الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مدينة الصبر.. والنضال.. والجمال

بورسعيد.. المقاومة بالبندقية والسمسمية

مدينة المقاومة
مدينة المقاومة

بورسعيد درة الموانئ وجوهرة مصر بوابة العبور للهند، على أرضها يقع الحد الفاصل بين قارتى آسيا وإفريقيا.  المدينة العظيمة التى شهدت المعارك وأسرت إعجاب كل من طاف بها.



ذكرت فى التوراة باسم «سين» ومعناها قوة مصر، وهى أعظم مدن المنطقة خلال فترة الأسرات فى العصر الفرعونى.

حسب الروايات  القديمة فإن  «ست» قتل أخاه أوزوريس فى هذه المنطقة ويقال إن فى أرضها قبر جالينوس أعظم فلاسفة اليونانيين.

 

 كان الموقع الحالى للمدينة عبارة عن قرية للصيادين، فى سالف العصور.. مكان متسع يحيطه الوحل من كل جانب  يحل محله مدينة فرعونية كان يطلق عليها اسم «برامون» أى مدينة الإله آمون، مواجهة لمدينة برما، وعندما دخل اليونانيون مصر استوطن معظمهم الساحل وكانت لبورسعيد النصيب الأكبر من تواجد اليونانيين فأقاموا ضاحية أسموها «بيلوز»، ومعناها الطينة كثيرة الأوحال.

 

الفنار القديم على مدخل بورسعيد
الفنار القديم على مدخل بورسعيد

 

 فى العصور الوسطى، توسع النطاق الجغرافى للمدينة وضمت إليها  منطقة الطينة ومنطقة تانيس، وتانيس  فى سالف العصور بحيرة جميلة تسمى «المنزلة الآن»، قبل دخول الإسلام كانت هذه المدن الثلاثة قد التحمت وأطلق عليها العرب اسم الفرما التى تطل على البحر المتوسط وعلى بحيرة المنزلة.

 كانت بورسعيد مفتاح مصر الشرقى. إذ تشرف على  الطريق القادم من الصحراء، وتملك ناصية البحر. وكان الفينيقيون يدخلون مصر بمراكبهم من هذا الطريق الذى شهد تسرب الهكسوس للبلاد أيضا. 

 أقام الهكسوس مدينة ملاصقة اسمها «جات أورات» وبنوا عليها القلاع والحصون ووضعوا بها حامية مائتا ألف جندى واجتاح الفرس الفرما عام 616، وحطموا كنائسها وأديرتها لكنهم لم يستطيعوا  احتلالها لبسالة وشجاعة أهلها.

عام 640 فتح  عمرو بن العاص الفرما، روى المقريزى أن قبط الفرما ساعدوا المسلمين، ومن الفرما بدأ الفتح الإسلامى لكل مصر.

 

جنينة الملكة نازلى
جنينة الملكة نازلى

 

مرت بورسعيد بالعديد من الهجمات والمعارك العسكرية، لكنها كل مرة كانت تعاند الزمان الذى لم يستطع أن يمحو  اسمها، فقد قام «بلدوين الأول» ملك بيت المقدس بتدمير المدينة أثناء الحروب الصليبية، عام 1118 فاختفت الفرما نهائيا، ولم يبق منها إلا بعض آثار للفرما القديمة  تذكيرا بالمكان الذي شهد كافة المعارك المصرية مع الأشوريين والفرس، وكان لرجالها دور كبير ضد جيوش كسرى والصليبيين والمماليك والأتراك.

 أشهر مناطق بورسعيد مدينة «تنيس» التى كانت ثغرا بحريا ومقرا للأسطول وبها دار صناعة السفن.. اشتهر أهلها بالغنى والثروة وامتهن أغلبهم صيد الأسماك والطيور وازدهرت بها صناعة الملابس والمفروشات.

 شواهد التاريخ تشير إلى مدى اهتمام العباسيين والطولونيين والإخشيديين  والفاطميين بمصانع النسيج فى تنيس التى أطالق عليها دور الطراز كانت تنتجه من أنواع الخلع الثمينة والمطرزة باسماء الخلفاء ووزرائهم فضلا عن كسوة الكعبة الشريفة. 

 وظلت مصر تنال شرف الكسوة  حتى عام 1927 كانت الكسوة تخرج من بورسعيد كل عام بموكب كبير يطوف  شوارع المحروسة قبل أن ينطلق فى رحلته إلى السعودية. 

 

كسوة الكعبة المشرفة
كسوة الكعبة المشرفة

 

  اسم بورسعيد حديث مٌركب من port ومعناها ميناء، وسعيد، سعيد باشا والى مصر.

فبعد قيام مسيو فرديناند دى ليسبس بتشكيل لجنة هندسية لدراسة تقرير المهندسين عن إمكانية حفر قناة بين البحرين المتوسط والأحمر بالتأكيد على أنه لا خوف من منسوب المياه لأن البحرين متساويان.

