السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

من  «الصالحية».. لتربة الزعفران

بوابة بيت القاضى
بوابة بيت القاضى

حوارى القاهرة  تزخر بتاريخ وحكايات  حدثت عبر السنين، تخبرنا عن عظماء ظلمهم التاريخ؛ ولكن أعمالهم أنصفتهم أو عن حوارى لا نعلم عن معظمها شيئًا، وشهادات سجلها التاريخ فى حبها وعشقها تقديرًا لأصالتها وجمالها، وكذلك عن قصص غريبة متداولة.. و«الصالحية» و«بيت القاضى» و«درب الأنسية» و«الجودرية» خير مثال لذلك.



 والقاهرة ليست كأيّ مدينة عادية بمصر أو فى العالم، يمكنك تجاوز مناطقها وتفاصيلها شديدة الدقة بسهولة بالغة، فبعض المدن  يمكنك أن تتجول بها كاملةً خلال ساعة واحدة، أما القاهرة فجولة شاملة بها قد تحتاج إلى أيام، أسابيع، وربمّا شهور، وخلال جولتكَ فى حوارى القاهرة، لا بُدّ أن تمر وتشاهد  الآثار الإسلامية والتاريخية بعضها معروف للجميع والآخر مجهول لكثير من الناس، وتعتبر شوارع وأزقة هذه الأحياء شواهد على أهم فترات مصر التاريخية، حتى إن اسم كل حى فيها ارتبط بوقائع  وأحداث معينة.

 

مقعد الأمير ماماى السيفى
مقعد الأمير ماماى السيفى

 

من المعز للخان

تشكل حارة الصالحية مربعًا متكامل الأضلاع؛ إذ يمتد من شارع المعز غربًا إلى خان جعفر شرقًا،  ومن بيت القاضى شمالًا إلى سكة الباديستان جنوبًا، تتوسطها  المدرسة الصالحية، سبيل وكتاب خسرو باشا الذى بنى عام 1535م، فى حين يتلاصق سبيل ومدرسة الظاهرية مع المدرسة الصالحية، تحتفظ  بالكثير من الجدران والأبواب الأثرية التى كانت تابعة لبعض الكتاتيب، والأسبلة، والدواوين التى بنيت على مر العصور.

 ولا تزال جدران بعض الأبنية تحتفظ بآثار العبارات الصوفية التى انتشرت فى العصر الأيوبي، بالإضافة إلى الأبواب الخشبية الكبيرة ذات الحلقات النحاسية المنقوشة يدويًا.

 للوصول إلى الحى يمر الزائر من بوابة كبيرة كانت تغلق على أهل الحى بعد صلاة العشاء ولا تفتح إلا فجرًا فى اليوم الثاني، بيد أنها بمرور الأيام بدأت تتلاشى. 

وكانت آخر أعمال ترميم مع بداية عام 1992م نتيجة بعض الأضرار التى لحقت بالمكان بسبب زلزال ضرب القاهرة يومذاك وصورت به عدة أفلام تسجيلية.

تنتشر فيه الحرف اليدوية التى شارفت على الاندثار لندرة العاملين فيها، مثل التصديف وتلوين الزجاج وترميم العاديات «الأنتيكات»، وطرق المعادن، وتبييض النحاس وغيرها.

 وهى المقر الأساسى لتجارة الأحجار الكريمة والثمينة، وفيه عدد كبير من ورش الحلى التى تصمم بالطريقة اليدوية.

وسميت بهذا الاسم نسبة إلى السلطان الصالح نجم الدين الأيوبي، عندما أمر ببناء المدرسة الصالحية عام 641هـ - 1243م، وكانت آنذاك أول مدرسة تفتح أبوابها لطلاب المذاهب السنية الأربعة، عرف عنه حبه الشديد للعمارة، وبعد بضع سنوات، أمرت زوجته شجرة الدر بأن يدفن فيها بعد مقتله فى معركة المنصورة، ومن ثم تفننت هى الأخرى فى بناء القبة والجامع، فباتت المدرسة الصالحية أول مدرسة تضم قبة ومقبرة.

