السبت 11 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الشاب الأمريكى الذى وقع فى غرام اللغة العربية منذ ٧ سنوات

«إستفان».. درس العربية ثم أصبح «أستاذًا» لها !

ريشة: خضر حسن
ريشة: خضر حسن

فى سبعة أعوام فقط تحول من طالب أمريكى قرر أن يدرس اللغة العربية فى جامعة كاليفورنيا - دافيس، وهو لا يعرف حتى إنها لغة تُكتب وتُقرأ من اليمين إلى اليسار – إلى طالب متخرج ودارس لماجيستير تدريس اللغة العربية. ليس فحسب، بل إلى قصّاص يكتب القصص القصيرة باللغة العربية، حيث إنه عاشق للأدب العربى وللثقافة العربية وفنونها.



إنه إستفان ماريو سانشيز، الذى أجريت معه هذا الحوار ولمدة ساعتين وهو يحكى ويسترسل باللغة العربية، حوارا ممتعا والأكثر إمتاعًا عندما أشاهد وأعايش هذا التطور عبر السنوات الأربع الماضية التى عرفت فيها اِستفان، وفى العام الأخير حيث كان يدرس بين الأردن وأمريكا لم نلتق، وعندما التقينا، كانت المفاجأة.

بالنسبة لى –اِستفان– نموذج إنسانى ملهم ليس للشباب فقط، بل لكل من يعرفه عن قرب.

هو حَكّاء من الدرجة الأولى، عقله متفتح وقلبه مفتوح وأفكاره منطلقة.

 

إستفان .. تأثر بالثقافة العربية بالمعايشة
إستفان .. تأثر بالثقافة العربية بالمعايشة

 

إستفان، شاب أمريكى من أصل مكسيكي، عمره 25 سنة، والده هاجر من المكسيك منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وتعرف على والدة إستفان فى مدينة صغيرة فى وسط كاليفورنيا، وتزوجا، والده يعمل بالزراعة وقد اكتسب مهارات كثيرة وتطور فى عمله حتى أصبح ناجحًا جدًا فى مجال الزراعة.

بدأ إستفان حديثه باللغة العربية، وهو يقول: من المفارقات أننى لا أتحدث الإسبانية جيداً، لكن أفهمها، فكل السكان فى مدينتى الصغيرة يتحدثون الإسبانية، لكننى من الجيل الثانى – حيث ولدت فى أمريكا – وتعلمت وتخرجت فى المدرسة الثانوية فى هذه المدينة الصغيرة «بارلين» فى فريزنو. كنت عازفًا لآلة الساكسفون بالفرقة الموسيقية بالمدرسة، وبعد ذلك حصلت على قبول للدراسة بجامعة كاليفورنيا بمدينة دافيس، لم يكن الأمر سهلاً، أن أخرج من بيتى لأول مرة وأبتعد عن أهلى وأنتقل إلى جامعة فى مدينة أخرى وحدى – خاصة أننى الابن الوحيد، فعائلتى تفضل أن أكون بينهم دائمًا، لكن كان عندى يقين أن هذه الخطوة ستفتح لى آفاقًا جديدة وعالمًا آخر أكثر اتساعًا ورحابة، فأنا دائمًا أريد الاكتشاف، واتخذت القرار وبدأت بالدراسات الثقافية الأمريكية الأفريقية. الحقيقة أن فترة الجامعة كانت ضاغطة وليست سهلة وهذا الضغط هو الذى جعلنى أريد أن أثبت لنفسى ولمن حولى أن النجاح والخروج إلى عالم أوسع يستحق العناء والغربة. 

فى ذلك الوقت كنت شغوفًا جدًا لأعرف أكثر عن الشرق الأوسط، خاصة لأننى كبرت أثناء حرب العراق والتدخل الأمريكى فى شئون الشرق الأوسط، كنت أريد أن أعرف حقيقة ما يجري، ولكن ليس من خلال الإعلام لأن دوره غالبًا ليس موضوعيًا وله مصالحه، ولا يمكن الاعتماد عليه فى وقت كانت الصورة رمادية وغير واضحة عن العرب، كان عقلى وأفكارى مفتوحة لهذا الشأن، لذلك بدأت دراسة اللغة العربية واخترتها منذ سبعة أعوام.

سألته: هل كنت تتوقع أنه سيأتى عليك يوم تتكلم وتفهم فيه العربية وتجرى حوارًا صحفيًا باللغة العربية؟

بصراحة - عندما بدأتُ دراسة اللغة العربية لم يكن عندى أى توقع، فقط كنت مستعدًا للتعلم بصدق، كانت عندى الرغبة والإصرار، كنت أجتهد، وكان أساتذتى يساعدوننى كثيرًا ولن أنسى فضلهم العظيم عليّ. 

