السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قصة صحفية مخطوفة

العــودة مـــن الجــحيـــم

صور لأماندا خلال فترة احتجازها
صور لأماندا خلال فترة احتجازها

أماندا ليندهوت أحد النماذج الحية للقيام بالتغطيات الصحفية فى المناطق المشتعلة من العالم. المتطلبة وجود صحفيين أو مراسلين متخصصين، أصحاب صفات وسمات تميّزهم عن غيرهم من الصحفيين. لذلك لم تنهر أماندا ليندهوت عندما تعرضت لعنف شديد، بما فى ذلك الاغتصاب الجماعى، على أيدى خاطفيها فى الصومال. 



 تقول أماندا عن ذلك : ثم كان فوقى، وكنت أكرهه مع كل جزيئ فى جسدى. أردته أن يموت. أضع يديّ على صدره لأخلق نوعًا من الحاجز بيننا. شىء ما بداخلى يعوى.. وحدث شىء ما.. لم أعد فى جسدى..  وبالطبع هذا الاختيار السردى يجعل «A House in the Sky» أكثر قوة.

 

 بدلًا من التركيز على التفاصيل، ركزت ليندهوت وكوربيت على تجربة أماندا لهذه الأحداث وكيف قامت بتحويلها: «مرت الصور أمامى، ومشاهد من قصص رواها لى عبدالله قبل أشهر. ظهرت حياته فجأة. رأيته كصبى يركض من انفجار.. عرفت معاناته لجزء من الثانية.منذ تلك اللحظة، تعمل أماندا بجد لزراعة بذور التعاطف التى تشعر بها تجاه آسريها. عندما تم إطلاق سراحها، بدأت مؤسّسة Global Enrichment Foundation، وهى مؤسّسة غير ربحية تتمثل مهمتها فى توفير التعليم للمرأة الصومالية». 

 

درست أماندا المعابد الطحلبية فى إنجكور بكمبوديا
درست أماندا المعابد الطحلبية فى إنجكور بكمبوديا

 

تقول: ما زلت أعانى من ذكرياتى - ما زلت أخشى أن تجعلنى الأصوات المظلمة والصاخبة أقفز وعندما يقترب الرجل كثيرًا، أريد أن أركض. لكنى أرى أن الشفاء يحدث وأنا أتعلم التعايش مع صدماتى. إننى أتوصل إلى فكرة أنه فى حين أن الاختطاف سيكون دائمًا جزءًا من قصة حياتى ومنّى أنا، ومع ذلك فإن الصدمة الناتجة عنه لا يجب أن تسيطر علىّ».

تفاصيل الطفولة

نشأت أماندا ليندهوت فى ظروف قاسية. وُلدت فى ألبرتا بكندا، وقضت ليالى طفولتها مستلقية فى سريرها العلوى، تستمع إلى والدتها، لوريندا، وهى تتعرض للضرب المبرح من قبل صديقها. خلال فترة الدراسة بالصف الرابع، كانت ليندهوت تغوص فى القمامة والعلب مع شقيقها الأكبر. ومن جمع الخلفات كانت تحصل على الأموال، ومع تدفق أموال إعادة التدوير، كانت تذهب إلى متجر قريب لبيع السلع المستعملة لشراء ناشيونال جيوجرافيك.

 بين الحدود الصفراء، درست «المعابد الطحلبية فى أنجكور»، «الهياكل العظمية الخالية من رماد البركان فى فيزوف»، أطفال لاجئون فلسطينيون يجلسون «فى خيام بلون البطاطس». دربت عقلها على الهروب من العنف المحيط بها.

 

برينان
برينان

 

من المعروف أن معابد انجكور فى كمبوديا مثالًا أصيلًا لفن العمارة الخمرية، وأصبح رمزًا لكمبوديا يظهر على علمها الوطنى، إلى جانب كونه عامل الجذب الرئيسى للزوار فى الدولة. 

بدأت ليندهوت رحلاتها فى سن العشرين، متجهة أولًا إلى فنزويلا. مولت أسلوب حياتها المتجول من خلال توفير النصائح التى قدمتها كنادلة كوكتيل راقية، تسافر لأشهر فى كل مرة، وتتجول بميزانية صغيرة عبر أمريكا الوسطى والجنوبية وآسيا وإفريقيا. سعيًا وراء الإثارة ؛ عاهدت نفسها بالمضى قدمًا دائمًا، بغض النظر عن أى شىء ولم يكن هذا مجرد بحث عن التشويق لكنها شعرت وكأنه وحى.