أصدر سعيد فرمان الامتياز الثانى  ببدء حفر القناة من ميناء السويس إلى البحر المتوسط عند نقطة خليج الفرما. كان حدث حفر قناة تربط البحرين الأبيض والأحمر استعادة لفكرة قديمة نفذها الملك الفرعونى «سنوسرت» الثالث، وسميت بقناة «سيزوستريس» وصلت البحرين الأبيض والأحمر بفرع النيل عام 1869 ق.م. 

 وبعد 60 عاما أعاد سيتى الأول حفرها وأمر الإسكندر الأكبر  بإعادة حفرها، وجاء بطليموس الثانى فأتم حفرها ثم أعيد حفرها مرة أخرى بأمر من عمر بن الخطاب  قبل أن يأتى الفرنسى دليسبس ليعيد حفر القناة بافتتاح أسطورى.

كان تدشين دليسبس لقناة السويس، بداية لاستعادة مدينة بورسعيد حديثة، وقامت شركة القناة الفرنسية بتشجيع العمال المصريين وأقامت لهم العشش بمنطقة العرب وقامت بتعيين إمام للمسلمين بمسجد القرية. 

 

أقدم إرشاد للسفن
أقدم إرشاد للسفن

 

 ركزت الشركة على جعل بورسعيد صالحة لرسو السفن فقامت بإنشاء الورش الميكانيكية وحفرت قناة داخلية صناعية تصل بين منشآت  الميناء  وبحيرة المنزلة، كما أسست فنارا مؤقتا من الخشب على الساحل يضيء لمسافة 10 أميال وبعد بناء أول رصيف للميناء بدء تنفيذ  الفنار الجديد بموقعه الموجود للآن فى مارس 1870.

عام 1869 سافر الخديو إسماعيل لأوروبا لدعوة الملوك والأمراء ورؤساء الحكومات ورجال السياسة والعلم والأدب والفن  لحضور افتتاح القناة، وبعد أن عاد إلى مصر بدأ الإعداد لحفل كبير واستعان بـ500 طاهٍ وألف  خادم  استعدادًا لاستضافة ستة آلاف مدعو.

كان يوم افتتاح القناة عرسا لبورسعيد، واجتمع المدعوون تحت  الإيوانات والمظلات التى أعدت فى أفخم صورة وتوسطت الإمبراطورة أوجينى الصف الأول وإلى يمينها إمبراطور النمسا والخديو إسماعيل ثم ولى عهد بورسيا فولى عهد هولندا وعقيلته وإلى يساره جلست مدام إليوت عقيلة سفير إنجلترا  بتركيا.

 

المينا القديم
المينا القديم

 

 ثم تلاهم السفير إليوت فالأميرة مورا، وعلى اليمين جلس الأمير محمد توفيق باشا ولى عهد مصر فالأمير هفومان لوفمدام أجنانيف فالجنرال أجنانيف.

وبعدما أطلقت المدافع طلقاتها، وقف شيخ الإسلام محاطا بالعلماء وتلا ما تيسر من القرآن الكريم، ثم دعا الله أن يختص هذا العمل العظيم بعنايته. 

ثم تقدم المنسيور كورسيا  يحوطه رجال الإكليروس وتلا صلاة حارة دعا الله فيها أن يبارك هذا العمل.

فى المساء مدت الموائد متتابعة لستة آلاف مدعو حتى إذا حلت الثانية بدأ ظهور الأنوار والزينات على ضفتى القناة. وظهر يخت الخديو «المحروسة» وأخذ يطلق مدفعا بين دقيقة وأخرى، والموسيقى تدوى حتى اختتمت الحفلة بالألعاب النارية. 

وعند شروق شمس صباح يوم 17 نوفمبر كانت السفن تمر فى قناة السويس وقد  استعدت للإبحار وتقدمها يخت الإمبراطورة أوجينى. 

 

فصائل المتطوعين فى المقاومة
فصائل المتطوعين فى المقاومة

 

 ومرت الأيام وجاءت الحرب العالمية الأولى ودخلت تركيا الحرب جانب دول المركز، وبدأت الإمبراطورية العثمانية فى الانهيار وفرضت بريطانيا الحماية  على مصر، وبدأت معاناة بورسعيد. 

 وفى الحرب الثانية وقعت مصر معاهدة 36 لكن كانت الشروط التى وضعتها بريطانيا أن تظل دولة الاحتلال قائمة فى مدن القناة بحجة معاونة الجهات المصرية فى الدفاع عن قناة السيوس ما أدى إلى أن تظل مدن القناة عرضة للقصف المستمر من دول المحور.

خلال العدوان الثلاثى  وما بعده تعرضت بورسعيد للقصف والعدوان لتسطر تلك المدينة  وأهلها البواسل  مرحلة جديدة من النضال  وقاومت الاحتلال بضراوة وشجاعة هزت ضمير العالم ودارت مقاومة عنيفة بين الاحتلال وقوات المقاومة الشعبية ظهرت  خلالها أمثلة مشرفة للعين من أبطالها فى أكبر مقاومة فى العصر الحديث وتصدت للعنف السياسى وقاموا باصطياد الجنود وينقلون جثتهم على عربات اليد. 

