الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

دراماتورجى المزيكا

اهتمام عبدالحليم بـ بليغ لفت نظر أم كلثوم
اهتمام عبدالحليم بـ بليغ لفت نظر أم كلثوم

سر بلبل ببساطة هو: الحبكة. الحبكة تضحية لازمة لخلق فن لا يخضع للقوانين البرجوازية. فى الأدب  والسياسة والفن لا بُد أن تتحول المدرسة الرومانسية إلى كلاسيكية إلى هايبرمودرن. إتقان الصنعة بين الجموع يحفظ لك  مكانتك وقوت يومك، أما الوثبة الجريئة وحدها فتضمن لك الخلود؛ وبليغ يعثر على حبكة درامية فى نشيد دينى فيخلع الشيخ النقشبندى عمامته اعترافًا بعبقريته ونسمع (مولاى،  إنى ببابك) إلى الأبد فيما يبدو.



 

عاش الصعلكة كما يجب أن تكون ولم يمنعه  شغفه بدراسة كل شيء عن فنه (كان من القلة التى أجادت كتابة النوتة والتوزيع بين الملحنين) أن يترك لشوارد قلبه العنان تلتقط  تحف الجمل الموسيقية من هنا ومن هناك لتفصيل كانافاه الغنوة بطيف عديد الدرجات كأنه مخرج سينمائى يعرف كيف يمنتج اللقطات ليمنحك التأثير الذى يريده بالضبط؛ هذا الشاب لا بُد أن ترحب به أم كلثوم، ولا يمكن أن يتركه العندليب الأريب فى حاله، حتى عبدالناصر يفتح الأبواب لتسجيل «عدى النهار) التى كتب السيناريو الموسيقى لها بليغ.  

 

النقشبندى تخلى عن عمامته بـ «مولاى»
النقشبندى تخلى عن عمامته بـ «مولاى»

 

تساهيل والرزق على الله

على أيام أم كلثوم كان الفنان يعانى الأرق بسبب واو عطف فى غير موضعها ويستقر باله بتبديل كلمة بأخرى أدق، وبالطبع كانت تميز الفارق بين جملة جميلة مكتوبة بفن، وجملة جميلة خارجة من القلب، هكذا تأمَّلت مقدمة «بعيد عنك) وارتابت فى «الحب كله) وفهمت فى (سيرة الحب) وتأكدت من (أنساك.. ده كلام)، هنا قالت له بصراحة: «عاملنى كوبرى للبنت اللى بتحبها؟ أنت بتشتغلنى يا بليغ؟!» ونحن نعرف أنها (وردة الجزائرية). ربما. فلا أحد يعرف على وجه اليقين مسارات الإلهام فى نفس الفنان. لعله حب قديم مكتوم وأنا شخصيًا أستبعد أن تكون وردة ملهمته بأى شكل من الأشكال. ستقرأ حكايته معها فى كل مكان، لكننا هنا سوف نحاول أن نتعلم منه لماذا نجح ولماذا اندثر الآخرون. «التجديد، التجريب، والفهم) الكلمات السحرية الثلاث، بدونها لا تتعب نفسك فى فن استهلاكى يضيع وقت الناس. تقرأ مقالات الكاتب الكبير فلان تجده يجتر ذكرياته الخاصة بتعبيرات مكررة، الملحن (س من الناس) يحشو ألبوم المطرب (ص من الناس) بعشر أغنيات فى أسبوعين كأنه يملأ قرطاس لب، الرواية الضخمة طباعتها فاخرة لكنها قنطار خشب، ثم يتأملون التاريخ ويقولون: آه لو أوتينا ظروف كمال الشيخ والحظ الذى خدم بليغ حمدى! «إننى أدرس تركيبات لحنية وإيقاعات وأساليب أداء موجودة فى وجداننا وتعيش معنا وأعتقد أن هذه الرؤية التى أراها انتبه إليها قبلى العبقرى سيد درويش عندما بدأ فى صياغة ألحانه الشعبية». هكذا هتف فى انفعال ردًا على واحد اتهمه بأنه ينقل ألحانه من الجمل الفلكلورية الناجحة. وبالطبع هذا كلام مرسل يحتاج إلى تدقيق من خبير فى الموسيقى، لكن الجمل المذكورة موجودة فى كل مكان لكن من دس رأسه فى غبار التراث وقام بدراسة طويلة للأدب الشعبى ليلتقط منه طرف خيط يغزل به إبداعه الخاص؟ فيما بعد فعلها الفنان حميد الشاعرى بعبقرية نادرة وبنفس نهج بليغ راجع توزيعه للحن «يا حلو يا غالى» لحنان من الفلكلور اليمنى الذى تسمعه كأنه لحن غربى،  ولحن «خد قلبى» من الفلكلور الليبى لكن النقد الفنى ظلم حميد بسبب الجمود والروتين الوظيفى لأمثال حلمى بكر وغيره من الذين أصابهم شلل فنى يحاولون تعويضه بإسهال نقدى كاره مشمئز من كل جديد.) قبل بليغ وضع عبدالوهاب وفريد الأطرش الموسيقى الشرقية فى مسار محبوب وثرى وحافل بالإمكانيات ثم جاءت قفزة محمد فوزى اللامعة ردد صداها تلحين منير مراد لعبدالحليم، وقبل هؤلاء كانت الموسيقى عبارة عن محفوظات يرددها التخت كخلفية لأى كلام يقوله المطرب فى الفرح أو فى بدايات السينما. أدرك بليغ أن التجديد بلغة مختلفة تماما عن التى اعتادها الناس سوف يكون له نفس مصير فوزى ومراد، ولم يكن مستعدًا للتجاهل والنسيان. يمكنك القول أن بليغ حمدى هو أكثر ملحن فهم طبيعة الذوق العربى (المصرى خاصة): إننا أهل كرم نبتسم فى وجه الجديد لكن سرعان ما نمل وجوده ونتشكك فى نواياه، فلا بد من زرعه فى أرضية التراث، هذا الزائر الوليد يجب أن يدخل الدار ويده فى يد (حد كبير)! يقول بليغ: «للأسف أغلب الملحنين لم يعرفوا كيفية قراءة التاريخ لأنهم فرضوا العجز على طموحاتهم وابتعدوا عن دراسة ما حولهم. عندك الرحبانية، كل ما قدموه من ألحان ناجحة هى فى الأصل من الألحان الشعبية فى لبنان وقد صيغت بشكل جديد فى النص المكتوب واللحن». 

