الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
متعة فى بحر الشعر

متعة فى بحر الشعر

فى معية الكلمة سبحت فى عوالم الشعر والشعراء، فإن كان الشعر هو فيض الأحاسيس والمشاعر الممتزجة بالفكر وما يبطنه الوجدان، إلا أن فلسفة الشعر نتاج عمق متراكم فى النفس البشرية التى أبدعت لتنمقه بكلمات ذات جرس موسيقى تلتقطه الأذن فتثير شجاها، وإيقاع منضبط يفرغ رغبتنا لمتعته. إن الكلمة الوجدانية تنقلنا من واقعنا إلى أحلامنا، ولأنه من أوائل الفنون الأدبية العربية فله فى النفس مكانة، حيث يأخذنا الشاعر فى فضائه الشعرى الرحب لننتقل من محدودية الدلالات إلى الخروج عن المألوف والنمطى وفسح أفق الخيال على مصراعيه لنتذوق جماليات الكلمة ومعانيها المتدفقة فى بحور الشعر وأدواته.



وها أنا خلال معرض الكتاب الأخير بالقاهرة استمتعت بديوانين، أولهما للمثقف العراقى الدكتور على الشلاه بعنوان «لا باب للبيت» الصادر عن مؤسسة بتانة. والديوان مزيج رائع لأحاسيس مرهفة نبتت عبر مسيرة إبداعية تزيد على عقدين، حيث تضمن الديوان بعض الأعمال التى انتقاها الشاعر فى بعض المدن الأوروبية منذ عام 97 فى جنيف ثم زيوريخ ولندن، بعدها ينتقل بنا بتجربته الإبداعية لمدن عربية كغرناطة وبابل والقاهرة. متعة الديوان تتأرجح بين مشاعر الصوفية والمحبة لله، وبين فلسفة دنيوية حائرة للبحث عن أمان الوطن. إنها تجارب ذاتية للشاعر تؤكد رصانة كتاباته وفصاحة تراكيبه اللغوية وبلاغة مفرداته التى ينتشلها من بين خبراته ومساعيه.

وجاءت بعض سيميائية عناوينه فى الديوان معبرة عما يشجيه داخليًا من إحباطات ومآسى أراها حزنًا على وطنه الذى استبيح وفقد عزمه وشدته بعد بأس وقوة حضارة تضرب فى جذور التاريخ، إنه حزن المثقف الواعى كما فى «بعد عشر سنين»، «المقبرة»، «الضياع»، «أنا رجل مائل للغروب»، «لا باب للبيت»، «إنهم يبكون»، كما يداعبنا بسخرية الأقدار فى روائعه «أحاولنى»، «قرون وسطى»، «الرائى». أما قصيدة «السلام على العراق» فتقف عند حروفها متأملاً جماليات النص الذى يجنح بنا لنطوف حول هذا البلد العتيد متمنين له السلام والأمن واستعادة القوة.

أما الديوان الثانى «مجاز الماء» للشاعر المصرى سامح محجوب فنعود معه للقصائد الطويلة التى تغوص فى تجربة شعرية مليئة بالأحاسيس المنتفضة نحو مشاعر متأججة بعذوبة الكلمات، ورونق المحسنات البديعية للكنايات المتوارية فى رشيق مرادفاته، ورقيق قناعاته الإنسانية كما فى «هذا تأويل العاشق»، «أكتب كى أهزم موتى»، «شبق انفرادى»، «القيامة»، وأتوقف عند كلماته «أيها الناقصون المطرودون..أيها الحالمون المخطئون.. أيها الحيارى..أيها السكارى.. أيها المنبوذون.. أيها المنكسرون.. أيها الضحايا.. العالم لا يحتمل بدونكم» والتى سبقت نصه الممتع «شهقة وينزل المطر». 

إن البحث عن لحظة التطهر والولوج فى بحر الهوى يحترق بلهيب الشوق المتجسد فى كهنوت الشعر السرمدى، ليخرج من بوتقة الكلمات التائهة الحائرة بين أنامل مبدع ساقه القدر مترجلاً نحو المحبة فى ناسوت الكلمات القابعة فى خيالات قصائده المحملة بأبجديات العشق والإحساس المرهف بجماليات تخطت دلالاتها السطحية غائرة فى خضم اللوعات الرعناء، فننتشى ولعًا فى روعة نداءاته الشعرية. استمتعت بقراءة متأملة بلغة عربية رصينة ومدلولاتها الفصيحة بخيال فياض ينسينا واقعنا بآلامه لنحلم بقدر آماله.