الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
قواعد الخلطبيطة

قواعد الخلطبيطة

هناك مدرستان فى التخصص. الأولى تؤمن بالتخصص، حيث لا مجال للخلط بين التخصصات أو التمازج أو التزاوج بينها. والثانية ترى أن التخصص الشديد فى علوم البشر وشئون حياتهم أمر بالغ الصعوبة، وأن الأصل فى الأشياء هو الاندماج والتلاقى.



ولا يمكن وصف مدرسة بأنها أفضل من الأخرى، لكن يمكن ترجيح كفة واحدة على أخرى. ويبقى المهم هو الاختيار دون شخصنة أو تمييز أو فتح المجال للأهواء.

الدول التى سبقتنا فى المسيرة السياسية والعلمية والفكرية حسمت أمورها فيما يختص بالتخصص. رجال الدين حدودهم كنائسهم أو معابدهم، ومن يلجأ لهم فهذه حرية شخصية، لكن عليه أن يلتزم بقوانين الدولة بحذافيرها، فمثلاً إذا قاد سيارته عكس الاتجاه، ولجأ إلى رجل الدين يسأله إن كان قد اقترف ذنباً، فأفاده بأن كتابه المقدس لم يذكر شيئاً فى باب الكبائر عن السير العكسى، فهذه حرية شخصية لكليهما، أما إذا قرر المواطن أن يقدم لرجل المرور وثيقة حررها رجل الدين تفيد بأن سيره العكسى ليس مشكلة، فإن رجل المرور سيخبره أن عليه أن يبل الورقة ويشرب ماءها. وسيخضعه لنصوص القانون الخاصة بعقوبة السير العكسى. ولن يقبل رجل المرور أو القاضى تدخل رجل الدين لتبرئة ساحة الرجل أو تخفيف عقوبته بحكم أن ما فعله ليس حراماً أو خطيئة. لماذا؟ لأن هناك تخصصًا واضحًا وصريحًا، ولأن هناك اتفاقًا موثقًا فى الدساتير والقوانين يفيد بأن الطبيب لا يقوم بمهمة رجل المرور، ورجل المرور لا يعالج المرضى، والمرضى لا يطلبون العلاج لدى الحداد، والحداد لا يُفتى فى أمور الدين وهلم جرا. 

وجرى العرف أن يكون لكل ممن سبق اهتمامات وهوايات خارج إطار تخصصه. فربما الطبيب يعزف على البيانو، ورجل الدين يحب  صيد السمك، ورجل المرور يهوى الغناء، لكنها تبقى هوايات وميول وليست مرجعيات يعتمد عليها الآخرون، وإلا انقلب الحال سداحاً وتحول الوضع مداحاً.

لكن فى أمم وقبائل أخرى، يحبون السداح ويعشقون المداح ولا يرون غضاضة فى أن يستيقظ الحداد ذات صباح ليقرر أن يكون مهندس ديكور، ويتحول الطبيب ذات ليلة إلى رجل دين والمهندس إلى خبير تنمية بشرية والمحاسب إلى مدرس خصوصى والقوس مفتوح.

فى مصر الباب وليس القوس وحده مفتوحًا على مصراعيه. ومنذ عاد عم محمد السباك والأسطى حسين النجار والواد فتحى الجناينى من هجرة اقتصادية هنا وهناك وهم «مشايخ» يفتون فى أمور الدين ويجلهم المجتمع لأنهم باتوا يرتدون جلباباً قصيراً ولهم لحية طويلة ولا ينطقون بصباح الخير وشكراً ومن فضلك، بل يعتنقون «السلام عليكم» و«جزاك الله خيراً» و«بالله عليك». 

وإذا كان بيننا من ارتضى وسمح وترك محاسبًا يتحول إلى داعية وطبيبًا يصبح فضيلة الإمام ونجارًا يخطب فى المصلين، فإن هذا يعنى أن مدرستنا فى التخصص تميل إلى المزج. وعليه وحتى نكون متسقين مع أنفسنا، فعلينا أن نحدد إذا كان قبولنا لهذا المزج له استثناءات أو قواعد بحيث يُمنع من يأتى كلامه فى غير تخصصه على غير هوانا من الحديث فى غير تخصصه. بمعنى آخر، حيث إننا اخترنا الخلطبيطة فى التخصص، فعلينا إما أن نعلن قواعد الخلطبيطة أو نتركها دون قيود.