السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

بذخ وإنشاد.. وعبادة وصلاة

رمضان بالإنجليزى.. والفرنساوى أحيانًا!

القاهرة فى رمضان .. استضافت عددا من الرحالة على مدار تاريخها
القاهرة فى رمضان .. استضافت عددا من الرحالة على مدار تاريخها

محاولات كثيرة بدأت منذ أزمنة سحيقة عن أرض مصر ورمضان فى مصر، أقدم الرحالة الذين زاروا المحروسة رصدوا مظاهر شهر رمضان، من المستشرقين كان الأب فليكس فابرى الذى جاء فى رحلة عام 1483 وقدم شهادة تفصيلية فى دراسة بعنوان «الرحلة فى مصر»، ترجمها إلى الفرنسية جاك ماسيون نقلا عن الأصل الذى كتبه فابرى باللغة اللاتينية.



 

ظهر فى كتب المستشرقين تفرد رمضان بمكانة فريدة فى ذاكرة ووجدان الشعب على مر العصور باختلاف فى المذاق مع الشهر الكريم فى باقى البلدان العربية والإسلامية، وقد أصبغوه بمظاهر ومعان جعلته مختلفًا عن سائر بلدان الشرق الأخرى، فأقاموا من أجله الليالى الاحتفالية العامرة بشتى صنوف البذخ، إلى جانب حرصهم فى ذات الوقت على التقرب إلى الله.

 

الأكل والشرب والتدخين.. عادات الليلة الأخيرة فى شعبان زمان
الأكل والشرب والتدخين.. عادات الليلة الأخيرة فى شعبان زمان

 

يحكى «فيلكس فابرى» أنه لما جاء إلى مصر كانت أول ليلة له فى رمضان واندهش لكثرة ما رآه من مشاعر وزينة وفوانيس يحملها الكبار والصغار.. وشاهد المسحراتى فاعتقد أنه من رجال الدين، وكان يمر ثلاث مرات يوميًا ومعه طبق يدق عليه وينادى الناس بأسمائهم فى الحوارى.

والرحالة الفرنسى «جاك دى فلايمون» زار مصر عام 1589 وسجل أنه استأجر غرفة فى شارع رئيسى ليتابع احتفالات الشهر الكريم ووصف مواكب رمضان وحلقات الذكر، والمساجد المضاءة وزحام الأسواق ومآدب الإفطار التى يدعى إليها الأصدقاء ووصف المصريين بالكرم، وقال إنهم يجلسون على الأرض ويفرشون الطعام ويدعون المارة فى صدق وحرارة.

وفى عام 1798 بدأ العالم آدم فرانسوا جومار فى دراسته بعنوان «وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل» التى وردت ضمن مجموعة «وصف مصر» وذكر صورة تفرد رمضان بها عن سائر ما هو مألوف فى كتابات الرحالة أنفسهم وقال:

 

الفوانيس.. صناعة موسمية رائجة فى رمضان
الفوانيس.. صناعة موسمية رائجة فى رمضان

 

يبدأ رمضان مع ميلاد الهلال ويعلن عن ذلك موكب احتفالى يسبق بداية الشهر بيومين، ويتكون الموكب من حشد من الرجال يحمل بعضهم مشاعل، وبعضهم يحمل عصى، ويقومون بأداء حركات مختلفة بها ويفتتح سير الموكب عازفون يمتطون ظهور الجمال ويضربون على طبل معدنية، بينما يمتطى عازفون آخرون ظهور الحمير ويضربون على طبل أو يعزفون على آلات النفخ الأكثر صخبا».

إذ لم يغفل الرحالة والمستشرقون منذ العصور الوسطى رصد اختلاف حياة عامة الناس فى هذا الشهر تحديدا فجاءت كتاباتهم حافلة بشهادات ورؤى حفظت صورة تاريخية نابضة بالحياة حتى وقتنا هذا، غلبت عليها الدقة وطرافة الوصف فى نفس الوقت.

أكثر المستشرقين انخراطًا فى حياة المصريين كان «أدوارد لين» الذى شاركهم عاداتهم وارتدى زيهم وشاركهم الصلاة فى المساجد، واختار لنفسه اسم منصور أفندى.

وإدوارد لين الابن الثالث لكاهن فخرى لكاتدرائية «هيرفورد» الإنجليزية الشهيرة، والذى كان يعده والده للالتحاق بالكنيسة قبل أن يغير الابن خطط أبيه وينتقل فى عشرينيات عمره ليعيش فى القاهرة ويتعلم العربية ويكتب كتابا طويلًا يحكى عن عادات المصريين فى ثلاثنيات القرن الـ19، وكانت كتاباتهم الأكثر دقة فى الوصف لتقاليد رمضان وعاداته.

