الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مدينة سورية تتحدث بلغة المسيح

«معلولا».. لوحة فنية بديعة وتراث تاريخى مزقته هجمات التكفيريين

بيوت معلولا فى قلب الجبل
بيوت معلولا فى قلب الجبل

 معلولا السورية..  لوحة فنية تاريخية، قائمة  منذ آلاف السنين،  تحتوى على الأحجار الضّخمة، والكهوف، والمغارات المحفورة فى الصّخر التى سكنها الإنسان القديم منذ آلاف السنين، وتعيش فيها اللغة التى تكلم بها السيد المسيح -عليه السلام- وتقع على سفوح جبال القلمون السورية.



 تبعد مدينة معلولا 56 كيلو مترًا عن شمال العاصمة دمشق، وترتفع 1500 متر عن سطح البحر، وتطل على وادٍ من بساتين الزيتون الممتدة، حيث تنساب فيها الينابيع الباردة، وتعد من أجمل المناطق السياحية فى سوريا·

 

 لغتها السريانية أو «الآرامية الغربية»، هى اللغة التى تكلم بها السيد المسيح «عليه السلام»، وهى إحدى اللغات السامية القديمة التى تحدث بها السوريون منذ 3500 عام، وحين انحسر استخدامها ابتداء من القرن السابع الميلادى، وجدت بين سكان معلولا الوادعة كثيرًا من الغيورين عليها، حيث يبذل حوالى خمسة آلاف سورى  قصارى جهدهم لإنقاذها، ويشاركهم فى ذلك سكان قريتين صغيرتين مجاورتين هما «جبعدين» و«بخعة»، وثلاثتهم لا يزالون يتكلمون الآرامية القديمة إلى جانب العربية حتى اليوم فى حياتهم اليومية·

 

ممرات كهفية وطبيعة جبلية
ممرات كهفية وطبيعة جبلية

 

كانت الآرامية فى فترة من فترات الحكم البيزنطى اللغة الرسمية للبلاد، حيث وصلت إلى أوروبا غربًا والصين شرقًا، وكانت لغة العلوم والآداب والفلسفة، وفى زمن الخليفة المأمون، تحولت حركة الترجمة عن اللغة اليونانية، من الآرامية إلى العربية، وهكذا بدأت اللغة الآرامية تنحسر فى كل مكان·

ويرجع المؤرخون احتفاظ معلولا والقريتين المجاورتين لها بلغة السيد المسيح إلى ارتفاعها ووعورتها وانعزالها طوال قرون طويلة، وبالتالى عدم اختلاطها بغيرها من اللغات· 

30 ألف عام 

ويؤكد الباحثون والمؤرخون أن تاريخها يعود إلى ثلاثين ألف عام، حين سكنها إنسان العصر الحجرى، وتدل على ذلك الشواهد المادية المتبقية على جدران الكهوف القديمة فى أعالى الجبال· 

والطريق إلى معلولا جبلى، لا يوحى أبدًا بالمفاجأة القادمة، وكأن الجبال تريد أن تحمى جوهرتها الثمينة فلا تدل عليها أحدًا، وبعد قليل ينتصب تل كبير ينفرج شيئًا فشيئًا ليصبح واديًا منخفضًا، فيظهر للعيان مساحات خضراء واسعة وتظهر «معلولا» دنيا من الجمال الأخاذ·

 منازلها محفورة فى الصخور وهى تتكئ على بعضها بعضًا على شكل مكعبات صعودًا من سفح الجبل، وتربط بينها ممرات ضيقة، بينما تصل بين بعضها الآخر سلالم خشبية، تضع الزائر لها فى أجواء خيالية ساحرة، تشبه قصص الجدات والأساطير القديمة·

 

تمثال للعذراء مريم فى معلولا
تمثال للعذراء مريم فى معلولا

 

 أما فى أعالى الجبال فتشاهد «القلالى» وهى كهوف صخرية كان الزهاد والرهبان المسيحيون ينصرفون فيها إلى الصلاة والتأمل والتقشف، ويلجأون إليها هربًا من الوثنية والاضطهاد الروماني· 

ومن معالم «معلولا» المشهورة الفج الجبلى الذى يدعى بفج مار تقلا، وهو ممر صخرى يخترق الجبل إلى الجهة الأخرى منه، ويقسم القرية إلى شطرين، وبه ترتبط أسطورة القديسة تقلا، وهى ابنة أحد الأمراء السلجوقيين، وتلميذة بولس الرسول أحد تلامذة السيد المسيح عليه السلام· 

فبعد أن اعتنقت تقلا المسيحية، اضطرت للهرب من والدها الوثنى، الذى أرسل مجموعة من الجنود لملاحقتها وقتلها، لأنها ارتدت عن دينه، وحين وصلت إلى جبل سد عليها طريق النجاة، أخذت تبكى وتتضرع لله ليساعدها· 

وتقول الروايات إنه تم الاستجابة لدعائها فانشق الجبل، وتمكنت من النجاة· وفيما بعد لجأت إلى إحدى المغارات وزهدت وتنسكت فيها· 

