الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
برا المنهج.. برة الصندوق

إستراحه مشاهد

برا المنهج.. برة الصندوق

يبدأ فيلم «برا المنهج» لعمرو سلامة مخرجًا ومؤلفًا – بمشاركة خالد دياب- بتعليق صوتى لماجد الكدوانى يصف فيه الصورة غير الحقيقية للطفل «نور» وشهرته «عماشة». صوت الكدوانى «أحمد وحيد – المراكبى» تظنه فى البداية موظفًا ليكون الراوى لأحداث الفيلم سواء داخل المنهج أو خارجه كما تقول فلسفة الشريط، لكن ما رام له عمرو سلامة ظهر فى الثلث الأخير من الأحداث عندما نكتشف أن أحمد وحيد هو نفسه مذيع النكسة الذى كذب على الناس وتلا على الجمهور بيانات خاطئة أوهمتهم أننا انتصرنا فى حرب دخلناها بدون استعداد حقيقى. هذا الاستهلال جاء ليؤكد لاحقًا أننا أمام فيلم أبعد بكثير من سرد معاناة طفل فقير يتيم الأم، يعانى من غياب الأب وسخرية الزملاء بسبب ضعف بصره.



عمرو سلامة خرج بفيلمه الأخير «برة الصندوق» بالمعنى الحرفى للكلمة التى يتم استغلالها كثيرًا من أجل الادعاء بإبداع أشياء جديدة وهى فى الحقيقة لا تقل تقليدية عن ما سبقها اللهم إلا فى الشكل أحيانًا، فيما صاحب «برا المنهج» نجح فى التجديد على مستوى الشكل والمضمون.

لا يمكن بأى حال من الأحوال سوى الإعجاب بأن صانع الفيلم طرح سؤالًا عن ماذا جرى لمذيع النكسة بعدما كشفه الناس وحسبوه كاذبًا؟. الشخصية الحقيقية تحدثت كثيرًا وبرأت نفسها بعد ذلك، لكن ما يذهب لا يعود. لذلك فى الشريط السينمائى صاغ عمرو سلامة صورة متخيلة لا تنقصها الواقعية، فرضية أقرب للتحقق منها لعدم التصديق؛ المذيع المنتكس قرر عزل نفسه، حوَّلها إلى شبح، لم يعد قادرًا على مواجهة الناس ولا حتى ابنته.

 

واستغل سلامة هذه المعالجة من أجل التقاء نور بأحمد وحيد حتى يعكس كيف يعانى المجتمع بالكامل من الكلام فى اتجاه والفعل فى اتجاه آخر، سواء فى حياتنا اليومية أو فيما نرويه من قصص تاريخية. وهنا يأتى الخروج برة الصندوق على مستوى الشكل فى مشاهد استعادة حكايات إخناتون وصلاح الدين وعمر مكرم وروايتها من جديد، لكن برا المنهج المحفوظ الذى ردده المصريون أجيالًا ورا أجيال، حتى وصلنا لهذه الحالة من ترسيخ تفاوت الحقائق وتربية الأطفال على إلقاء الاتهامات فوق عاتق الآخرين، وإنكار النواقص، والتنابز بالألقاب، والإيمان بالغيبيات واستخدام المواهب فى كل ما هو سلبى، مثل موهبة التلميذ الرسام فى تزوير توقيع الخالة على الشهادة.

باختصار تكمن أهمية هذا الفيلم من وجهة نظرى فى أنه محاولة جريئة لتجسيد الموروث الثقافى السلبى فى المجتمع المصرى على شاشة السينما، انطلاقًا من سؤال لم يلح على الكثيرين، وهو «كيف عاش مذيع النكسة بعد استبعاده من وراء الميكروفون؟».

 

بوستر الفيلم
بوستر الفيلم

 

يبرع عمرو سلامة فى تدريب الأطفال الذين يدفع بهم أمام الكاميرا، وظهر هذا بوضوح فى أداء البطل الرئيسى «عمر شريف» وزميله «إبرام سعيد» وباقى الأطفال بلا استثناء حتى الصامتين منهم. وبالتأكيد لا حاجة للتأكيد على براعة ماجد الكدوانى فى تقديم شخصية تتكشف دواخلها لقطة تلو الأخرى، دون أن يسمح للجمهور بالتخمين بل بالتعايش حتى يعرف الحقيقة فى وقتها المناسب. وجاءت موسيقى راجح داوود كأحد عناصر القوة الرئيسية فى هذا الفيلم بجانب ديكور على حسام، الذى نفَّذ تصوُّر المخرج بتجريد الزمان والمكان باحترافية، وإن كانت الملابس والسيارات وتكرار اسم النجم نور الشريف يوحى بأن الأحداث تدور فى نهاية السبعينيات، لكن التجريد يهدف دائمًا لأن يركز المتفرج مع الرسالة لا مع التوقيت.

صحيح أن العمل يُصنَّف بأنه دراما كوميدية وقد يراه البعض موجهًا للأطفال بشكل أساسى، وصحيح أن عمرو سلامة يخاطب العقلية المصرية بشكل عام، لكن لم يمنع الأمر من ثغرات كان من الأفضل تفاديها، مثل اندهاش أحمد وحيد من إنتاج فيلم عن صلاح الدين رغم أنه عرض عام 1963، فيما اعتزل وحيد بعدها، وبالتالى شاهده قبل النكسة بالتأكيد. كذلك عدم تبرير إقامته فى المنزل وحيدًا دون أى مصادر للطعام والشراب والدواء، ثم قرار الابنة بهدم المنزل فور علمها بوجوده، وكأن العثور عن الأب ليس أولوية بل نسيان الماضى الذى أكد الفيلم فى نهايته أنه سيظل يعيش معنا، لكن المهم كيف نقرأ هذا الماضى - برا المنهج لا داخله - ونتعامل معه من أجل مستقبل أفضل.