كما  كان بها دار لآخر وزير فاطمى شيعى فى مصر «الصالح طلائع»؛ المشهور بقوته وسيطرته، قبل أن يكون وزيرًا، وعاش فيها أتباعه، فتم إطلاق الاسم عليها وتقول آراء أخرى أن التسمية نسبة للمدرسة الصالحية؛ التى يبدأ مدخل الحارة ببقايا سورها بجوار باب الصاغة القديم مباشرة.

ومع بداية الدولة الفاطمية كانت الحارة جزءًا ملاصقًا لقصر الخليفة، وكان اسم المنطقة «تربة الزعفران» والتى أصبحت الآن «خان الخليلى»  وعند قدوم الدولة الأيوبية أكثرت من افتتاح المدارس السنية، فأنشأ الملك الصالح نجم الدين أيوب المدرسة الصالحية سنة 1243م على بقايا القصر، محل الباب المعروف بـ «باب الزهومة»  والتى تعتبر أول مدرسة فى مصر يتم فيها تدريس المذاهب الفقهية الأربعة «الشافعي، والحنفي، الحمبلي، والمالكي»؛ وأول مدرسة يقام فيها منبر وتتحول إلى مسجد للصلاة ، ولا تزال مئذنته الفريدة على شكل المبخرة هائلة الحجم باقية وكانت تنشر البخور والطيب فى جنبات الحى فى ليالى الخميس ونهار الجمعة ولها موظف مختص فقط بدوام إشعال البخور حتى تنقضى صلاة الجمعة، وقد تم ترميمها عام 1995م.

المدرسة عبارة عن منشأتين كل منهما تتكون من صحن وإيوانين، يربط بينهما ممر أعلاه مئذنة وعليه بوابة خشبية ضخمة لا تفتح إلا الفجر؛ والتى بدأت تتلاشى، وقامت شجرة الدر زوجة السلطان الصالح نجم الدين بإضافة ضريح دفن فيه عام 1250م، وهو نهج وأسلوب معمارى متكامل اتبعه السلاطين المماليك بعد ذلك فى إنشاء مجمّعاتهم المطلة على شارع المعز الذى شكل القصبة الرئيسية للقاهرة، مثل مجمع قلاوون ومع هدم الجزء الأيمن للمدرسة بدأ العامة يستخدمونه فانفتح للمواطنين وبنيت المباني.

 

حارة بيت القاضى قديماً
حارة بيت القاضى قديماً

 

وتذكر الروايات التاريخية أن الملك الصالح أوقف عائد إيجارات حوانيت مشغولات الذهب والفضة بحى الصاغة لمصاريف المدرسة الصالحية والمسجد والسبيل الملحق بها.

النحاس والأحجار

قديمًا كانت الحارة  تضم أكبر سوق للنحاس، حيث   يتم ترميمه وتصليحه وإعادة زخرفته، وكذلك إنتاج مصنوعات نحاسية جديدة مشغولة بدقة ومحفورة بمهارة بالغة، وكان بها مسبك لسبك النحاس، ويعتبر أول مسبك فى منطقة الجمالية ويشتغل على مخلفات بوابير الجاز والنسر النحاسى للجيش والبوليس وتوكة الحزام، ويتم سبكها سبائك نحاس لإعادة استخدامها.

وحاليًا فهى  أكبر سوق فى الوطن العربى لتجارة الأحجار الكريمة؛ ولذلك أسباب كثيرة متداولة، منها أن تاجرًا يهوديًا مصريًا عاش بها وتاجر فى الأحجار الكريمة، وآخر أن رجلًا صينيًا كان يتعلم فى الأزهر الشريف، وأدخل صناعتها، وثالث أن السلطانة شجرة الدر عندما استشعرت مؤامرة لقتلها من ابن زوجها توران شاه، قررت أن تجمع حُليها ومجوهراتها وتسحقها بالدق فى الهون وتقذفها فى حديقة قصرها الملاصقة للسوق، والذى أصبح موضعه الآن مركز الخان التجاري.