 

استطلاع الهلال.. طقس تسبقه احتفالات فى مصر زمان
استطلاع الهلال.. طقس تسبقه احتفالات فى مصر زمان

 

كتب لين يصف ليلة رؤية الهلال والاكتفاء مرات كثيرة بشهادة مسلم واحد أنه شهد الهلال خصوصًا فى ليالى تلبد السماء وعدم وضوح الرؤية ثم يسرد أجواء إبلاغ عموم المصريين ببدء شهر الصيام، ويكتب: فى الليلة التى يتوقع أن تكون صباحيتها صيام يرسلون فيها عددا من الناس الثقاف لعدة أميال فى الصحراء ليصفوا الجو ويهدأ الهلال، بينما يبدأ من القلعة موكب الرؤية الذى يضم المحتسب وشيوخ التجار وأرباب الحرف، والطحانين والخبازين والجزارين والزياتين والفكهانية، تحيط بهم فرق الإنشاد ودراويش الصوفية فى موكب تتقدمه فرق من الجنوب ويتقدم الموكب حتى ساحة بيت القاضى، ويمكثون بانتظار من ذهبوا لرؤية الهلال، وعندما تثبت رؤية الهلال يتبادل الجميع التهانى، ثم يمضى المحتسب إلى القلعة، بينما يتفرق الجنود إلى مجموعات، يحيط بهم المشاعلية والدراويش، يطوفون ضواحى القاهرة ويصيحون «يا أمية خير الآنام.. صيام.. صيام» أما إذا لم تثبت تلك الليلة يكون الصياح: «غدا متمم لشهر شعبان فطار فطار.

بعد أن يصل الخبر اليقين لرؤية القمر «الهلال»  إلى قصر القاضى، ينقسم الجنود والمحتشدون فرقا عديدة، ويعود فريقا منهم للقلعة، بينما تطوف الفرق الأخرى أحياء مختلفة فى المدينة ويهتفون «يا اتباع أفضل خلق الله صوموا، صوموا».

يضيف لين: «إذا لم يروا القمر فى تلك الليلة يصيح (غدا شعبان، لا صيام، لا صيام)، ويمضى المصريون وقتا كبيرا فى تلك الليلة يأكلون ويشربون ويدخنون وتتلألأ الجوامع بالأنوار، كما فى الليالى المتعاقبة، وتعلق المصابيح عند مداخل المآذن وأعلاها».

ولا تخلو ليالى رمضان من الذكر والتعبد، إذ كان يقيم أعيان القاهرة حلقات ذكر فى منازلهم يوميا طوال ليالى الشهر.

وعن المسحراتى كتب المستشرق الإنجليزى يقول: «لكل منطقة فى القاهرة مسحّرها الخاص الذى يبدأ جولته بعد ساعتين تقريبًا من المغيب (أى بعد صلاة المغيب بفترة وجيزة)، فيحمل فى يده اليسرى بازة صغيرة أو ما يعرف بالطبلة، وفى يده اليمنى عصا صغيرة أو سوطًا يضرب به.. ويرافقه فى جولته صبىّ يحمل قنديلًا فى إطار من أعواد النخل فيتوقفون أمام منزل كل مسلم إلا الفقراء منهم».

 

لكل منطقة مسحرها الخاص طوال الشهر فى القاهرة
لكل منطقة مسحرها الخاص طوال الشهر فى القاهرة

 

ويصف لين حال المصرية وعاداتها فيقول:.. «تضع المرأة فى العديد من منازل الطبقة المتوسطة فى القاهرة قطعة معدنية صغيرة (أو خمس فضات أو قرشا أو أكثر) فى قطعة من الورق، ويقذفونها من النافذة إلى المسحّر بعد أن تكون أضرمت النار فى الورقة حتى يرى مكانها، فيتلو المسحّر حسب رغبتها سورة الفاتحة وقصة قصيرة غير موزونة القافية ليسليها  كقصة (الضرتين) وشجارهما.

وعن الطبقة العليا قال لين: «تصل مباهج رمضان إلى معاقل النساء، ففى هذا الشهر يسمح للسيدات باستدعاء المنشدات ويجلس الزوج باسترخاء على أريكته ومبسم نارجيلته فى فمه، وإلى جانبه أحب زوجاته إلى قلبه ليستمعا معًا بمتعة شديدة إلى الأغنيات والموسيقى».

أما المستشار الفرنسى جاك ريسلر فكتب فى «الحضارة العربية» الحاصل على جائزة الأكاديمية الفرنسية: «على امتداد شهر رمضان من الشفق إلى الغسق يتوجب على المؤمن الصوم الذى يرمز إلى إماتة الجسد القاسية ونوعًا من التكفير عن الأخطاء، وبالتالى فعلًا تشفعيًا يتقرب به الصائم من ربه، ولكنه يرمى أيضا إلى توطيد الضبط الاجتماعى وجعل المؤمنين يشعرون بتماسكهم وتكافلهم.

ويقول المستشرق البريطانى أيوان ميردين لويس، وهو يستعرض تأثير انتشار الإسلام فى الشعوب الأفريقية: أدى اعتناق الإسلام بالإضافة إلى تأثيره على عادات الملابس والنواحى الأخرى للثقافة المادية، وبصورة خاصة على الهندسة المعمارية، إلى إعطاء طابع إسلامى قوى للطقوس الحياتية الأساسية التى يتميز بها مجرى حياة الفرد من المهد إلى اللحد.

ذلك لأن هذه الطقوس متشابهة إلى درجة كبيرة لدى المسلمين فى جنوب الصحراء الكبرى بالرغم من التنويعات المحلية التى تعكس عناصر سابقة للإسلام، وبالطريقة نفسها نجد أن التقويم الإسلامى بطقوسه الشعبية، وخصوصا فى رمضان، شهر الصيام، يعطى طابعا متجانسًا لتنظيم الحياة فى جماعات كانت بينها فى الماضى فروقًا كبيرة».

ويبقى رمضان وعاداته وفرحته هى الأكثر إشراقا وبهجة فى قلوب المصريين من كبيرهم إلى صغيرهم، والتى ينتظرها الجميع بالتهانى القلبية الحارة والصادقة والعبادات الروحية التى تسمو بالنسبة فى شهر البركة».