الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

صباح الخير من باريس الشرق

رسالة صمود.. من «ست الدنيا» لـ«أم الدنيا»

طبيعة ساحرة فى جونيـة
طبيعة ساحرة فى جونيـة

«ياهلا بأهل مصر أم الدنيا» هذه هى الجملة التى سوف تعتاد عليها بمجرد أن تطأ قدمك مطار بيروت؛ فكل لبنانى سيتعامل معك لن تفوته هذه التحية، وكرر التحية «أبو هيثم» السائق المكلف بتوصيلنا خلال رحلتنا فى لبنان.. لم تستطع تجاعيد وجهه التى رسمها الزمن أن تخفى ابتسامته المشرقة التى تزين قسمات وجهه الدقيقة.  ولم تمنعه ظروفه الصعبة من حمد الله بعد كل جملة وإلقاء النكات وسط شكواه من حال البلد.



شوارع البترون - الكنائس المميزة فى البترون
شوارع البترون - الكنائس المميزة فى البترون

 

 

الظلام كان حالكًا فى شوارع بيروت بصورة واضحة مع أن الساعة لم تتعدَ السابعة مساءً عكس ما توقعته عن شوارع بيروت خاصةً شارع الحمرا الذى طالما سمعت عن حياته الليلية الصاخبة.. لكن الشارع كان هادئًا والمحلات مغلقة، فسألنا أبوهيثم خاصة أننا فى أيام أعياد، فلماذا هذا الظلام والسكون ؟! فبادرنا قائلًا: إن الحال أصبح هكذا من سنوات بسبب الظروف الاقتصادية، فلا نور ولا كهرباء فى الشوارع لأننا نعتمد على المولدات التابعة لشركات خاصة فى كل شارع، فالحكومة لا توفر كهرباء، إلا عددًا قليلًا محدودًا من الساعات، حتى الفنادق تقطع الكهرباء ساعة أو ساعتين قبل الفجر لعمل صيانة يومية للمولدات، ومعظم القطاعات الخدمية فى البلد تعانى من غياب الدعم، وفى ظلّ الارتفاع الجنونى لأسعار السلع أصبح الكساد الاقتصادى والخدمى هو حال البلد!

وبادر أبوهيثم بإلقاء النكات ثم أضاف: «لقد تعودنا على هذا الحال فأنا أسكن فى منطقة جبلية، والماء ينقطع ليومين وثلاثة ونضطر لشرائه، والحمد لله على كل شىء، وغدًا سيكون أفضل باذن الله».

أول ما شاهدناه خلال رحلتنا من المطار للفندق كان البحر الذى ذكرنا ببحر إسكندرية، والفارق صخرة الروشة المميزة، ثم مررنا بمكان انفجار مرفأ بيروت الذى تسبب فى خسائر فادحة ما زال لبنان يحاول لم شتاته منذ حدوثه، هدأ أبوهيثم من سرعة السيارة مشيرًا لمرفأ بيروت قائلًا: «بعد أن كانت معاناتنا كباقى العالم من آثار الكورونا حدث هذا الانفجار الضخم فى المرفأ فى أغسطس 2020، قُتل ما يزيد على 200 شخص، وأحدث دمارًا فيما يقرب  من ثلث العاصمة، وأصبح الوضع فى لبنان يصعب تجاوزه» ولكننا بنحاول «ياخيى» وشاهدنا أسماء ضحايا الانفجار منقوشة على سور المرفأ بجانب صورهم تخليدًا لذكراهم، وشاهدنا المبانى المواجهة للمرفأ وما زالت عمليات الترميم قائمة لتجاوز ما حدث.

محب للحياة

لم يكن التفاؤل سمة أبوهيثم وحده، فبعد ذالك وأثناء الفترة التى قضيناها فى بيروت لم نجد عاملًا مستاءً أو موظفًا حانقًا.. فالشعب اللبنانى محب للحياة.. وهو ما يؤكده كل سطر من رحلتنا.