بعدها شهدت الحارة طفرة كبيرة فى تجارة الأحجار الكريمة وتصنيع الأشكال المختلفة منها، مع انتشار فكرة صناعة الحلى على يد سيدات يقمن بتسويقها للأجانب؛ من ضم الخرز وصقل الأحجار وطلاء القطع المعدنية بالفضة والذهب وأيضًا مساعدة الهاويات على وضع اللمسات الأخيرة على عقد أو سوار ابتكرهن، خاصة أن عالم الأحجار الكريمة والخرز ومستلزمات الحُلى ازدهر نتيجة للارتفاع الكبير فى أسعار الذهب والفضة.

تضم الحارة عددًا كبيرًا من ورش التصديف وتلوين الزجاج وترميم الأنتيكات وتصنيع وطلاء وتشغيل وتلميع الفضة والذهب والنحاس والتحف والمصنوعات اليدوية؛ ويعشق الأجانب والعرب الأحجار الكريمة بالشغل اليدوى ويحصل تجار التجزئة فى المحافظات على بضاعتهم من موزعى الجملة؛ ومنهم المستوردون.

وفيها محلات كثيرة جدًا لبيع الزمرد والمرجان والفيروز واللؤلؤ والتوباز الأماتيست والفيروز والعقيق البلوتوباز والسترين والجاسبر والجاد والعقيق بأنواعه، والأنواع المقلدة من تلك الأحجار، والكريستالات بألوانها وأحجامها المختلفة والخرز على شكل العين والسلاسل وكذلك الإكسسوارات الجاهزة؛ من الغوايش والكوليهات، وحلقان، وسبائك، وخواتم، وكذلك سلاسل المعدن الذهبى أو الفضى أو الخيوط؛ وجميعها بأسعار أرخص لأنها تباع بالوحدة وليس بالوزن والجرام.

والحارة مقصد فئات المجتمع؛ مثل ربات البيوت صاحبات المشاريع الصغيرة والطالبات اللائى يبحثن عن هدايا غير تقليدية يصنعنها بأيديهن، إضافة إلى سيدات المجتمع الدبلوماسي.

حمام السلطان

 حارة متعرجة أولها أمام حمام السلطان إينال والمدرسة الكاملية «مدرسة ومسجد السلطان الكامل» وآخرها يؤدى إلى قسم الجمالية القديم  و«بيت القاضي» وكانت الحارة مسكنًا لقاضى المحكمة الشرعية التى اتخذت من مقعد الأمير ماماى السيفى «أحد كبار أمراء السلطان قايتباى» مقرًا لها فى زمن الحملة الفرنسية وخلال السنوات التى سبقت تولى محمد على السلطة.

بوابة بيت القاضي، تقع فى منتصف شارع المعز، أمام مجموعة السلطان المنصور قلاوون الشهيرة بالجمالية، والتى شُيِّدت فى القرن الــ19 بغرض أمنى، ولحماية مصر ضد أى هجمات من الأعداء، ويذهب البعض إلى أنها بنيت خلال حكم محمد على باشا، ورغم عدم وجود ما يؤكد ذلك؛ فإن طرازه يتشابه مع طرق البناء والزخرفة فى آثار ذلك العصر.

وخلف حمام السلطان إينال توجد حارة المستوقد؛ التى كان يتم تسوية قَدَر الفول بها، وبجواره المدرسة الكاملية وفى اليسار مآذن مسجد الناصر محمد بن قلاوون،  ومساكن ترجع إلى عدة عقود وما زالت مسكونة بالأهالي. وتم تخطيط الحارة وفتحها فى عصر الخديو إسماعيل لربط شارع المعز بشارع النحاسين، وكانت فى الأصل جزءًا من قصر الزمرد الفاطمي، وهو جزء من القصر الشرقى الكبير، عظيم البناء على مساحة 70 فدانًا، ووصف كثيرون روعة عمارته، وما كان فيه من قصور صغيرة وبساتين.

