الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الإنشاد الدينى بصوت نون النسوة

زرعت فدان جمايل وأربعة معروف

فى أحد شوادر الغناء بالقرى
فى أحد شوادر الغناء بالقرى

يختلط الأمر لدى الكثيرين بين مفهوم الإنشاد والمديح والابتهال؛ لارتباطها ببعض الخصائص، ومنها أنها ألوان من فن الفلكلور الشعبى، إضافة إلى الصبغة الدينية التى يسطع من خلالها التصور الذهنى لكل مصطلح منها.. وفى الحقيقة تطلق «الإنشاد» على جميع ألوان الفنون، أما الابتهال فهو الدعاء والتسابيح، وهناك ابتهالات فى مدح النبى.. والمؤدى هو من يقدم هذا الفن الذى يتميز بالتلقائية فى الأداء.



 

وينتقل هذا اللون من الفن الشعبى، الذى سجله التاريخ عبر العصور، من بلد لآخر، والذى من خلاله تم التعرف على سير المبتهلات، وتناقلتها الأجيال من خلال قصصهن، وما تركنه من أثر فى كل مكان، ولكن ما استوقفنا هنا، هو الحاجة للإجابة عن عدد من الأسئلة المهمة، ومنها، كيف استطاعت تلك السيدات وتمكنَّ من حفظ قصائد تتكون من آلاف الأبيات المنغمة والمقفاة؟ وكيف لطفلة أن تحفظ كل هذا وتعيده وهى لا تقرأ ولا تكتب؟ ومن أين اكتسبت هذه الأذن الموسيقية التى تحفظ كل هذا الكم من الإيقاعات والمقامات، والتى يتم الآن تدريسها بالجامعات والمعاهد الموسيقية؟؛ حيث يظن البعض أنها بسيطة، ولكنها على العكس، فهى من أصعب ألوان الفن.

ليس هذا فحسب؛ بل كانت المرأة فى أغلب هذه الفرق العنصر الأهم بل الأساسى، بل بمثابة القائد.. وتحمل على عاتقها مهمة تحفيظ وتدريب أجيال جديدة، وتوفير المال للعديد من الأسر التى تعيش من هذا العمل، كن يقدن عشرات الرجال.. وهن رائدات الفن الشعبى، يمتلكن حناجر ذهبية، وكنوزًا وذكريات من هذا اللون الفنى، والذى أصبح تاريخًا عظيمًا.

 

 

 

سيدات أنجبن وربَّين أجيالاً، وقد انتهى الأمر بكثير منهن إلى اعتزال الساحة الفنية والإعلامية، ومنهن فاطمة سرحان، وسوزان عطية، اللتان تعلمتا هذا اللون على أيدى صانعيه، ودرستا فى معهد الموسيقى العربية، ونبوية النحاس، وآن زغلول، وسكينة حسن وغيرهن، وعندما أنشئت قصور الثقافة فى مختلف المحافظات، تبين للعالم أن هذا الفن هو تاريخ حقيقى، وليس مجرد لون للتسلية.

عاشقة المديح

ليست الأشهر فى عالم الفلكلور الشعبى فحسب، ولكنها من أهم أسباب انتشار هذا اللون إعلاميًا، الذى أتاح للعالمين العربى والغربى التعرف عليه بعد أن كان مقتصرًا على الموالد والمناسبات الدينية والشعبية.. هى «خضرة محمد خضر»، من مواليد محافظة البحيرة، التى اشتهرت بفرق الفنون الشعبية، وكان أفرادها يحفظون سير الأنبياء والتواشيح «الابتهالات الدينية»؛ لغنائها فى الموالد التى يجوبون القرى والنجوع والمحافظات للمشاركة فيها.

عمل والداها وجدتها لأمها بفن المديح، وأحبت الفن الشعبى الذى كان له تأثير قوى على تشكيل حياتها ومشوارها الفنى، فأصبحت من أشهر المبتهلات فى فن الغناء بالتراث الشعبى ومديح الرسول، وتميزت بالعفوية، ودأبها على العمل الجاد فى صمت، لم تضع ضمن خطتها السعى للشهرة، لكن كان للقدر دوره فى وصولها وفرقتها إلى تلك المكانة الكبيرة.