فمحطتنا الأولى الوصول لسيدة لبنان بالتلفريك، فمع شمس اليوم الثانى، وعلى أنغام فيروز، وصباح ووديع الصافى، بدأت رحلتنا من خلف زجاج سيارة أبوهيثم لاكتشاف باريس الشرق بسحرها وجمال طبيعتها الأخاذ، كانت محطتنا الأولى مدينة «چونيه» التابعة لمحافظة بيروت، وتقع شمالها، عبارة عن جنة مُحاطة بالجبال المكسوة بالأشجار، إلى جانب وقوعها على البحر الأبيض المتوسط، وهناك حيث التلفريك ذلك المعلم المميز وجدنا طوابير طويلة من اللبنانيين والسائحين، وما بين تعارف والتقاط الصور وإلقاء نكات مرت الساعتان، مما جعل وقت الانتظار بمثابة رحلة مع شعب مبهج محب للحياة رغم الظروف.. يأخذك التلفريك فى رحلة فوق الجبال لترى المساحات الشاسعة الخضراء والجمال البكر، ويصعد بك على رحلتين متواليتين إلى «سيدة لبنان» وهو تمثال أبيض مهيب للسيدة العذراء، وسط باحة واسعة فوق قمة جبل حريصا من الرخام الأبيض تنقلك لأجواء روحانية بديعة، وموسيقى خلابة تزيد من الصلوات خشوعًا وورعًا. وكأن سحر سماء بيروت أصابنا بالإدمان؛ فلم أتردد فى تجربة القفز بالبراشوت لاحتضان سماء بيروت ورؤيتها كلها.. إحساسٌ لا يضاهيه الا التحليق فوق الجنة.

كابتن فادى شاب لبنانى يطير بالباراشوت ليوجهه مع السياح، رافقنى فى الطيران بالباراشوت يقول: لبنان أجمل بقاع الأرض، أعتبر نفسي محظوظًا لعملى فى الطيران فوق هذه الطبيعة الخلابة، فأنا فوق بعيد عن المشاكل الاقتصادية  والسياسية التى نعيشها، وأرى لبنان الحقيقية حيث الجمال والطبيعة والسحر، وكلما طرت فى سمائها تأكدت من أنها ست الدنيا كما قال نزار قبانى، وكلى يقين  من قدرة  لبنان على تخطى هذه الغمة والتأخر الاقتصادى الذى انعكس على حالنا جميعًا. ومن الأماكن السياحية الشهيرة بمدينة جونيه، مغارة جعيتا التى تكونت دون تدخل إنسان بفعل تسرب المياه الجليدية من أعلى الجبال إلى باطن الجبل، فكوّنت منحوتات كلسية من مئات السنين، تشاهدها فى رحلة على قارب يتوغل بك داخل الكهف فى مشهد لن تراه إلا فى الأفلام الخيالية.

 

 
 
تمثال للزعيم عبد الناصر فى أهم شوارع لبنان
تمثال للزعيم عبد الناصر فى أهم شوارع لبنان

 

 

سحر الطبيعة

المحطة الثانية كانت جبيل وهى منطقة مزيج من سحر الطبيعة  والحضارة المعطرة بعبق التاريخ؛ فهى تحتضن مواقع أثرية تعود إلى حضارات عديدة كالرومانية والبيزنطية والإسلامية وغيرها. وصنفتها منظمة اليونسكو كموقع تراث عالمى عام 1984، حيث  السياحة الدينية والعديد من المساجد والكنائس مثل مسجد السلطان عبد المجيد الذى يعود للعصر الأيوبي، ومسجد السلطان إبراهيم بن أدهم، وكنيسة القديس يوحنا مرقس، وكنيسة سيدة النجاة والعديد من الأماكن الأثرية المفتوحة مثل أساسات المعبد الكبير، والأجزاء المتبقية من طريق يعود للعصر الرومانى والمسرح الروماني، وموقع عين الملك والذى كان يعد منبع المياه الرئيسى قديمًا. هذا بالإضافة إلى الآثار التى تعود للعصر الحجرى وبقايا البيوت القديمة التى تعود إلى ما قبل الميلاد وغيرها.

وهناك القلاع التى تعود معظمها إلى العصور الإسلامية مثل القلعة البحرية، القلعة الصليبية والقلعة الفارسية.

أما فى مدينة البترون فالشوارع الضيقة من مربعات حجر البازلت المميزة وهى أكثر ما شدتنى فى البترون، واحتوائها على كنائس رائعة لمختلف الطوائف المسيحية، وتطل على شواطئ صخرية، وبها بعض البازارات التى تبيع هدايا تذكارية بسيطة مستوحاة من الفنون اللبنانية التراثية، ويجلس عم إلياس فى منتصف شارع البازارات يعزف على العود، ويمتع الجميع بغنائه الفلكلورى المميز.