 

مسجد الأمير أحمد المهمندار
مسجد الأمير أحمد المهمندار

 مقعد ماماي

 فى العصر المملوكى آل قصر الزمرد إلى «تتر الحجازية» قامت ابنة السلطان الناصر محمد بن قلاوون ببناء مدرستها وقصرها، ثم استولى عليه جمال الدين يوسف الإستادار، أيام السلطان برقوق، وتحول القصر إلى سجن، ثم جاء الأمير ماماى السيفى أحد أكابر أمراء السلطان المملوكى الأشرف قايتباى وبنى قصره عام 1496م، وقد اشتهر بدوره المهم فى الصلح بين الدولة المملوكية والدولة العثمانية فى أواخر القرن الخامس عشر، وكلمة ماماى تركية تعنى «ثور الحصاد الرئيسي».

وبعد وفاة السلطان قايتباي، كثرت الفتن بين الأمراء المماليك، حتى وقعت فتنة عام 1497م، وتم قتل أتباعه ومنهم الأمير ماماي، وهدم جزء كبير من القصر، ولم يتبق سوى المقعد؛ الذى كان ملحقًا تجاه الجهة البحرية؛ ويعد من أكبر مقاعد البيوت الإسلامية بالقاهرة، وتدل فخامته وكبر حجمه على فخامة وسعة القصر نفسه.

ويتكون من طابقين، وارتفاعه حوالى 10 أمتار، وطوله 32 مترًا، وواجهته تتكون من قاعة مستطيلة لها سقف خشبى محلى بزخارف ملونة ومذهبة، على شكل «حدوة فرس»، ومحمولة على أربعة أعمدة؛ ﺗﻴﺠﺎﻧﻬﺎ ﺗﻤﺜﻞ ﺯﻫﺮﺓ ﺍﻟﻠﻮﺗﺲ، والواجهة تتزين برمز وظيفى مصور للأمير ماماى خاص بوظائف تولاها، ويزدان من الداخل بشريط كتابى مذهب عليه اسم المنشئ وألقابه وآية الكرسى، ﻭﻟﻠﻤﻘﻌﺪ ﺳﻘﻒ ﺷﺎﻫﻖ ﺣﺎﻓﻞ ﺑﺎﻟﺰﺧﺎﺭﻑ ﻭاﻷﻟﻮﺍﻥ ﻭﺍﻟﺘﺬﻫﻴﺐ، ﻭﺃﺳﻔله ﻋﺪﺓ ﺣﻮﺍﺻﻞ، وفى 1925 تم ترميمه وإعادته إلى أصله والمقعد هو مكان استقبال الرجال فى البيوت منذ العصور الوسطى وحتى القرن التاسع عشر.

و أطلق على المقعد اسم «بيت القاضي»؛ لأن المحكمة الشرعية كانت تعقد فيه فى زمن الحملة الفرنسية وخلال السنوات التى سبقت تولى محمد على أمور الحكم وكانت تتجمع أمام تلك المحكمة الانتفاضات والثورات الشعبية المتتالية على العثمانيين، كما شهدت اجتماع العلماء والأشراف ونقباء الطوائف والحرف فى عام 1805م، وقاموا بخلع آخر بشواتهم، خورشيد باشا، ومبايعة محمد على باشا لتولى حكم مصر؛ كأول مرة فى تاريخ مصر الحديث يختار الشعب حاكمه بالشروط التى وضعها.

واستمرت المحكمة فى هذا المكان حتى عام 1900، حين انتقلت إلى منزل محمود سامى البارودى فى الحلمية الجديدة.

 

قسم شرطة الجمالية قديماً
قسم شرطة الجمالية قديماً

 

 وفى عهد الخديو إسماعيل تم تحويل فناء قصر ماماى إلى ميدان، وفتح شارع بيت القاضى فى عام 1873م ليصل شارعى المعز والجمالية ببعضهما، وتم تشغيل خطوط أتوبيس هيئة النقل العام وصار الميدان موقفًا لها، ثم تم إلغاؤها عام 1956، وكان وسطه حوض للدواب، وفى عام 1950 ألغيت تلك الأحواض بالقاهرة، وحاليًا هو مركز لبيع الموازين فى الجمهورية كلها، وفى الميدان أيضًا نقطة مطافئ الجمالية.

ويذكر على مبارك فى الخطط التوفيقية أن الخديو إسماعيل حين شرع فى فتح الشارع اكتشف بقايا سور ضخم لقصر الزمرد الفاطمى فأخذ أحجاره لبناء مجلس القضاء وقسم شرطة السيدة زينب الحالي.