وقبل دخولها أفغانستان فى عام 2005، لجأت ليندهوت إلى  كتاب «القوة الآن» لإيكهارت تول. أخذت منه تعاليمها؛ وأنها يجب أن تستمع إلى ما وراء مخاوف عقلها المستمرة ؛ والاستماع إلى صوت روحها، مما حثها على المضى قدمًا. 

 

حولت القصة من أحداث الرعب إلى مواجهة مع النفس
حولت القصة من أحداث الرعب إلى مواجهة مع النفس

 

استفادت أماندا من هذا الكتاب؛ لأن هذا الكتاب يحدثنا عن ذاتنا فى ما وراء العقل وكيف أن العقل يسعى ليكون المسيطر؛ لأنه لا يستند إلى أى عقيدة معينة أو أى لون دينى أو عنصرى أو حتى طائفى معيَن، أنه يطرح الحياة بمنظور مختلف وكيف أن الإنسان يستطيع أن يتحكم فى حياته من خلال مجرد الرقابة على العقل وتفعيل عمل الذات التى هى الأقوى والأصلح ومن خلالها يمكن للإنسان التحكم فى حياته كلها.

وراء العقل

ويوضح الكتاب، أن المعاناة ما هى إلا وهم من صنع العقل فهو دائمًا ما يجعلك أسيرًا لما حدث فى الماضى وإذا ما فشل بذلك فإنه سيجعلك تعيش فى رعب من المستقبل؛ حيث أنه يحرر الإنسان من الماضى والمستقبل ليعيش «الآن» ويستطيع أن يشعر بالحياة من حوله ولا يفقد الفرصة الحقيقية فى الحياة والتى تكمن فى اللحظة الراهنة أمّا الماضى والمستقبل وكل ما يعكر صفو اللحظة الآنية فما هو إلا مجرد وهم ينسجه العقل ليأسرك فيه.

بعد ستة أيام من دخول أماندا ليندهوت أفغانستان تعرضت للسرقة فى سوق مزدحم، وانحشرت فوهة المسدس تحت ضلوعها. والدرس الذى استخلصته خالٍ من النقد الذاتى ومخيب للآمال: لا تعبث بأفغانستان.

 

 

 

بمجرد أن التأمت كدمة البندقية، ظلت ليندهوت مقتنعة بأنها لا تقهر. بعد ثمانية أشهر، وهى تتجول فى إثيوبيا، التقت برينان، وهو أسترالى يبلغ من العمر 35 عامًا، وكان يحاول بدء مسيرته المهنية فى التصوير الصحفى.

عندما اعترف لها فى النهاية أنه متزوج، تفككت خطط ليندهوت للانضمام إليه فى أستراليا.

وقررت أن تحاول دفع تكاليف رحلاتها كمصورة صحفية مبتدئة مثل برينان. عادت إلى أفغانستان، ثم سافرت إلى بغداد بعد أن حصلت على وظيفة مراسلة لقناة تليفزيونية تمولها الحكومة الإيرانية.

 رحلت إلى كينيا، وهى نقطة انطلاق للصحفيين الذين يغطون الحرب فى الصومال.

كانت ليندهوت ترى فى الصومال، «أخطر بلد على وجه الأرض». كما أقنعت برينان بالانضمام إليها. الطريف أنها تعترف : «الحقيقة أننى كنت أحتاج إلى شخص ما، ليأتى معى ويتقاسم التكاليف». فى هذه اللحظة من المذكرات، كانت ليندهوت تبدو مهتمة بالمغامرة التى تصل إلى حد الاندفاع أكثر من اهتمامها بالعمل الذى تقوم به، ولم يكن واضحًا ما الذى دفعها إلى هذا سوى الاحساس بالأنا والأدرينالين.

ومع ذلك، لا شىء على الإطلاق تفعله أو فعلته حتى هذه اللحظة يجعلها مسئولة عن الوحشية التى تعرضت لها، ونفس الوقت من المستحيل أن تدرك انها تلك الشخصية التى سوف تتمتع بأحكامه بعد ذلك.

المشهد الداخلى

فى منتصف أغسطس 2008، عندما هبطت هى وبرينان فى مدينة مقديشو المهدمة بدون أدنى فكرة عما كانا يقومان به ولا توجد مهام للتحدث عنها (بخلاف عمود السفر الذى كانت تكتبه ليندهوت لصحيفة مسقط رأسها؛ وبعد بضعة أيام محبطة، انطلقوا بعد ظهر أحد الأيام لزيارة مستشفى ومخيم للنازحين بقيادة طبيب صومالى؛ وعلى الطريق، حدثت الكارثة فى شكل مسلحين مدججين بالسلاح، قاموا بجرهم إلى الأسر.

من هنا يبدأ الكتاب فى اكتساب قوته الهائلة. عندما ينقلب المشهد الخارجى لها رأسًا على عقب، ويزداد وضوح المشهد الداخلى لديها ويزداد عمقًا.