كانت الزيجة الأولى لـ«خضرة»، من شخص ليس له علاقة بمجال الفن الشعبى والموالد، فحاول أن يبعدها عن هذا المجال، وفى بداية زواجها انصاعت لأمره، ولكن ذلك لم يستمر طويلاً، فكان ارتباطها بالموالد أقوى، فعرفت طريقها إلى القاهرة، وبدأت الغناء فى سرادقات الحسين، ثم فى قيادة فرقة صغيرة تجوب بها الموالد فى القاهرة ومحافظات الوجه البحرى، وحاول زوجها مرة أخرى أن يثنيها عن هذا العمل، ولكن محاولته باءت بالفشل، مما كان سببًا فى انفصالهما.

ومن المعروف أن الكاتب والملحن المصرى الكبير، «زكريا الحجاوى»، جامع الموسيقى والتراث الشعبى، ومؤسِّس الفن الشعبى المصرى الحديث، هو مكتشف «خضرة محمد خضر»، أثناء رحلته فى البحث عن المواهب الشعبية، وعمالقة غناء السيرة والموال، وبدأ اكتشافه لهذا الفلكلور مع «خضرة محمد خضر»، بعد أن كانت اهتماماته بالفن المسرحى فقط.

كانت البداية عندما فكر المخرج الإذاعى «يوسف الحطاب»، فى مواكبة مشروع المسرح الملحمى لبرخت فى الخمسينيات، وقرر أن يقوم بنفس العمل ولكن على الصعيد المحلى؛ حيث تتمتع مصر بالعديد من الملاحم الشعبية التى تشكل تاريخًا كبيرًا للمسرح، وقرر أن يبدأ هذه الفكرة بملحمة «أيوب المصرى»، وطلب من الكاتب والإذاعى الكبير «محمد على ماهر»، الذى أثرى المكتبة الإذاعية بكنوز على مستوى الكتابة والإعداد والتأريخ، أن يكتب له سيرة «أيوب المصرى» كعمل إذاعى يقوم بإخراجه.

ولكن اعتذر «ماهر» له؛ لأنه لن يقدر على كتابتها باللغة العامية، التى تتناسب مع اللون الإذاعى فى ذلك الوقت، وطلب منه أن يستعين بصديقه الكاتب الإذاعى «زكريا الحجاوى»، وبالفعل قام بكتابتها، ولكن باللغة العربية الفصحى، وهنا أخبره «الحطاب» أنه يريد نقلها للإذاعة كما تنقلها فرق الفن الشعبى، وأنه قد سمعهما قبل ذلك فى مولد «الحسين»، وطلب الحطاب من الحجاوى الاستعانة بكتيب يحتوى على سيرة «أيوب المصرى»، ولكن من خلال الأبيات الشعرية التى تغنى فى الموالد.

وبدأ زكريا الحجاوى فى كتابة الملحمة، بعد أن قارن بين الكتيب وما ذكر فى الكتاب المقدس، واستعان بأحد أصدقاء المخرج يوسف الحطاب، لديه نسخة من الكتاب، وعقدت جلسة استمرت 6 ساعات، يطلع فيها زكريا على ما يرغب، وجمع ما يحتاج إليه من معلومات، وتم حجز استوديو لتسجيل أغانى الملحمة، وبدأت التسجيل «فاطمة على» المطربة الشعبية المعتمدة بالإذاعة، إلا أن الحطاب وجد أداءها لا يشبه التفاعل الحقيقى للحن الذى سمعه فى المولد، وأوقف التسجيل.

حكاية زكريا

وهنا كان السبب الذى جعل زكريا الحجاوى يذهب إلى الحسين، بعد أن طلب منه المخرج يوسف الحطاب ذلك، للبحث عن المطربة التى كانت تغنى فى المولد، ووصل إليها وكانت هى «خضرة محمد خضر»، ولكن انتابتها رهبة من الميكروفون فى البداية، ورفضت التسجيل وانسحبت من العمل، ولم يكن اكتمال العمل إلا بصوتها، وتم ذلك بالفعل، ولكن وقفت على مسافة من الميكروفون خلف الفنانة «فاطمة على» وقامت بالغناء على طبيعتها، وكانت هذه شرارة انجذاب زكريا الحجاوى لهذه الشخصية وهذا اللون.

واختفى الحجاوى عن الأنظار وغاب عن بيته، ما جعل زوجته تبحث عنه وتطلب مساعدة صديقيه على ماهر ويوسف الحطاب، اللذين علما أنه وقع فى غرام خضرة، وكوّن معها فرقة «النيل»، التى قدمت العديد من الملاحم والأعمال الشعبية الناجحة، والمديح ما يطلق عليها أيضًا «الابتهالات»، وقدمت ملحمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وملاعيب شيحة، والسيد البدوى وغيرها، واحتال أصدقاؤه للالتقاء به لإقناعه بالعدول عن الأمر، حتى إنهم وفروا له منحة دراسية لنيل درجة الدكتوراه فى الفنون الشعبية من رومانيا لمدة 5 سنوات، ولكنه رفض بشدة ووقف أمامهم وقال: «إنكم تدعون أنكم فنانون وتحبون الفن الشعبى ولكنكم مدعون.. أما أنا فقد عشقت الفن الشعبى وتزوجته».

