الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

سالمة

خرجت فى ذلك اليوم من بيتها وكعادتها كل يوم تبحث عن قوت يومها، عن القليل من المال علّها تبتاع بعض الطعام لها ولإخوتها الأربعة. فهى العائل الوحيد لهذه الأسرة منذ سنوات طوال. وفى كل صباح تبادرها الخطة ذاتها، الفرار. تعبت، ملّت بل يئست من أى تغيير من شأنه أن ينقذها مما هى فيه. حياة رتيبة، هادئة.هادئة أكثر من اللازم. بيت ناءِ، وأسرة صامتة.



أربع إخوة يتشاركون العمر ذاته باليوم والدقيقة، والعجز ذاته بفقدان البصر والقدرة على الاستماع، ومن ثم النطق والكلام. ماعداها، ولدت فتاة كغيرها من الفتيات تلهو وتمرح مع قريناتها خارج المنزل وتذهب إلى مدرستها وتعيش فى كنف أسرة تحتضنها. حياة عادية، كم تتمنى الآن أن تحياها. تغير كل شیء يوم شكت الأم بمصاب أبنائها الأربعة، صدمة جديدة كبيرة تضاف إلى الصدمة الأم بمولد أربعة توائم فى أسرة لا تعلم إن كانت ستملك حق إطعامهم أم لا.

وحين تأكدت مما أصاب أبناءها، لم تملك سوى الصراخ والعويل، ولم يملك الصغار سوى الابتسام كلما أخذتهم بين ذراعيها.مصاب جلل وحزن كبير. وشعور بالأمان والهدوء والسكينة.

شعوران اجتمعا فى بيت واحد، بل فى صدر واحد، صدرها هى التى تحملت المسئولية برمتها بعد هروب أمها.

فتاة فى الثانية عشرة ترعى أربعة أطفال رضع. بدأت حياتها معهم هى الأخرى بالصراخ والعويل لشعورها بالعجز معهم، كيف لها أن ترعاهم، تريد أن تلعب وتتعلم وتمرح كمثيلاتها.. كيف لحياتها أن تنقلب هكذا رأسًا على عقب بين ليلة وضحاها.. كادت أن تجن، ولم تتوقف دمعاتها لأشهر طويلة، حاول خلالها أهل قريتها مساعدتها برعاية الأطفال معها حينًا، وترك بعض الطعام والمال على باب منزلها أحيانًا أخرى. وشيئًا فشيئًا توقفت المعونات وتوقف الاهتمام، وتوقفت هى الأخرى عن البكاء. ولم تملك سوى الاستسلام لواقعها الجديد، وأول ما فعلت هو البحث عن بيت أصغر وعمل لتتمكن من سداد إيجار المنزل وإطعام إخوتها، فوجدت بيتًا نائيًا فى أطراف قريتها يتكون من غرفة واحدة وأقرب البيوت له يبعد عنه مسافة كبيرة..هدوء ووحشة جديدة تُضاف إلى هدوئها الجبرى الذى لم تجد منه مفرًا. وحين استقرت بهذا المكان، اختارت لإخوتها أسماء تخاطبهم بها، فأمها وجميع الجيران والأصدقاء توقعوا موت الأطفال فى أقرب وقت بسبب الحال التى ولدوا عليها، فلم تمنحهم اسمًا، أو اهتمامًا، ما كان منها سوى الانتظار.. أن تحل معجزة تغير من حياتها.. أو يموت الأطفال.. وحين طال الأمر.. تركت كل شيء لتفر هاربة.. فتتولى الأخت الكبرى تسميتهم وهم فى عامهم الأول فأسمتهم «حياة»، «وُد» «نجاة» و«سلام».

وبدأت حياتها معهم أمًا وأختًا، تتركهم كل يوم وتغلق باب الدار من خلفها ولا تعود إلا فى المساء، آتيةً ببعض الفتات تقيم صلبها وصلبهم. وظلت حياتها على تلك الحال حتى مرت أكثر من ثماني سنوات.

وبالرغم من قسوة الظروف، إلا أن حبها وتعلقها بإخوتها ازداد يومًا بعد يوم، فحين يشعر الأطفال بمجيئها ترتسم على وجوههم ابتسامات كبيرة، كل بطريقته، وكل لحاله دون أدنى اتفاق، وحين تمسك بأيديهم لتجمعهم وقت الطعام وتفترش الأرض وسطهم يقبلون عليها بعناق دافئ واحد تلو الآخر..أحبوها وأحبوا رائحة الطعام الساخن ورائحتها.. لتتوسطهم بعدها وينام الجميع فى انتظار يوم جديد لا يختلف أبدًا عن سابقيه.

تواتر الأيام على الحال ذاته أرهقها، وكانت فى كل يوم تقول لنفسها إن إخوتها «مبروكين» وأن الله لن يتركهم أبدًا، أما هى فلابد وأن تبحث عن حياة أفضل بعيدًا عنهم وعن قريتها.. حتى إنها كانت من الشجاعة لتسافر وحدها ولأول مرة لتسأل وتستفسر عن إمكانية استكمال دراستها، كان شغلها الشاغل وحلمها القديم، دراسة وعمل، حياة أفضل تليق بها، وزوج مناسب من أهل المدينة، لتلحق بركب صديقاتها القدامى.. حياة عادية، وبالنسبة لها كانت أكثر من مثالية.

