الآلهة يأكلون البتاو؟!

تحقيق: مريانا سامى
منذ بدايات التاريخ والمصريون هم الشعب الوحيد الذى سمى الخبز «عيش»، والعيش فى حياة المصريين لأنه أحد أهم الأصناف علی المائدة، وتنوع العيش وأسمائه وطريقة خبزه من محافظة لأخری ومن منطقة للثانية.
ففى الصعيد تجد العيش الشمسى وفى الريف «البتاو» والمجردق وفى عصور قديمة قدم المصرى القديم الخبز قربانا للآلهة ودفنه مع الملوك الفراعنة لمساعدتهم فى الحياة الآخرة.

ويتنوع شكل الخبز فى مصر وفق كل محافظة من بحرى غير قبلى مثل العيش الشمسى، العيش الملدن، العيش المرحرح، عيش البتاو، عيش الملتوت، المجردق، البكوم، وأخيرا العيش البلدى.
ووفد إلى مصر عدد من الأنواع الأخرى الفرنسية والشامية، لكن العيش الشمسى هو أقدم تجربة صناعة خبز فى التاريخ، ترصدها جدران المعابد ومقابر المصريين القدماء من خبز دائرى مرتفع يشبه العيش الشمسى فى الصعيد حاليا.

والعيش الشمسى «طرى» منتفخ إلى حد ما مصنوع من دقيق القمح وارتبطت تسميته بالشمس لأنها تدخل فى واحدة من مراحل خبزه وتسويته والتى تستغرق عادة يومين كاملين.
ويمر العيش الشمسى بعدد من المراحل، يتم فى البداية خلط الدقيق مع قليل من المياه والخميرة ثم يغطى ويترك للصباح ليختمر.
تليها مرحلة العجين وفيها يتم التزويد بالماء وتقوم النساء بالعجن بيديها وبكل قوتها، ثم مرحلة «التقطيع» «التقريص» وفيها يتم تقطيع العجين بشكل دائرى ويوضع علی ألواح طينية تحت أشعة الشمس ساعتين تقريبا ليكتمل اختماره.
وهذه الخطوة تنقى العجين من أى ميكروبات عالقة، ثم يتم عمل فتحات فى العجين من خلال إبرة خيط أو شوكة يرسم فى منتصف الخبز رقم 11 وخط دائرى إشارة للإله رع فى موروث قديم مازال متداولا دون أن يعرف الكثيرون أصله. ثم بعد الساعتين يوضع العجين على «المطرحة» ويدخل الفرن. وتتنافس النساء فی الصعيد وتختلف مهاراتهن فى العيش الشمسى فمنهن من تضيف قليلا من اللبن أو السكر أو الحلبة ويعتبرون كل نوع له سر بكل ست بيت.

البتاو هو المصنوع من دقيق الذرة ويختلف شكله فى الريف عن الصعيد، ففى الريف يشبه البتاو الرقاق، أما فى الصعيد فهو يشبه العيش الشمسى إلى حد كبير، ولكن حجمه كحجم كف اليد.
ويرجع أصل تسمية البتاو للمصريين القدماء، حيث كانت كلمة خبز تكتب على شكل رغيف مستدير وتنطق تاو أو تى.
واستخدم المصری القديم كلمة قديمة للتعبير عن «الخبز» مكونة من مقطعين، المقطع الأول هو با التى تعنى الروح، والمقطع الثانى هو تا أو تى لتصبح الكلمة «با - تا»، ثم حرفت لكلمة باتاو أو البتاو، وكانوا يعتبرون هذا النوع من الخبز وهو الخبز الذى تفضله الآلهة.
والبتاو كان خبز عامة الشعب من عصور سحيقة، لأن دقيق الذرة أرخص من دقيق القمح الذى كان حكرا علی طبقة الأغنياء.
وهناك أنواع مختلفة من البتاو منها القيضى، والشامى وخليط من القيضى والشامى، وخليط من الذرة بنوعيها مع القمح وأخيرا بتاو الحلبة، حيث بعض الأهالى فی محافظات مختلفة يضيفون الحلبة فى خليط الدقيق لتكسب الخبز مذاقا.