 

الحجاوى خلال إحدى جولاته لاكتشاف مواهب الأقاليم
الحجاوى خلال إحدى جولاته لاكتشاف مواهب الأقاليم

 

وأطلعت «خضرة» الكاتب زكريا على مخزون «الحدوتة»، وأدخلته عضوًا فى فرقتها يجوب معهم البلاد وينقل عنهم، حتى أثرت مكتبة الإذاعة بالعديد من السير والملاحم بالتعاون مع المخرج يوسف الحطاب، وكانت بطلتها خضرة وفرقتها، وأصبحوا من مشاهير المجتمع العربى الذى ظل يردد أسماءهم كثيرًا. 

وأحبت خضرة محمد الكاتب «زكريا حجاوى»، وتزوجته فى مطلع القرن العشرين؛ حيث غيّر مجرى حياته من أجلها، ولكنه لم ينفصل عن زوجته الأولى أم أبنائه التى غضبت بشدة بعد علمها بهذا الخبر، كما كانت وفاة شقيقه وتركه لأطفال سببًا للزواج من أمهم، التى أنجب منها أيضًا، وبعد ذلك انفصلت «خضرة»عنه بعد عامين من الزواج؛ حيث لم تحتمل ارتباط قلب وعقل زوجها بامرأة غيرها، حتى اشتدت الخلافات بينهما وكان الطلاق هو النتيجة.

سرادق الطلاق

كان طلاقًا غريبًا من نوعه؛ حيث تم فى «سرداق» شعبى كبير أقيم بحى إمبابة، وغنت فيه خضرة على أنغام الناى والمزمار، أغنية من تأليف حجاوى كان قد كتبها لها: «شباك الحبايب ليه دايمًا موارد ومدرى الهوى..»، وبعد أن انتهت من الغناء قام الاثنان بجرح إصبع الإبهام، وشرب كل منهما من دم الآخر، ثم خرج زكريا من السرادق «خيمة الاحتفال» حزينًا، يردد موال السجن «زرعت فدان جمايل وأربعة معروف»، وكانت هذه عادة بين الفنانين الشعبيين، والتى يشرب فيها كل شريك من دم الآخر وقت الفراق، حتى يفترقا كشقيقين فى الدم بلا عداء.

ولم يمنع انفصالهما الارتباط الفنى، فظلت خضرة تقدم العديد من الابتهالات والمديح الشعبى والمواويل، وتكافح فى رسالتها وتنقلها للأجيال الجديدة، حتى إن خضرة ارتبطت بالإذاعة بشكل كبير، وكانت تحلم بتدشين مهرجان سنوى يليق بهذا اللون، ولكنها لم تجد من يعاونها على ذلك.

 

زكريا الحجاوى
زكريا الحجاوى

 

كانت الفنانة الشعبية «خضرة محمد خضر» تقدم برنامجًا أسبوعيًا بعد صلاة الجمعة لمدة نصف ساعة، ولذلك ارتبط اسمها بالإذاعة المصرية، وأصبحت جزءًا من برنامج البيت المصرى فى كل يوم جمعة، خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، هذا البرنامج الذى كان يبدأ بصلاة الجمعة، ويليها برنامج عالم الحيوان بالتليفزيون، ثم الانتقال للإذاعة لسماع فقرة خضرة محمد خضر، يليه برنامج على الناصية، وهى التوليفة المصرية داخل الأسرة.

ومن أعمالها: «آه ياليل يا قمر»، «يامسعد يااللى تصلى على النبى»، «الصبر طيب للإمارة يصبروا»، «ياما جرى لأيوب على حكم الزمن»، «وادى بنت عمه على البلاوى صابرة»، «أيوب وناعسة» التى غنتها مع المطربة فاطمة عيد، وموال «نظرة ومدد»، وبعد نجاح كبير حققته فى أداء المديح الشعبى، والمواويل، بدأ صُناع السينما بالاستعانة بها فى أفلامهم، وشاركت فى عدد من الأفلام، منها «شقة الطلبة» و«هو والنساء» و«أنا الدكتور».