وقد تسلمت وزارة الآثار مبنى الدمغة والموازين فى عام 2015 ليتم استخدامه كفندق تراثى يخدم المنطقة الأثرية ويعظم الاستغلال السياحى والاقتصادى بها. وفى 29 أغسطس 2016،  تسلمت الوزارة مبنى قسم الجمالية لتطويره وإعادة تأهيله، بعد نقل مقره إلى منطقة الدراسة.

وكان يسمى «ثمن الجمالية» والتى ترجع إلى عهد محمد على باشا الذى قام فى عام 1830م بتقسيم المدينة إلى ثمانية أقسام بكل ثمن قسم للبوليس.

ويرجع تاريخ إنشاء المبنى إلى عهد الخديو إسماعيل ليكون مجلسًا للقضاء وإصدار الأحكام، وفى عام 1884م انتقل إلى المبنى الحالى بباب الخلق ليعرف بعدها باسم محكمة الاستئناف، وحمل بعدها المبنى لافتة  «قسم بوليس الجمالية»  حتى عام 1959م، وهو جزء من بيت القاضى به غرف تمثل «بدروم»، تستخدم كحجز للمتهمين يتوسطها نافذة مفرغة لدخول الهواء والإضاءة للمحجوزين.

وتدور أقاويل حول ظهور العفاريت فى القسم ليلًا وسماع أصوات غريبة وهمهمات؛ حيث كان يتم تنفيذ أحكام الإعدام فى هذا المكان المغلق لفترات زمنية طويلة، وما زالت المشنقة المستخدمة معلقة بداخله.

 

حارة الصالحية
حارة الصالحية

 

 قصر الأمير

 تطل على الحارة إحدى جهات قصر الأمير بشتاك، الذى أنشأه القصر الأمير سيف الدين بشتاك الناصري، أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون، عام 1339م، وكان حوله أحد عشر مسجدًا وأربعة آثار ومعابد للفاطميين ودار قطوان الساقى.

 يتكون القصر من طابقين، وكان يوجد طابق ثالث خاص بالنساء ولكنه تهدم والقاعة الرئيسية يتصل بها سلم صاعد يتقدمها سطح مكشوف وتتكون من أربعة إيوانات؛ الشرقى يمتاز بمشربياته الخشبية الكثيرة، والغربى يحتوى على نوافذ جصية معشقة بالزجاج الملون.

بجوار الإيوان الشرقى باب مؤدى إلى ممرات مطلة على القاعة؛ حيث كانت النساء يجتمعن فى غرف الحرملك بالدور الثالث، ولا يسمح لهن بالجلوس مع الضيوف فى الدور الثانى.

المدفع 

فى أحد أيام شهر رمضان عام865 هـ/1460م، وقبل موعد الغروب كان السلطان المملوكى الظاهر أبوسعيد خُشقدم، يُجرب أحد المدافع؛ فدوت الطلقة فى سماء القاهرة، فظن سكانها أن هذا إيذان لهم بالإفطار فأفطروا وفى اليوم التالى توجه مشايخ الحارات إلى بيت القاضي، ليشكروا له وللسلطان هذا التقليد الجديد؛ فأُعجب القاضى بذلك أيما إعجاب، وأحبر السلطان، فأمر باستمرار إطلاق المدفع كل يوم.

وفى عصر المماليك كانت رؤية هلال رمضان تتم بالعين المجردة من خلال الصعود لقمة مئذنة مدرسة السلطان المنصور قلاوون المطلة على الحارة؛ فإذا ثبتت الرؤية أضيئت الأنوار فى الحوانيت والمساجد والشوارع والطرقات، ثم يخرج قاضى القضاة فى موكب مهيب، ويحمل جموع الشعب مشاعل وشموعًا، وينخرط الأطفال فى اللعب بالفوانيس، حتى يصل القاضى إلى بيته فيتجه كل فرد إلى حارته.

