية.. حتى كلفها ذلك، التنازل عن كل ملذات الحياة التى كانت تفرحها وتزيد من جمالها كأنثى.. واستطاعت بنعومة ودلع أن تغير ما لا يروق له فى سبيل الحفاظ على مملكتها الصغيرة.. لكنها للأسف لم تستطع الاستمرار فى ذلك كثيرا.. فسقف تحكماته لم يعطها الفرصة لذلك، كان يعلو دائما، متدخلا فى كل تفاصيل حياتها، الصغيرة قبل الكبيرة.. حتى أفقدها متعة الحياة بعدما كانت تتمنى أن تعيشها يوما معه.. وكأن ليالى الحب والوصال التى كانت بينهما باتت تندثر. 

بدأت تتساقط أوراق العمر وتذبل أمام مرآتها كلما وقفت أمامها.. حتى أصبحت أشبه بدمية متهالكة لم يمر على زواجها سوى بضع سنوات، لتصبح بملابس مهلهلة لا تناسب حجمها، مليئة بالرقع التى تحكى عن فقدانها للحب وحرمانها للاهتمام العاطفي.. وشعرها المبعثر الذى كان يحكى لسان حالها نصفه متساقط والباقى يعانى من الضعف والتقصف.. جالسة على كرسى خشبى ردىء يشبه حالتها، التى فقدت فيها بريقها وجمالها بعدما أصبحت مستباحة له.. 

انتبهت لأصوات العصافير تعلو حولها، وكأنهم يوقظونها من السقوط أكثر فى دوامة الحنين والغرق داخل ذكرياتها. 

شعرت فجأة ببرودة، تشبه تلك البرودة التى تتسلل بداخلها حين تكون بين أحضانه.. حتى اقشعر بدنها وانتفضت من مكانها معتقدة أنها ستجده يقف بجانبها يملى عليها رغباته، لكنها وجدت الشمس تودعها بعدما احتضنت ألمها وتسحب دفئها، بعد ما أنيرت عتمة قلبها.. لتتركها تعيد النظر بحياتها مرة أخرى وكأنها تشجعها على التحرر من تلك النسخة الماسخة التى تحولت لها، كى تنقذ ما بقى من العمر.