الأحد 12 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«كراكيب البيوت ذكريات ولّا طاقة سلبية»؟!

اضطرت الحاجة «إحسان» لاستئجار شقة صغيرة فوق سطح العمارة؛ لتحتفظ فيها بالسرير أبو عِمدان الذى كان فى بيت والدتها، واحتفظت به لسنوات لشدة تعلقها بذكرياته، التى شهدت ميلاد أخواتها ثم أولادها وأولاد أخواتها فيما بعد.



لاتزال تذكر أولى صرخات هؤلاء الأخوات وأبنائهن عليه، لم تستطع أن تتخلص منه، كما لم تستطع أن تبقيه بعد أن كبر أبنائها، وأرادوا أن يعيشوا على أثاث مودرن.

 

ثلاثمائة وخمسون جنيهًا تدفعها لصاحب العمارة شهريًا لتحتفظ بكل أشيائها القديمة، ملابس وكنب اسطنبولى، وأنتريه خشب قديم، ومراتب قطنية، بعد أن استبدلت بأخرى إسفنجية حديثة، وأشياء أخرى كثيرة، كلها جمعتها فى شقة السطوح، التى تزورها بين الحين والآخر، لتطمئن على كنوزها، ولا تعرف ماذا سيكون مصيرها بعد أن تترك الحياة.

يكاد يتفق الكثيرون على أن الاحتفاظ بأشيائنا القديمة يعود للصعوبات الاقتصادية التى شهدها المصريون حين ظهرت ثقافة «إللى ما نحتجوش النهارده يمكن نحتاجوا بكره»، فيما يرى بعضهم أن الكراكيب احتياج.. تقول نظريات نفسية إن كراكيب البيوت كثيرًا ما تكون مصدرًا للطاقة السلبية.. لكن مَهما كان يظل لدينا لغز اسمه ثقافة الكراكيب.

«ثقافة الاحتياج»

دكتور «مختار الكسبانى» أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، يرى أن الاحتفاظ بالأشياء القديمة مرتبط بثقافة نهرية يخزن فيها الناس احتياجاتهم خوفًا من الفيضان أو انحسار النهر، وهى أحد أوجه التحايل على الخوف من الفقر بإعادة تدوير كل شىء.

هذا بالإضافة إلى وجهة نظر ثقافية تقدر قيمة ما هو قديم لما يمتلكه المصرى من تاريخ وآثار- بحسب «الكسبانى».

ويتفق الخبير الاقتصادى دكتور «سعيد عبدالخالق» مع هذا الرأى، مدللاً عليه ببقاء عدة مهن مرتبطة بإعادة التدوير مثل «الرفا» و«الجزمجى»، وهى التى تدعم ثقافة الاحتفاظ بالقديم.

ويطالب «عبدالخالق» برد الاعتبار إلى ثقافة إعادة تدوير الكراكيب كما كان فى السابق، عندما كانت كل طبقة اجتماعية تتخلص من كراكيبها للطبقة الأدنى، إمّا بمزادات المقتنيات الثمينة، أو كـ«روبابيكيا» تتخلص منها الطبقة الوسطى ببيعها لوسطاء، يجمعونها ويعمل على صيانتها عمال مختصون بإعادة ترميم الأثاث القديم، لإعادة بيعه.

ويوضح دكتور «سعيد» أن أى أثاث أو أجهزة منزلية أو ملابس، غير مستعملة أو مضى عليها بعض الوقت، تتحول إلى ما نسمية «الكراكيب» ويمكن أن تصبح كنزًا لصاحبها، كما أنها يمكن أن تتحول إلى طاقة سلبية.

وإذا لم يتم التخلص من الكراكيب والأشياء غير المستخدمة فسيؤدى إلى تراكم الأتربة والملوثات، كما أن زيادة الكراكيب تزيد من نسبة التوتر والقلق لدى المقيمين فى المنزل.

ورغم مطالبات كثيرة بالتخلص من «الكراكيب» للاستفادة منها اقتصاديا؛ فإننا لا نعرف حجم «كنوزنا» المنزلية، بعكس تقديرات «الرواكد والعُهَد» الحكومية بما يزيد على 30 مليار جنيه.

الكراكيب أحيانًا ما تكون ثقافة الحكومة أيضًا، ففى إحصائية أن قيمة متراكمات حكومية فى المخازن تخطت 32 مليار جنيه عبارة عن قطع غيار سيارات قديمة وسيارات مكهنة ومعدات تالفة وماكينات غير صالحة للاستخدام. عودة مرة أخرى لثقافة الكراكيب، تقول الحاجة إحسان: «عمرى ما اشتريت حاجة مش محتاجها البيت، لكن يصعب عليا أسيب ذكرياتى، حتى لو عرض علىَّ فيها سعر كويس، فهى دى بالنسبة لى العمر كله».