تقع حارة درب الأنسية خارج باب زويلة، تبدأ من شارع المغربلين وتنتهى عند شارع الدرب الأحمر أمام مسجد أبوحريبة الموجود صورته على الخمسين جنيه والاسم محرف من «درب اليانسية»؛ تنسب إلى طائفة من طوائف العسكر الفاطمية؛ تعرف باسم اليانسية التى تنسب إلى خادم خصى من خواص الخليفة العزيز بالله؛ اسمه أبوالحسن يانس الصقلى وبعد وفاة العزيز أقره الحاكم بأمر الله على  خلافة القصور، ثم عينه واليا على برقة، وذكر المقريزى أن الحارة ربما تكون منسوبة إلى يانس وزير الخليفة الحافظ لدين الله؛ الملقب بأمير الجيوش سيف الإسلام يانس الفاصد وكان أرمنى الأصل.

 وقال محمد رمزى إن لحارة اليانسية أو الألسية مدخلين الأول مقابل واجهة جامع قجماس الاسحاقى «أبو حريبة» على شارع التبانة، والمدخل الثانى على شارع المغربلين متصلا مع أول سكة المردانى من هذه الجهة والتى هى متفرعة بدورها من حارة زقاق المسك.

أهم معالمها الحمام البلدى الذى أصبح مستشفى درب الأنسية وفرن بلدى «أم حياة»، وكان بها مدرسة الشعب الابتدائية التى تهدمت ومسجد الأمير أحمد المهمندار الأثرى بشارع التبانة له باب فى الحارة، بناه الأمير شهاب الدين أحمد بن أقوش المهمندار ونقيب الجيوش فى سنة 1324م، وجعله مدرسة وخانقاه، وبنى إلى جانبها القيسارية والربع الموجودين إلى الآن .

  سبيل ووكالة الأغا

سبيل يوسف الأغا مسجل من العصر العثماني، وكانت الوكالة مصدرًا للإنفاق على قوافل الحج آنذاك ولكنها اندثرت ودمرت، أنشأها الأمير يوسُف أغا الحبشى سنة 1677م، وكان «قزلار دار السّعادة»؛ أى كبير المسئولين عن بنات القصر فى اسطنبول، ويعلوه كُتاب لتعليم الأطفال القراءة والكتابة وملحق بالوكالة.

السّبيل من أقدم الأسبلة القاهرية التى كان بها شذروانان، وقد اندثر أحدهما وتبقى الشذروان الثانى أمام الشباك الشرقى وكانت جدران حجرة التسبيل وما بها من دخلات والشذروانان مكسوة ببلاطات القيشانى وتساقط معظمها واللوحة التأسيسية على الواجهة باللغة التركية وهناك نص مترجم إلى العربية يمدح المبنى وعظمته، وذهب الى أن ماء السّبيل فيه شفاء السقيم، وأن بناية الكتاب خُصت لكل طفل يتيم.

وقد استعرض على مبارك حجة وقف السبيل المؤرخة سنة1680م، والتى نَصّت على أن يُصرف لعشرة تلاميذ أيتام بالكتاب أربعة أنصاف بدل جراية شهريا، وللمؤدب أربعون نصفا، وللعريف عشرون. وسبعمائة وخمسون نصفا سنويا لكسوة المؤدب والعريف والأيتام العشرة، وخمسة عشر نصفا لوقود قنديل حجرة التسبيل فى شهر رمضان.

  وقد ولد الشيخ أحمد محمد شاكر، أحد أئمة «علم الحديث النبوي» فى العصر الحديث؛ فى 2 يناير 1892م، بمنزل والده بدرب الأنسية، كما اشتغل بالقضاء الشرعى حتى نال عضوية محكمته العليا ولقبه شيوخ الأزهر بـ«شمس الأئمة أبوالأشبال» وينتمى إلى أسرة «أبى علياء» بجرجا من الصعيد، وهى أسرة شريفة، ينتهى نسبها إلى الحسين بن على بن أبى طالب -رضى الله عنهما-.