 

 

«هو عبد الوهاب ورانا ورانا».. عندما تهكّمت أم كلثوم على «عبد الوهاب»
«هو عبد الوهاب ورانا ورانا».. عندما تهكّمت أم كلثوم على «عبد الوهاب»
 
 

الفنان (متجدد) بطبيعة الحال؛ فإذا عشت فى دور عاشق الروح، انتظر مكانك فى عالم النسيان من الآن. كل النجوم الكبار تمتعوا بعرق صياعة يحمى فنهم ويقوى مركزهم، وكان بليغ هو أكبر متمرد على القوالب ولولا مكر الكبار لما صار بينهم: أم كلثوم تطلب بلؤم لحنًا منعشًا من محمد فوزى يبدد بعض سماجة الألحان التى تسمعها كل يوم، فوزى يحاول التنصل من الطلب بأدب فيرمى الكرة بخبث فى ملعب بليغ (عندى ليكى ملحن شاب هايل، عمل «مكسوفة منك» و«حسادك علموك») طبعا هى تعرف هذه الأغانى لكنها تتظاهر بكبرياء أنها لن تجرب صعاليك مجهولين، هنا يخبرها فوزى أن عبدالحليم مهتم؛ فتنتبه!

تدعوه لبيتها فى سهرة ما، يبدو منبهرا بالجو لكنه يشرد فى ملكوته الخاص بعد قليل ولا يعنيه فى كثير أو قليل أنه فى حضرة الست التى بدا عليها خيبة الأمل بمعنى (هو ده اللى بيرمينى عليه فوزي) لكن الفنان الحقيقى يعرف المعدن الأصيل فورًا، وقتها تتراجع المناورات وتكون الغلبة للنغمة التى تدخل القلب. سمعنا حاجة. فيعزف لحنا طريفا كان يعده كمونولوج لتغنيه ثريا حلمى ويردد الكلمات بصوته: (حب إيه؟ حب إيه اللى إنت جاى تقول عليه؟) وهنا تنظر الست لعينى فوزى بما معناه (يابن اللعيبة!) ومن كتب لك هذا الكلام يا ابني؟ واحد صاحبى اسمه عبدالوهاب محمد! هو عبدالوهاب ورانا ورانا؟.. كلمات العتاب يلتقط من ثناياها طرافة مضحكة كأنها سخرية مرة يتأكد بعد نظرته إليها عندما تكون صالحة تماما ليصدح بها اللمبى ونسمعها فى الأفراح بعد أعوام وأعوام!

