الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
والتاريخ ينبئ أحيانًا

والتاريخ ينبئ أحيانًا

 علّمنا التاريخُ أنه يستطيع أن يُنبئ بخصائص تظل مقرونة بتصرفات الدول على مدار الزمان، ففى عام 1962 رفض الاتحاد السوفيتى تفكيك منصات الصواريخ التى أنشأها فى كوبا، ورفض كذلك سَحب صواريخه منها، فأعلنت أمريكا عزلًا بحريًا على كوبا.. بعدها بأربعة أيام فكك الاتحاد السوفيتى المنصات وسَحب الصواريخ, كما أنه هدد ست مرّات بالتدخل بالقوة فى صراعات الشرق الأوسط من عام 1956 إلى 1973، لكنه لم يفعل. وكان النموذج السوفيتى واحدًا لا يتغير فى كل مرة من المرّات الست، إصدار إنذارات بالتدخل بالقوة، لكنها تصدر دومًا بعد مرور أوج الأزمة, وتفكك الاتحاد السوفيتى فى ديسمبر 1991، وتحلل إلى 15 دولة مستقلة منها روسيا (زعيمة جمهورياته قبل تفككه)، وكان من أسباب تفككه ذلك الصراع والمنافسة الحادة التى أدخلته فيه وفيها أمريكا على زعامة العالم، فأرهقه ذلك اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، وتفكك.



واليوم تعود إلى الأذهان إرهاصات اندلاع حرب عالمية ثالثة نتيجة الحرب «الروسية-الأوكرانية»، لكن الدرس والتحليل مفادهما مختلف، فالاتحاد السوفيتى وهو فى أوج قوته لم يستطع مواجهة أمريكا والغرب إلا بمواجهات افتراضية، رُغم أنه كان وقتها 15 دولة، أمّا اليوم فروسيا وحدها، ومعها دولة أو دولتان من جمهورياته القديمة، فباقى دوله انضمت إلى حلف الناتو (حلف أمريكا والغرب العسكرى)، أو تدور فى فلك الغرب, هذه مسألة تضغط على الكرامة الوطنية الروسية، وتجعلها تسعى لاستعادة إمبراطوريتها القديمة، ويسيطر هذا الهدف على عقل ووجدان الرئيس الروسى بوتين، ويسعى إليه على قدر ما تسمح به ظروف توازنات القوى الدولية، ولا شىء يوقفه فى مساره هذا إلا إذا أحس أن مسعاه هذا سيؤدى إلى اندلاع حرب عالمية.

فـ«بوتين» يستطيع أن يضرب أوكرانيا لأنها ليست عضوة بحلف الناتو، ولأنها متاخمة مباشرة لحدود روسيا، والأمريكان يعرفون أن هدف روسيا استعادة جمهوريات الاتحاد السوفيتى، لذلك ضموا كثيرًا من هذه الجمهوريات إلى عضوية حلف الناتو، وجاءوا عند أوكرانيا- وهى أخطرها أثرًا على أمن روسيا من حيث القوة والإمكانات والقرب الجغرافى المباشر لروسيا- ولوّحوا ولمّحوا بإمكانية قبولها عضوًا بحلف الناتو، وبلغة المسرح- أبوالفنون- أصبح المشهد فى عيون الرئيس الأوكرانى نهارًا خارجيًا تحمله فيه الجماهير على الأعناق كبطل قومى تحدى الروس- لكن حسابات أمريكا والغرب كانت مختلفة، فقد توقعوا أن الرئيس الأوكرانى سيدخل سريعًا فى كادر كاميرات الإعلام العالمِى، وأن بوتين سيغضب منه حرصًا على سلامة وأمن روسيا، فيهاجمه ويضرب أوكرانيا، وعندها يكون الرد الغربى عنيفًا، يوجع الروس اقتصاديًا, وفعلها بوتين فعلًا وبدأت الأزمة.. وهى أزمة يستطيع الغرب تحمُّل تبعاتها الاقتصادية، أمّا روسيا فلا يمكنها ذلك؛ خصوصًا إن طال زمن الحرب، وطالت خطوط إمداد المعارك، وصَعُبت لوچستيات القتال.

إذن هى معركة حقيقية على الجبهة «الروسية- الأوكرانية»، لكنها افتراضية على مسرح الحرب العالمية، وسيظل الأمر كذلك، لكن الثمَن سيكون غاليًا يدفعه الجميع، وقد تَضعف روسيا فى منتصف الطريق كما ضعف الاتحاد السوفيتى قبل ذلك.

وإذا كانت النيات السلمية صافية، فنهاية الأزمة «الروسية- الأوكرانية» ممكنة، فليس على الأمريكان إلا الإقرار بعدم ضم أوكرانيا لحلف الناتو لا الآن ولا مستقبلًا، وعليهم أن يتفقوا مع الروس- هم والغرب معهم- على شراكة اقتصادية بنّاءة، وعليهم أن يتعهدوا بتحديث وتطوير أوكرانيا وإعادة بنائها، والأهم الاتفاق على أن تبقى أوكرانيا دولة حياد مثلها مثل سويسرا.

أمّا ما يجب أن يتعاون فيه العالم أجمع؛ فهو العمل على ألا تَطول الأزمة  «الروسية- الأوكرانية»، فويلاتها الاقتصادية حارقة لمن لا يستطيع الصمود طويلًا.