طارد الأشباح
أما العيش «المجردق» أو «الفراشيح» فهو عيش البدو وينتشر فى سيوة ومطروح بشكل كبير وله مكانة خاصة عند أهل سيوة بالتحديد، ويخبز باستمرار فى عيد الصلحو أكتوبر من كل عام وهو عيد فلكلورى يحتفل به أهل سيوة فوق سفح الجبال مع التخييم والغناء والرقص، حيث الوجبة الغذائية الرئيسية فى هذا اليوم هو المجردق والفتة واللحم. ويسمى المجردق بخبز الصاج لأنه يخبز على صاج ساخن، ويتم إعداده من دقيق الشعير بدون أى نوع من الخميرة ويضاف العجين ثم يفرد على صاج فوق موقد من الحطب. وبعض القبائل تصنع منه حلوى المفروكة وهى عبارة عن تفتيت خبز المجردق إلى فتات ثم وضع السمن أو الزبد عليه ثم عجوة التمر ويفرك جيدا إلى أن يصبح مختلطا. ومن طقوس المجردق القديمة التى وتطورت حيث اليوم تقوم النساء بتلاوة بعض آيات القرآن وغناء بعض الأغانى الشعبية خلال خبز المجردق، لاعتقادهن بأن ذلك يطرد الأرواح الشريرة، وأن نار الموقد تسكنه الجان، ورغم غرابة الاعتقاد فإن السيدات فی البادية توارثنه، وأصبح من الطقوس المهمة عند صنع المجردق.
أما الفايش الصعيدى، فهو يشبه البقسماط، ويميل للأصفر القاتم وحوافه بنية وينتشر فى سوهاج وقنا بشكل كبير ولا تخلو مائدة إفطار أو عشاء منه تحديدا مع كوب من الشاى أو اللبن. ويتميز الفايش عن أى مخبوز آخر بنوع الخميرة تتكون من بواقى حصاد محصول القمح أو السمسم والعدس والحليب إضافة لمكونات أخرى.
وتقوم النساء بلف المكونات بقطعة من القماش النظيفة ووضعها علی أسطح المنازل حتى تختمر وتفوح رائحتها ثم توضع الخميرة وتعجبن بالدقيق، ويتم إضافة السمن البلدى والسكر والسمسم والكركم والحليب، ويعجنونه لمدة ربع ساعة تقريبا بشكل متواصل دون توقف.
وتقوم السيدات بتقطيع الفايش قطعا مستطيلة الشكل ليوضع فى الفرن البلدى على نار هادئة حتى يصبح مقرمشا. تعود أصول الفايش إلى صعيد مصر من عصور قديمة وأهل الصعيد هم الأمهر فی صنعه وتشير بعض المصادر إلى أن بداية انتشار الفايش كان فى العصر الفاطمى وكان ضمن المخبوزات والحلويات التى تمت صناعتها فى هذا الوقت، واعتادها المصريون، بينما تشير أخرى إلى أن المصريين القدماء عرفوا الفايش ضمن المخبوزات الكثيرة التى حرصوا على وجودها.
وعثر على نقوش على حوائط معابد قديمة تشير إلى الفطير المشلتت أو الملتوت المحلى بالعسل والسمن كما أطلق عليه قدماء المصريين منذ آلاف السنين. ويقال إن القدماء المصريين قدموا الملتوت كقربان للآلهة بسبب أنه مخبوز من عناصر قيمة كالدقيق الصافى ووضعوه فى مقابر الموتى اعتقادا منهم أن الميت سوف يأكله بعد بعثه فى الحياة الأخرى.
والملتوت تتعلمه الفتاة وإتقانه من علامات نضجها واستعدادها للزواج.
وسم الفطير المشلتت بالملتوت أو «المطبق» لأنه مكون من طبقات فوق بعضها، ثم تحولت الكلمة بعد ذلك وأصبحت «مشلتت».
ومن المتعارف عليه أن هذا النوع من الفطائر ينتشر بشكل كبير فى الريف والصعيد باعتباره قرينا أساسيا مع الجبن والقشدة والعسل.