منذ الساعات الأولى لهم كسجناء، هى وبرين أجبروا على التفاوض بشأن بقائهما غير المؤكد مع مجموعة متغيرة من الخاطفين الذين يمتلكون سلوكيات وأجندات مختلفة. نادت ليندهوت كل رجل بـكلمة «الأخ»؛ حيث كانت تأمل أن تتمكن من التواصل معهم من خلال إلمامها الضئيل بالإسلام. كانت تخشى الانفصال عن برينان والاغتصاب. 

فى تلك الأيام الأولى لم يتحطم وهمها بالسيطرة بعد؛ لأنها كانت تجهد عقلها بحثًا عن طرق للتواصل: «لو تمكنا فقط من الوصول إلى الاستراتيجية الصحيحة للتحدث مع الرجال الذين يحتجزوننا».

ولكن عندما علمت أنها محتجزة مقابل فدية قدرها 1.5 مليون دولار، أصيبت ليندهوت باليأس. كانت تعلم أن عائلتها الفقيرة لا تستطيع فعل الكثير لإنقاذها. لذلك بدون موافقة برينان، أعلنت للمسلحين أن الاثنين يريدان اعتناق الإسلام.

كان الادعاء، فى البداية، مناورة لإنقاذ حياتهما. لم يدرسا كمؤمنين، ولكن كمحاميين نيابة يبحثان عن فصول وآيات للدفاع عن سلامتهما. كما قالت ليندهوت: «قرأت الكتاب على أمل استخدام دينهم للتحدث عن طريقة للخروج». لقد بحثت يائسة للعثور على كلمات تمنع آسريها من استباحتها.

 

 

 

مواجهة متواضعة

الرائع فى تلك المذكرات أن ليندهوت حولت القصة من سلسلة أحداث من الرعب إلى مواجهة متواضعة مع الروح البشرية، لتحمل معاناتها، قرأت كتالوج الهدايا الصغيرة التى كانت ممتنة لها: «عائلتى فى المنزل، الأكسجين فى رئتى»، حقيقة أن «جمال وضع طعامى على الأرض بدلًا من رميه نحوى. «لقد مارست التعاطف مع آسريها حتى بعد اغتصابها جماعيًا لها، وهى حادثة ترويها بضبط النفس المميز، مما جعلها أكثر فظاعة لما لم يذكر: «معًا، عبروا إلى مكان أكثر قتامة؛ حيث لا توجد كرامة يمكن استردادها لأى شخص. أصبحا مذنبين، واحد مثل الآخر. لم أنزف لساعات أو أيام بل لأسابيع بعد ذلك».

اللافت للنظر أكثر، فى الظلام الدامس، تجاوزت ليندهوت جسدها الجائع المحموم. قامت ببناء السلالم الأولى، ثم الغرف فى سكون الهواء فوقها. لقد بنت، كما يوحى العنوان، «منزلًا فى السماء»؛ حيث «صمتت الأصوات التى كانت تمزق رأسى عادةً للتعبير عن الخوف وأتمنى الموت، حتى لم يتبق سوى شخص واحد يتحدث». هذا الصوت يسأل «فى هذه اللحظة بالذات، هل أنت بخير؟» أجابت، «نعم، الآن ما زلت على ما يرام».

تبدو ابتسامتها مشرقة اليوم وتوحى بأنها وجدت «بيتها السماوى» لكنها عادت عمليًا من الجحيم!

بعد تمضية 15 شهرًا فى قبضة ميليشيا إرهابية متطرفة صومالية، بدت أماندا هزيلة وجائعة ومصابة بالأكزيما وكانت أسنانها مكسورة وتكثر علامات التعذيب والضرب والاغتصاب على جسمها، لكنها حافظت رغم ذلك على صلابتها بفضل الملاذ العقلى الذى لجأت إليه.

كتبت أماندا: «فى الداخل، فى بيتى السماوى، شعرتُ بالأمان والحماية. هناك كانت الأصوات المرعبة تصمت ولا يبقَى إلا صوت واحد، كان يقول لى: «هل ترين؟ ستخرجين من هذا الوضع يا أماندا؟. وحده جسدك يعانى لكنك لستِ مجرّد جسد. بقيّة كيانك بخير».

تعود أماندا منذ تحريرها قبل سبع سنوات إلى «بيتها السماوى» دومًا. كانت أول سنتين الأصعب عليها: «لم أستطع التكيّف مع حياتى. كان جسمى يذكّرنى بما أريد نسيانه. كنت أشعر أحياناً بأثر الأغلال ويؤلمنى كاحلاى وأجد صعوبة فى المشى...».