عداء بين وردة وعبدالحليم بعد ارتباطها بـ «بليغ»
عداء بين وردة وعبدالحليم بعد ارتباطها بـ «بليغ»

 

 

رحت أصطاد صادونى

لا يدخل بليغ قصر الست لتجديد الديكور بل يبنى لها قصرًا جديدًا حسب مفهومه، ويجب أن ندرك أنه لولاها لضاع فى شلة المشاغبين التى خرج بها من مدرسة التوفيقية: محمد عوض ويوسف عوف وصلاح عرام وكانت حياتهم على المقهى نهارًا وفى كار العوالم ليلا، لقد هذبته أم كلثوم وأجبرته على الالتزام بالبروفات والاستيقاظ مبكرًا، لا أعذار ولا تأخير والتهريج غير مسموح به. لولا حياة العبث التى عاشها موتسارت لسمعنا دُررا.  سوف تتجاهل سخافة المشهد الذى يصر عليه عبدالحليم حافظ كلما أصابه سهم غدر الحبيب (يتعذب فى كباريه وتلتف حوله الحسان لسبب ما وهو يشرب من الويسكى كؤوس) عندما تسمعه يغنى (تخونوه. وعمره ما خانكم. ولا اشتكى منكم) التى انتشلها عبدالحليم من ليلى مراد. أنت تقرأ الكلمات الآن مصحوبة بالنغم فى رأسك وذكرياتك، لولا هذا لظلت جمل عادية ثقيلة الظل كأى كلام دون تلحين، وكان من الممكن أن تبقى كذلك فوق شريط موسيقى تقليدى لكن تأمل كم وقفة درامية قدمها فى سطور قليلة يلخص بها شعور بطل الفيلم طيلة أحداث (الوسادة الخالية)، لعله تفوق على تأثير المخرج صلاح أبوسيف نفسه. لم يكن الأمر مجرد صدفة لأنه فعلها فيما بعد فى (فتى أحلامي) وفى أغنية من أبدع ما يكون (خسارة خسارة، فراقك يا جارة، عينيا بتبكى عليكى بمرارة) يعرف متى يكرر الكلمات ومتى يتوقف عند كلمة بعينها ومتى يدير النغمات فى الزمن لتتخلق السحابة اللحنية. ومن الغريب أن عبدالحليم لم يستخلص من بليغ أفضل ما لديه طول مدة صداقتهما إلا بفعل الغيرة عندما اكتشف الملحن العظيم كنز إبداعه الشعبى لمحمد رشدى خصوصا (عدوية) و(أدهم الشرقاوي)، وسوف يقع الفيلم الذى يحمل الاسم نفسه فى غياهب النسيان لضعف مستواه الفنى ويبقى منه فقط موال (أدهم الشرقاوي) بصوت عبدالحليم. وسوف تسمع (على حسب وداد قلبي) و(أنا كل ما أقول التوبة) و(سواح وماشى فى البلاد سواح، والخطوة بينى وبين حبيبى براح) ويكاد رشدى يجن من العندليب الذى تحداه فى منطقته فيدافع هذا الأخير عن نفسه بطريقته السهتانة الناعمة: «محمد رشدى فلاح، وأنا كمان فلاح.. وعندى بلهارسيا!» وانطلق ولحن ألحانا موسيقى حزينة ممتعة بأغانيه الشعبية الصادقة (وسع للنور، آه يا ليل يا قمر) (نص ساعة جواز) لشادية (طبطب الهوى علينا) وقنبلته (أبى فوق الشجرة)، الفيلم ينسب له بلا جدال، القصة والتمثيل تهريج فى تهريج، ولا تذكر منه شيئا غير (جانا الهوى جانا.. ورمانا الهوى رمانا). فى هذا التوقيت ظن محمد رشدى أنه فنان سينمائى لكنه فشل سريعا وراح يغنى فى بيروت، فلا تذكر من فيلمه (فرقة المرح) إلا ألحان بليغ (ع الرملة، طاير يا هوا)، ومن الملاحظ أن جميع مشاركاته فى أفلام المرحلة بقيت حية حتى يومنا هذا بينما انهارت الأفلام نفسها كما ترمى قشرة الليمون بعد اعتصار المفيد منها، فيلم (كانت أيام) تغنى فيه صباح (عاشقة وغلبانة، يانا يا نا)، فيلم (نار الشوق) الذى كانت تتصابى فيه صباح مع حسين فهمى وابنتها هويدا (أغنيتى دار يا دار، وعلى رمش عيونها لوديع الصافي) وسوف تلاحظ أيضا أن الحس المرح الممزوج بالشجن حمى هذه الكلمات ضد عوامل الزمن وسيجد فيها مطربو المهرجانات مادة ثرية رغم جدية ظروف إنتاجها قديما. وبعد الانتصار عرف الجميع أنه كان يمقت الفساد، ويكفى أغنيته لشادية (يا حبيبتى يا مصر) التى سوف تسمعها فى نصر أكتوبر 73.