رمز للتعايش

كانت «معلولا» فى العهد الآرامى تتبع لمملكة «حمس»، وعرفت فى العهدين الرومانى والبيزنطى بـ«سليو كوبوليس»، ولعبت دورًا دينيًا مهمًا منذ القرن الرابع الميلادى، حيث كانت مركزًا لأسقفية استمرت حتى القرن السابع عشر· 

ويوجد فيها العديد من الأماكن الدينية والأديرة والكنائس والمزارات، وأهمها دير مار تقلا، ودير مار سركيس، وهو أحد الفرسان السوريين الذين اعتنقوا المسيحية سرًا، وكان جنديًا فى الفيلق الرومانى، وحين رفض تقديم القربان لإله الشمس حكم عليه بالموت، ودفن فى هذا المكان، وفى عهد الإمبراطور البيزنطى قسطنطين أمر بتشييد دير من خشب الأرز باسم القديس سركيس مكان المعبد الوثنى سنة 315م، بعد أن أصبحت الديانة المسيحية هى الديانة الرسمية للإمبراطورية· 

على الرغم من أهميتها الدينية الكبيرة فى التاريخ المسيحى للمنطقة، تمثل معلولا رمزًا للتعايش بين الديانتين الإسلامية والمسيحية فى سوريا، حيث يمثل سكانها نسيجًا اجتماعيًا واحدًا، ويبلغ عدد المسلمين المتحدثين بالآرامية ضعف عدد المسيحيين، مع أن عدد الكنائس يفوق بثمانية أضعاف عدد المساجد فيها·

 معلولا عبارة عن متحف مفتوح فى أعالى سلسلة جبال لبنان الشرقية المعروفة بجبال القلمون، حيث يزورها باستمرار عدد كبير من السياح والرحالة والباحثين المهتمين بالتاريخ واللغة الآرامية، التى دعمت «الحكومة السورية» افتتاح مدارس لتعليمها منذ عام 2003.

 وتشتهر بوجود معالم قديمة مهمة يعود تاريخها للقرن العاشر قبل الميلاد، كما تحتوى على معالم تاريخية متفردة أهمها الأديرة والكنائس والممرات الصخرية، وعلى آثار مسيحية قديمة ومهمة فى تاريخ المسيحية، منها كنيسة بيزنطية قديمة، وأضرحة بيزنطية منحوتة بالصخر فى قلب الجبل، كما يوجد فيها دير مار تقلا البطريركى.

وتحتوى أيضًا مجموعة كبيرة من الآثار اليونانية، حيث كانت مركزًا تجاريًا ضخمًا أيام الحكم الهيلاستينى فى القرن الثالث  قبل الميلاد، حتى وصل عدد السياح إلى مدينة معلولا فى عام 2010 إلى مليون سائح، وقد قصدها سياح العالم لثقل تاريخها ومعالمها الأثرية.

أكثر ما يُميّز هذه المدينة بيوتها المرتفعة فوق بعضها البعض فى لوحةٍ فنيةٍ ذات طابعٍ مُتميّز، كما تحتوى على الأحجار الضّخمة، والكهوف، والمغارات المحفورة فى الصّخر التى سكنها الإنسان القديم منذ آلاف السنين.

 

الأديرة طالها عنف التكفيريين
الأديرة طالها عنف التكفيريين

 

طبيعة جبلية

بقيت معلولا على حالتها كما هى بسبب وجود مياه باطنية جعلتها صامدة أمام الطبيعة الجبيلة القاسية، وقبل هجمات التكفيريين والجماعات الإرهابية على سوريا كانت معلولا تضم 12 ألف نسمة، ولكن جاءت الحرب كما لم يتوقعها أحد من سكانها، فقد قصفت ودمرت كثيرًا من المناطق الأثرية والتاريخية، وأدى ذلك إلى هروب عدد كبير من الأهالى، حتى وصل سكانها الباقين نحو 3 آلاف نسمة، وما زال آخرون فى انتظار العودة بعدما استطاع الجيش السورى السيطرة على القلامون بما فيها معلولا.

وتعرضت العديد من الأيقونات والأجراس للسرقة والنهب، بالإضافة إلى تخريب بيوت الأهالى وقذفها وأصبحت كومة من التراب والرماد.

ويحكى أهالى معلولا أن الأطفال الذين نشأوا فى ظل الحرب يفتقدون إلى الحس والفن والطابع الأصيل لأهل معلولا، وأنهم يميلون إلى العنف والتخريب، على الرغم من اهتمام الجمعيات العالمية بتقديم الدعم والمساعدة لإعادة بناء المدينة لما لها من أهمية تاريخية ضخمة.

 ويتذكر أهالى معلولا دار المسنين التى تعرض للقصف الدموى حتى إن الشباب قاوموا النيران ودخلوا دار الأيتام وحملوا العجزة وكبار السن على اكتافهم وخرجوا بهم فى نفق معد للسيول الفجائية، استخدمه الشباب للمرور بكبار السن فى الظلام حتى وصلوا إلى الطرف الثانى للبلدة وأعادوهم إلى أهاليهم وإلى الناس التى تحسن احتضانهم فى ظل الحرب.

وفى الممر الضيق الآن عند سفح الجبل، يعمل الرجال لعودة بلادهم وتجهيزها أجمل مما كانت عليه.