تكررت الزيارات إلى المدينة بين هذه المصلحة الحكومية وتلك، وهذه المدرسة وغيرها، حتى إنها شرعت بالبحث عن منزل جديد لها.. وكانت تعود كل يوم فى وقت متأخر من الليل، لتجدهم صامتين، مبتسمين مرحبين بقدومها، لتطعمهم، وتستأنف هى الغوص فى أحلامها التى أوشكت على تحقيقها.

وفى إحدى زياراتها للمدينة، وبينما هى تسير بأحد شوارعها سمعت حديثًا بين شابين، تصورته مزحة فى بداية الأمر، لكن المدهش أن المدينة بأكملها كانت تتكلم فى الموضوع ذاته.. وكلما ذهبت إلى إحدى وجهاتها اليومية بادرها الموظفون بالعبارة نفسها «مدرسة إيه وتعليم إيه! روحى لأهلك».. لتسأل نفسها: «أى نيزك هذا الذى سيرتطم بالأرض؟ وماهو النيزك بالأساس؟.. وأى عالم هذا الذى سينتهى غدًا!».. بدت كحكاية أسطورية كتلك التى كانت تستمتع إليها وهى صغيرة فى المولد.. شيئًا عبثيًا لا يمت للواقع بصلة.. 

لا.

لقد خططت لحياة جديدة وأحلام كبيرة ولابد وأن تحققها.. حتى وإن كانت نهاية العالم وشيكة كما يقولون، فلابد وأن تحيا ولو ليوم واحد فى عالمها الذى طالما تمنته وحلمت به.. وعند عودتها فى المساء بدت القرية على حالها هادئة، وساكنة، «هل هكذا يكون حال من يعلمون أن نهايتهم بالغد! لابد أن الأمر كله عبارة عن مزحة سخيفة».

وفى الصباح، استيقظت على صراخ امرأة بالقرب من نافذتها، تمنت من كل قلبها أن يكون الصراخ لسبب آخر فخرجت من البيت من فورها لتجد مجموعة من النساء اللاتى وصلتهن الأخبار المؤكدة بنهاية العالم الوشيكة وكل منهن تعبر عن ذعرها بطريقتها، فصرخت بوجههن جميعًا «عالمكم أنتم سينتهى أما أنا ف لا، ابتعدوا من هنا، ابتعدوا».. ردة فعلها كانت صادمة حتى إن النساء توقفن للحظات يتأمّلنها وكانت المرة الأولى التى يستمعن فيها إلى صوتها منذ سنوات، حتى إن كثيرًا منهن كان يظن أنها أصيبت بالخرس جراء مرض مُعد نقل إليها عن طريق إخوتها..

هرعت إلى داخل المنزل وأحضرت أغراضها القليلة وتركت الطعام أمام إخوتها وقبّلتهم جميعًا كل على وجنتيه، عدا سلام الذى أمسك بيديها ولم يكن يريد أن يتركها، حتى ربتت على كتفه لتطمئنه وتركت باب المنزل مفتوحًا وللمرة الأولى منذ سنوات علّ أحدهم يأتى لينقذهم.

سارت فى طريقها المعتاد فى اتجاه العربات المتجهة إلى المدينة كل يوم، ولكن القرية كانت خاوية، «أين ذهب الجميع !».. استكملت طريقها حتى وصلت إلى «موقف» السيارات فلم تجد أحدًا.. وعلى مسافة بعيدة وجدت رجلًا فنادته بكل ما أوتيت من قوة مستفسرةً عما حدث لأهالى القرية فكان رده «واقفين عند الشط، مستنين النيزك».. أغضبها حديثه كثيرًا فسألته عن أقرب مكان لتجد سيارة تقلها إلى المدينة فامتعض لسذاجتها وتركها وحدها فى حال أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه حال ضياع.. وشعور عظيم بالفقد.

توجهت نحو الترعة حيث اجتمع الأهالى، الرجال يصلون والنساء يبكين وهن متشبثات بأبنائهن، فأخذت تسألهن عن سائق يمكنه أن يأخذها إلى المدينة، فلم يجبها أحد وقد توجهت الأبصار جميعها نحو السماء.. وحين كررت سؤالها لأكثر من مرة دون إجابة صرخت «أريد أن أرحل.. أريد أن أرحل» فدفعتها إحدى السيدات حتى وقعت على الأرض وقالت لها بلهجة حازمة «فوقى.. سفر إيه.. الدنيا بتخرب..الدنيا بتخرب» وقالت أخرى: «روحى شوفى إخواتك، روحى هاتيهم وتعالى أقفى معانا».

فأجهشت بالبكاء وقد شعرت أن النهاية قد أتت لا محالة.. نهاية عالمها الجديد وأحلامها.. أما نهاية العالم، فلم تكن تعنيها فى شىء.. توجهت إلى بيتها لتجد كل شىء على حاله، باب المنزل مفتوح وإخوتها بالداخل ولكنهم اقتربوا كثيرًا من بعضهم البعض، ربما لشعورهم بالبرد.. أو الخوف، فهى لم تعتد ترك الباب مفتوحًا، وما أن أغلقت الباب من خلفها واقتربت منهم، حتى ارتسمت الابتسامة على وجوههم جميعًا ومد «سلام» يده أمامه باحثًا عنها، فجلست جلستها المعتادة وسطهم، وحاولت أن تمسك بأياديهم جميعًا فى الوقت ذاته.

ومن بعيد وصل لأذنيها صوت ارتطام عنيف وصراخ، فارتعبت ليمسك إخوتها بها، فتقرر أن تغمض عينيها وتلقى بنفسها فى أحضانهم.. لتسلم من نهاية العالم.