علاقتى باللغة العربية لم تتوقف عند دراستها لمدة ثلاث سنوات فى جامعة كاليفورنيا، لأننى كنت أريد أن أمارس اللغة، أن أنخرط فى الواقع الثقافى للغة العربية، وهو أمر لا يمكن تحقيقه بشكل فعّال فى الدراسة الأكاديمية، لذلك بدأت البحث عن المنح الخاصة بدراسة اللغات النادرة، وبالفعل حصلت على أول منحة كاملة النفقات من وزارة الخارجية الأمريكية إلى سلطنة عمان عام 2014. كانت هذه أول تجربة سفر لى خارج الولايات المتحدة الأمريكية فى حياتي، بالإضافة إلى أنها دولة عربية، بهرتنى الطبيعة والأماكن الجميلة والجبال العالية هناك، وفاجأتنى الثقافة، فلم يكن معتادًا بالنسبة لى أن أرى النساء يرتدين العباءات وكلهن محجبات، شاهدت سلطنة عمان وناسها وأدركت مدى كرمهم وحسن ضيافتهم ومدى قبولهم للآخر.

 

خلال رحلته إلى سلطنة عمان
خلال رحلته إلى سلطنة عمان

 

 وكان هذا البرنامج الصيفى فرصة عظيمة للتعرف على بعض جوانب الثقافة العربية فى ثمانية أسابيع، ساعدنى فى هذا الاكتشاف شريكتى اللغوية «سعاد»، وهى نموذج رائع للشابة العربية، قوية ومثابرة وجعلتنى فى فهم وإعادة نظر فى مفهومى عن الشرق الأوسط، وأدركت أنه من الصعب، بل من المستحيل تعميم الحكم على الأفكار، فكل بلد له خصوصيته وطبيعة مشكلاته وثقافته، وأن الحكم بالتعميم على الشرق الأوسط أمر غير منطقي، وعند عودتى إلى أمريكا، كنت أقول لنفسى فى الطائرة «سأعود حتمًا إلى الشرق الأوسط».

ويواصل اِستفان حديثه قائلًاً: لأننى كنت أدرس عن الدراسات الأمريكية الأفريقية، وتخصصت فى دراسة الاستعمار فى أفريقيا والشرق الأوسط وتعلمت الكثير عن القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، توسع بحثى ليس فى الدراسات التاريخية فقط، ولكن الثقافية أيضًا، أستمع إلى مارسيل خليفة وأحاول أن أفهم الألحان، حتى وإن كانت الكلمات العربية صعبة علىّ وقتها ولكننى كنت أشعر أن طريقى للفهم يتعمق أكثر وأكثر، بدأت أبحث عن الحركات الشعبية فى الشرق الأوسط (الهيب هوب) وكيفية اختيار الشباب للفن المعارض للتعبير عن آرائهم والوقوف فى وجه الرقابة والظلم،  وكنت محظوظًًا بحصولى على أهم منحة من جامعة كاليفورنيا وأنا فى السنة الثالثة، وذهبت إلى الأردن عام 2015، وتطورت لغتى العربية بشكل أفضل مما دفعنى إلى قراءة الأدب العربى وكيف يكون الرمز والوصف فيها، قرأت لتوفيق الحكيم وسعد الله ونوس وزكريا تامر، وكلما قرأت شعرت أننى أريد أن أقرأ وأفهم وأتعلم أكثر.

بعد التخرج فى الجامعة، لم يكن لدى تصور واضح عما أريد أن أفعله، الشيء الوحيد الذى كان واضحًا وبقوة هو أننى أريد أن أواصل معرفتى بالشرق الأوسط، وبدراسة اللغة العربية، وكنت محظوظًا لمرة أخرى أن أحصل على منحة فولبرايت من وزارة الخارجية لتدريس اللغة الإنجليزية فى المغرب وبذلك سأتمكن من التواجد فى بلد عربى ووسط الثقافة العربية.

رحلتى إلى المغرب كانت نقطة تحول نوعية فى فهمى وتوثيق علاقتى بالشرق الأوسط، كانت التجربة صعبة فى التواصل، لأن اللهجة المغربية هى أربع لغات ممزوجة معًا (العربية والفرنسة والأمازيغية والإسبانية)، تعرفت على شريكتى اللغوية فايزة التى ساعدتنى كثيرًا فى التواصل وتعلمت منها الكثير عن ثقافة المجتمع خاصة فيما يتعلق بالصعوبات التى تواجه النساء والمشاكل الاجتماعية والفساد.