  حارة  الجودرية باسم الطائفة  الجودرية إحدى طوائف العسكر فى أيام الحاكم بأمر الله، والتى ترجع إلى جودر خادم عبيد الله المهدى مؤسس الدولة الفاطمية فى شمال أفريقيا «تونس»، وقد حضر منهم إلى القاهرة مع جوهر الصقلى 400 رجلا، واختطوا حارتهم فى المنطقة التى يخترقها اليوم شارع الجودرية وفروعه حارة الجودرية الكبيرة والصغيرة وعطفة الجودرية بقسم الدرب الأحمر وكان يرأسهم أبوعلى منصور الجودرى؛ فى أيام العزيز بالله، وزادت مكانته فى الأيام الحاكمية، فأضيفت إليه مع الأحباس والحسبة وسوق الرقيق والسواحل وغير ذلك. حارة كبيرة على يسار شارع الجودرية ممتدة إلى جامع بيبرس وإلى درب سعادة؛ لها بابان أحدهما من جهة سوق المؤيد والآخر من جهة جامع بيبرس، وبهذا الحارة أربعة فروع غير نافذة وزقاق يعرف بزقاق الغراب.

 وبهذه الحارة أربعة فروع غير نافذة وزقاق يعرف بزقاق الغراب، وزاوية الجودرى، التى كان مكانها المدرسة ‌الكهارية، ومكتوب على اللوح الرخام أعلى بابها أن الذى أنشأ الزاوية هو الملك السعيد محمد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس سنة 677 هـجرية.

 وقال عنها المقريزى هى زاوية شهيرة جددها الشيخ أحمد منة وجعل بها منبرًا وأقام شعائرها، بداخلها ضريح سيدى عمر بن السيد إدريس؛ من نسل على زين العابدين ابن الإمام الحسين رضى الله عنهم، واشتهرت اليوم بالزاوية الجودرية ومقابلها زاوية الست الشامية، وهناك أيضا زاوية الخلوتى بها ضريح الشيخ الخلوتى، وزاوية الصياد مدفون بها الشيخ الصياد، وسبيل يعرف «الست منور» وهى تابعة لوقف الإمام الحسين رضى الله عنه.

وجامع بيبرس الخياط تحفة معمارية، كان آخر الجوامع التى بناها المماليك البرجية فى القاهرة؛ حيث أكثر السلطان قلاوون من شرائهم وأسكنهم فى أبراج القلعة، وهم من أصل جركسى بعكس المماليك البحرية الذين كانوا من الترك،  بناه الأمير بيبرس بن عبد الله سنة 1515م، وألحق به ضريحًا، بداخله قبر زوجته وأولاده وكانت عليه قبة شامخة من الحجر، وسقطت المئذنة سنة 1884م، ولم يعاد بناؤها، وكان هو الخياط الخاص بالسلطان فلقب بالخياط، تقلد وظيفة مقدم ألف، وأنزله السلطان إلى مقدم لغضبه عليه.

وقرب الفحامين توجد زاوية ابن العربي؛ المسجلة كأثر، والتى كانت مدرسة تعرف بالشريفية، أنشأها الأمير فخر الدين أبو النصر إسماعيل، أحد أمراء الدولة الأيوبية، عام 1214م لتدريس الفقه الشافعى، وذكرها المقريزى فى المدارس فقال أنها بدرب كركامة على رأس حارة الجودرية وعرفت بابن العربى بعد أن دفن بها الشيخ على بن العربى الفاسى المصرى سنة 1769م؛ الشهير بالسقاط، والذى لد بفاس.

وقد جددها ولده أحمد بن عبد السلام عند عودته من الحجاز وتوليه مهام منصب شهبندر التجار؛ وغير معالمها فجعلها زاوية للصلاة ولها مطهرة وأوقف عليه مجموعة من منشآته العقارية والصناعية مثل الطواحين وأفران الخبز أو معامل السكر.

كما توجد دار السيد أحمد المحروقي؛ شهبندر تجار مصر؛ والذى كان شخصية وطنية مصرية خالصة، وأحد كبار قادة ثورة القاهرة الثانية ضد الحملة الفرنسية، ورافق زعماءها؛ وعلى رأسهم عمر مكرم نقيب الأشراف والشيخ الشرقاوى شيخ الأزهر والشيوخ محمد البكرى  ومحمد الأمير، وكانت الدار بمثابة مجلس قيادتها.