تتذكر «إحسان» كيف باعت ابنة خالتها كل ما ورثته من بيت أبيها فى الحلمية من 25 سنة، بحوالى أكثر من 60 ألف جنيه. وتضيف: «يومها قالت لى بيعى يا إحسان «الكراكيب»، يجيلك منها قرشين.. لكنى أفضل أن أدفع مقابل الاحتفاظ بذكريات الأيام الجميلة».

لكن دراسة مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية لفتت إلى إمكانية الاستفادة من المخزون المتراكم وكراكيب الجهاز الإدارى للدولة، بإعادة توزيع الفائض من بعض الوحدات على الوحدات الأخرى المحتاجة وبيع المتبقى فى مزاد علنى.

وكما أن التخلص من كراكيبنا صعب أحيانًا، فإن التخلص من الكراكيب الحكومية ليس بالأمر الهين هو الآخر فى كثير من الأحيان، حيث يلفت دكتور «عبدالخالق» إلى أن ما نسميه نحن كراكيب هو فى نظر القانون «عهدة» لا يمكن التخلص منها إلا وفقًا لقانون المزايدات والمناقصات.

القانون «حبالُه طويلة»، فكثير من الدوائر الحكومية تراكمت فيها الكراكيب لدرجة تعوق الحركة، كما يقول دكتور «محمد خليل» أستاذ الصحة النفسية بآداب عين شمس، فكثيرًا ما نجد الأثاث القديم يملأ طرقات بعض المبانى والمصالح الحكومية وفى بعض كليات الجامعة أيضًا، مما يعوق حركة الطلاب والأساتذة داخل أروقتها.

ويقول د.«خليل»: يقضى القانون ولوائح الجامعة بأن يتم الاحتفاظ بكراسات إجابات الطلاب لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات.

وهنا يطالب بطريقة مختلفة لترتيب هذه الأوراق وطريقة الاحتفاظ بها وفقًا للمدة القانونية، ليمكن الوصول إليها بسهولة عند الحاجة.

«نفسية مكركبة»

من وجهة نظر نفسية، فإن صاحب الكراكيب كثيرًا ما يكون شخصية غير قادرة على اتخاذ القرارات، ومنها قرار التخلص من الكراكيب نفسه، وحسب أطباء فإن هؤلاء يحتاجون المساعدة لتدريبهم على ترتيب الأولويات، وما يمكن الاستغناء عنه من الأشياء الأقل أهمية.

ويربط د.«خليل» بين الكراكيب وشخصيات لديها تفكير وسواسىّ، يصعب عليهم التخلص من الأشياء القديمة، لأنهم يعتقدون أنهم ربما يحتاجون إلى بعضها فى المستقبل، ويكون من الصعب على المحيطين بهم إقناعهم بالتخلص منها، مما يؤثر سلبًا على المحيطين بهذه الشخصية؛ خصوصًا أنهم يحتفظون بالأشياء القديمة بشكل غير مرتب، كما يربط د.«خليل» بين البخلاء والاحتفاظ بالأشياء القديمة.

«شكمجية الذكريات»

لكن الكراكيب ليست دائمًا سيئة؛ حيث يقول دكتور «محمد خليل» إن كثيرًا ما يكون للاحتفاظ بها جوانب إيجابية، إذ إن بعض المقتنيات القديمة تمنحنا الإحساس بالأمان وبالاستقرار، كما أنها تمنحنا إحساسًا بأن لنا امتدادًا سيبقى وأن أبناءنا وأحفادنا سيتذكروننا بها؛ خصوصًا فى مجتمعاتنا.

يضيف: العكس عند المجتمعات المتقدمة، الذين لا يحتفظون بالأشياء القديمة، مما يزيد لديهم الإحساس بالوحدة والاغتراب، كما أن هناك أشياء يجب الاحتفاظ بها؛ لأنها ترتبط بالشخصيات الناضجة، مثل الشكمجية التى كنا نحتفظ بها فى الماضى بذكرياتنا مع الجد أو الجدة أو الأقارب، فتكون بمثابة خبرات للأسر، ويقولون عنها عادة «دى من ريحة الحبايب».

هذا إلى جانب الاحتفاظ بالنياشين والدروع والشهادات، التى تبقى دائمًا رمزًا للفخر بالنفس وبالنجاح فى تحقيق الذات.

عودة للحاجة «إحسان» التى قالت: «عارفة إن الأولاد مش هيحتفظوا بكل إللى أنا مخزناه فى شقة السطوح، بس دى ذكرياتى، ومش هسيبها ولا أحب أنساها».