 وقف عبدالناصر فى خطابه الشهير وسط بورسعيد يشيد ببسالة أهلها وقال: ستبقى نقطة تحول فى تاريخ العالم. واستمرت بورسعيد مدينة للنضال والكرامة وصولا إلى حرب أكتوبر 73 حيث عبرت منها مصر إلى الضفة الشرقية للقناة محطمة أسطورة معتدٍّ ادعى أن له جيشا لا يقهر.

 لم تقتصر مقومات بورسعيد كمدينة عالمية منذ نشأتها على ما تمتعت به من وسائل مدنية وحضارية فحسب بل امتدت أيضا لتشمل الطابع الثقافى والفنى حيث اتسمت تلك المدينة بطابع كوزوموبوليتانى «متعدد الثقافات» سكنها العديد من الجنسيات والأديان من دول البحر المتوسط. 

 وعلى أرض المعارك، اختصت بورسعيد نفسها بآلة فنية مبهجة اسمها السمسمية، خلال الغناء عزفا على السمسمية أثناء حفر قناة السويس، حيث كان العمال يستخدمونها فى المساء للتسلية والسمر.

كانت أنغام السمسمية وسيلة  الترفيه الوحيدة ويقال إن بعض النوبيين ممن كانوا يجيدون العزف على الطنبورة أول من نقل هذا الفن إلى مدن القناة. 

 بالزمن دمجت السمسمية  مع «الضمة» وهو الفرح التقليدى فى بورسعيد، وهى عبارة عن حفلة يجلس فيها الناس على هيئة دائرة بعدها  يغنى البورسعيدية أغانى النضال وشحذ  الهمم ضد المحتل على السمسمية التى تحولت رمزا للنضال بالفن.

أشهر شعراء السمسمية  كامل عبدالعزيز عيد، الملقب بشاعر المقاومة ومؤسس فرقة شباب النصر، عام 1956، ومغنى المقاومة محمود محمد السيد ابوصير، الشهير بكوثر، ومحمد يوسف حسن زغلول، الملقب بـ«كاتب السمسمية».

 

عمارة مختلفة على طرازات أوروبية
عمارة مختلفة على طرازات أوروبية

 

تكونت عدة فرق للسمسمية،  الصامدين، والفدائيين وفرقة «أولاد الأرض» وضمت نخبة رائعة من الفنانين  نسب إليهم ابتداع  تيمة الحفلات بسقفة الكف  الشهيرة.

واقتاد كابتن غزالى أشهر فنانين وأبطال المقاومة الشعبية وأقام الحفلات ليؤنسهم، ويذهب عنهم مرارة الغربة بكلمات  شجية تصيب الأجساد بقشعريرة الأمل.

ويذكر أن الفنان البورسعيدى «أحمد صبيح» أول من رقص على السمسمية  فى تطوير الرقصات لأغنية أم الخلول – تبدأ أغنية ورقصة «أم الخلول» بإيقاع «واحدة ونص» فى الكوبليه الأول، تنتقل بعده إلى الإيقاع البحرى «تبحيرة» فى الكوبليه الثاني، وتتنوع الإيقاعات بين البطئ والسريع مع نغمات فريدة السمسمية.

 وكانت بورسعيد ثالث مدينة بمصر تشهد عرضا سينمائيا بعد القاهرة والإسكندرية فى العام وعام 1891 دخلتها الكهرباء فى تاريخ مبكرة مقارنة بأكبر مدن العالم  1898.

وتظل بورسعيد مدينة الصبر والنضال والجمال، وتقول كلودين بياتون وهى تتجول على أرض  المدينة :«إذا رأيتها يوما وتجولت فى شوارعها، فلن تتوقف عن الانبهار  بروعة تصاميمها المعمارية وتفردها بكثرة استخدام الأخشاب وتنفرد بالطراز المعمارى المميز الذى لن ترى له مثيلا فى أى مدينة مصرية ولا حتى حول العالم».

 الفرندة هى الملمح الرئيسى لبيوت بورسعيد القديمة بطراز «العمارة الاستوائية».

 لعبت قناة السيوس دورا هو الأهم فى تاريخ بورسعيد ومنذ ثمانينيات القرن التاسع عشر جذبت عددًا من التجار والمقاولين من اليونان وإيطاليا ومالطا ومن المقاطعات  النمساوية والمجرية، واشتروا بغرض الاستثمار، وشيدوا المبانى. 

 ما زالت النماذج الرائعة لتلك المبانى قائمة حتى اليوم، فهناك مثلاً «المبنى السلافي» والذى بناه على رصيف  فلسطين السويسرى «ألبرتى» فى ثمانينيات القرن التاسع عشر. 

 وهناك أيضا «كورونى» فى شارع رمسيس، وكذلك مبنى «فرجينيا أرفانيتوبولوس» «1891» على تقاطع ناصية شارع الجيش مع شارع أحمد شوقى.