ويعد قصر موسى أيقونة معمارية بديعة على ربوة عالية فى منطقة الشوف جنوب بيروت، تحتوى بداخلها على تماثيل شمعية تروى لنا حكايات عن قصة المبنى وحياة المجتمع، ولهذا القصر قصة ملهمة بطلها موسى عبد الكريم المعمارى الذى بنى القصر بيديه منذ عام 1945 وانتهى منه فى عام 1997، فقد كان طفلًا يحلم ببناء قلعته ورسمها فى المدرسة، إلا أن مدرسه باغته بالضرب بالعصا ومزق رسمته، وطرده من المدرسة، ليبدأ الطفل فى عمر الـ14 بتحقيق حلمه واستغرق إنجاز الحلم 52 سنة، حتى كان «قصرموسى»، فاستخدم 6540 حجرًا ضخمًا، على مساحة 3500 متر مربع، وحرص على نحت أحجارها بنفسه بأشكال تظل علامة مميزة فى معمارها.

كما صمم مجسمًا لمشهد ضرب المعلم له، بتصميم الفصل والتلاميذ جالسون بجواره والمدرس يضربه بالعصا. ووضع الرسمة الممزقة كذلك، وعلى جدران القلعة دوّن موسى كل عبارات والدته المشجعة، وعبارته الأخيرة: «دخلنا شبابًا وخرجنا شيبًا»، معلقًا صورًا تجمعه بأسرته ومراحل تشييد القلعة وزيارات الرؤساء والشخصيات العامة فى لبنان، وعبر 30 غرفة تضم أكثر من 160 تمثالًا متحركًا صنعها موسى، ومتحف الأسلحة الفريد المكون من 16 ألف قطعة جسد الحياة الاجتماعية للبنان.

ضم المدخل متحفًا للحرف اليدوية يشمل الحداد والنجار والمزارع والصياد أثناء ممارستهم المهن، ومظاهر للحياة اليومية لمختلف المناطق فى لبنان مثل السيدات العاملات فى الأعمال المنزلية، والمرأة الريفية وطبيعة حياتها، وراعى الأغنام وعازفين لآلات موسيقية مثل الدف والربابة والعود، ويفترش الأرض عازف يطرب الزائرين بالأغانى اللبنانية المميزة وعندما عرف أننا مصريون غنى لنا «الغزالة رايقة» ليتجمع حوله السائحون واللبنانيون ويصفقون معه.

وفى آخر ممرات القلعة، وضع موسى قطعًا من المعادن والأحجار الثمينة وأسلحة منذ الاحتلال الفرنسى للبنان، وكتب عبارة: «علمتنى الحياة أن العالم لن يتوقف عن الاستمرار بعد موتي، والأرض لن تحجم عن دورانها، والشمس لن تكف عن شروقها وغروبها».

 

شلالات جعيتا- محررة صباح الخير أمام صخرة «الروشة»
شلالات جعيتا- محررة صباح الخير أمام صخرة «الروشة»

 

شجرة الأرز

تشتهر لبنان بشجرة «الأرز» وهى  رمز للبلد على العلم الوطنى، ويقال عنها إنها «رمز الخلود» وكانت من أجمل ما رأيت فى لبنان، فى منطقة بشرى فى الشمال، على علو يفوق الألفى متر، لنبدأ رحلة التوغل فى غابة الأرز، أو «غابة الرب» كما يحلو لأهالى المنطقة تسميتها، بعد قطع الطريق الجبلى الضيق للقمة ووصولنا للسحاب بمعنى الكلمة،  تجولنا فى الغابة التى ارتبطت بالأساطير والقصص التى تُسرد فيقولون إن النبى نوح قطع أغصانًا من أرز الربّ، وصنع منها ألواحًا لبناء سفينته، وأن القديس يوسف النجار صنع سريرًا للطفل يسوع من خشب الأرز،  وشجرة «العشاق»، التى يعتقد البعض أن جذوعها عكست قصة حب آدم وحواء التاريخية. لنقع فى حيرة أى صورة نلتقط وسط هذا الجمال، وهنا أشار علىّ أبوهيثم بالتقاط صورة بجانب أقدم أشجار الأرز هناك، والتى تجاوزت ما بين ألفين وثلاثة آلاف عام، لتكون ختام رحلتنا عند شجرة الأرز العتيقة، وكأنها رمز لصمود لبنان رغم مشاكلها التي لم تمس قلوب اللبنانيين المرحة المتفائلة التى تعشق الحياة.

 

الطيران بالباراشوت فى سماء بيروت
الطيران بالباراشوت فى سماء بيروت