الحب اللى كان

العندليب عاشق مغوار لا يُشق له الغبار، وعندما يعلن بليغ هيامه بوردة يصارحه الأول بما معناه (نام الليلة وبكرة هتبقى كويس)، يتحداه بليغ ويقول فى نزوة عاطفية عارمة إنه حب حياتى الوحيد! هذا الكلام لا يخيل على عبدالحليم الذى كان ينتقل بين الأزهار كفراشة حالمة ويريد أن يلجم حماسة بليغ حتى لا يتهور، لكنه فى ذروة العناد يتزوجها، ويتضح أن المشروع فاشل وأن الطائر الرشيق لا يحتمل القفص، فيلحن لها أجمل ألحانها ويلحن لها (أنا عندى بغبغان) فى مسلسلها (أوراق الورد)، وباختصار: من هى وردة إذا انتزعت من حياتها الفنية شغل بليغ حمدى (48 أغنية)؟ يحدث الطلاق ويهز عبدالحليم رأسه ساخرًا بما معناه (ما كان من الأول!) ولا تنسى هى هذه الإساءة بما فى نفسها ميل للعداء وتحرّض بعض الفتية على التهريج فى إحدى حفلات العندليب فينفعل فى موقف شهير.

حبيبته من تكون؟ لا يهم، ربما جارته فى شبرا، ربما رفيقة فى باريس التى يعشقها، ربما وردة أو غيرها. يوم الطلاق كان يهذى كالمحموم على أحد شواطئ الإمارات، يدندن بكلمات من تأليفه كالعادة (كان يكتب اسمه على الألبومات مكان مؤلف الكلمات باسم مستعار هو ابن النيل)، ولولا وجود محمد رشدى وسوزان عطية اللذين قاما بتسجيل ما غناه لضاعت الكلمات الجميلة التى غنتها فيما بعد ميادة الحناوى للأبد. ربما فشل الزواج لكثرة شروده ونزوات غضبه والسرحان المستمر. كان ينسى كل شيء، المواعيد والمفاتيح ومكان العود. استقبلته خادمته يوما بترحيب (والنبى وحشتنا، إحنا من غيرك ولا حاجة) فتركها على الباب ليدون هذه الكلمات ويكملها محمد حمزة وتغنيها شادية. وكان عقله يعمل بقوة ألف حصان لوضع تباديل وتوافيق لا نهائية لأنغام تتسارع فى رأسه يحاول توفيقها كل حسب الكلمات الأنسب والصوت الأصلح كمتصفح إنترنت عديد التفريعات: يجبر أم كلثوم شخصيا أن تستهل أغنيتها بصدمة (فات الميعاد) قبل بداية الحكاية لأنه يرى الأثر الدرامى هكذا أقوى، يجلس على الأرض بعناد رافضا إتمام لحن (عدى النهار) قبل أن يضيف الأبنودى شطرا يعتقد أنه يمعن المعنى، وحده يعرف لماذا فشلت عفاف راضى قبله؛ لم يحاول أحد استغلال المساحة الأوبرالية فى صوتها (ردوا السلام.. ردوا السلام وما تطلعوش فى العالى.. يا سلام)!

 

محمد رشدى.. سبب نهاية صداقة بليغ وعبد الحليم
محمد رشدى.. سبب نهاية صداقة بليغ وعبد الحليم

 

كنا ننتظر مشاهدة مسلسل (مداح القمر) الذى يحكى قصة حياته، إخراج مجدى أحمد على وتأليف محمد الرفاعى،  لكن وفاة ممدوح عبد العليم عطَّلت المشروع بالإضافة لأزمة مفهومة: كيف يمكن أن تشاهد عبدالحليم وشادية وعبدالناصر ومحمد رشدى وعفاف راضى ووردة بالوجوه المحفوظة، ولو كان الممثل شديد الروعة ولا يشبه الدور المطلوب فى الملامح، فكيف تقتنع! بل من سيقوم بدور بليغ أصلا ويلمسك شكلا ومضمونا؟