كنت فى مدينة مِكناس حيث إن معظم السكان من الأمازيغيين، وهناك اندماج رائع بين العرب والأمازيغيين، وكانت التجربة فريدة ومميزة بالنسبة لى مقارنة بكل تجارب السفر السابقة إلى الأردن وسلطنة عمان.

بحكم عملى كمدرس لغة إنجليزية فى كلية «مولاى إسماعيل»، اقتربت أكثر وأكثر من الشباب وأبهرتنى قدراتهم على تجاوز الكثير من التحديات، فأغلبهم من سكان الجبال لكنهم متواصلون مع العالم والفن والموسيقى وعندهم أفكار وإبداعات وأحلام يريدون التعبير عنها، كل هذه الطاقة مكبلة بنظام تعليمى واجتماعى لا يسمح بالاختلاف أو بالمعارضة وتبادل الأفكار، فالطالب لا يمكنه أن يجادل الأستاذ أو يعبر بآرائه المعارضة.

الحد الفارق فى هذه الرحلة هو أننى عملت هناك، واقتربت أكثر من المجتمع وسكنت واقتربت من الشباب، وهذا هو الفرق بين أن تزور بلدًا وأن تعيش فيه وتندمج فى تفاصيله، أستطيع أن أقول لكِ أننى عشت هناك بمنطق المستشرق الذى يتعلم من خلال المعايشة.

يعبر إستفان عن روعة المكان وسحره وجماله، وكذلك حزنه!!

فالحزن - كما يقول إستفان منبعث من استحقاق الناس هناك- خاصة الشباب - أن يكون لديهم حرية التعبير بقدر ما يملكون من أفكار عظيمة وأحلام كبيرة.

وكما يقول إستفان: كانت هذه هى مسئوليتى أن أتعرف وأعرف طلابى وأعرف عنهم أكثر، لم تكن المسألة بالنسبة لى مجرد التواجد فى بلد عربى أُدَرّس فيه اللغة الإنجليزية وأتعلم خلال وجودى هناك الكثير عن اللغة العربية، ولكن ما يبقى أن أعرف وأفهم الناس وأصل إليهم وإلى ثقافتهم التى لا نعرف عنها الكثير فى أمريكا.

يحكى إستفان عن واحد من طلابه اسمه حسن قائلًا: «لقد دعانى حسن إلى قريته التى تقع على «الأطلس المتوسط » وكما يسمونه «المغرب المنسى» لشدة الفقر المدقع هناك، وعندما ذهبت مع حسن عرفت معنى جديدًا عن الحياة، معنى أن يعيش الناس معاناة لا حدود لها، لكنهم يحملون من الروعة والكرم وسمات الشخصية والقوة والتقبل والكرامة وعزة النفس ما لا يمكن تصوره، هذا ما عايشته فى قرية حسن ذات البيوت الطينية البسيطة جدًا، الثرية بالحفاوة وحُسن الضيافة، أتذكر أن أخت حسن قالت لى: اِطلب ما شئت من الطعام وسنعده لك، وبالفعل، لم أذق طعامًا بالمذاق الرائع كالذى أكلته فى بيت حسن فى قريته فى «المغرب المنسى ».

هذه كانت قيمة رحلتى فى المغرب لمدة عام، هى زيارتى لأماكن ومدن كثيرة ومعرفة ناس نادرين وتعلم معانى إنسانية راقية وخاصة جدًًا ثم أضيف عليها تطويرى للغة العربية وكذلك تعلمى للهجة المغربية والأمازيغية.

كانت هذه الرحلة أحد نقاط التحول فى حياة اِستفان، ومن بعد عودته إلى أمريكا، بدأت رحلة أخرى، رحلة عمله مع اللاجئين ورحلة هذا الشاب الرائع من دارس للغة العربية إلى مدرس اللغة العربية. 

عاد إستفان من المغرب والتحق بعمل شديد الخصوصية والأهمية وهو مساعدة اللاجئين الأفغان والسوريين، وقد اكتسب خبرات إنسانية وثقافية أعمق.

ولم يكتف بهذا، حصل إستفان على منحة دراسة الماجستير فى أهم برامج تدريس اللغات فى جامعة ميدلبرى بكاليفورنيا وقد أتم رسالة الماجستير، حصل على إعجاب وتقدير أساتذته العرب المتخصصين فى اللغة العربية وقبل كتابة هذا الموضوع وإتمامه قد أبلغنى إستفان أنه قد تمت الموافقة على رسالة الدكتوراه التى سجلها فى نفس الجامعة للحصول على الدكتوراه فى تدريس اللغة العربية كلغة أجنبية لغير الناطقين بها.

إستفان الذى درس العربية منـذ حوالى 7 أعوام ـ هو الآن أستاذ مؤهل بجدارة لتدريس اللغة العربية.