السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

جلطة فى القلب

ريشة: يمنى منصور
ريشة: يمنى منصور

فى منتصف ليل شتوى بارد، سمعتُ جلبة مجىء حالة جديدة، وانقلب الاستقبال بإحضار الإسعاف رجلًا لديه العلامات التقليدية لجلطة القلب؛ الألم الشديد الذى يعتصر الصدر، والصفرة، والتعرق.



سريعًا وُضِع الرجل على مونيتور متابعة العلامات الحيوية، وأُعطِى المسكن لتهدئة الألم الذى قد يؤدى بذاته للوفاة من الصدمة العصبية، أُخِذت عينة دم للتحليل، وتأكد التشخيص. تقاطرت بحساب نقاط محلول عقار إذابة الجلطة، انتظمت أصوات المونيتور، وأمكن إخلاء الاستقبال من الناس الذين حضروا فى سيارتى نصف نقل من بلدهم الريفى، خلف الرجل الذى بدا كبيرهم المحبوب.

كان أنيقًا، هادئًا، عميق الصوت، رأسه متوج بشعر أبيض كثيف. شكرنى، وشكر الممرضة التى كانت تضخ حقنة فى وريده، وبينما أستكمل تدوين ملاحظات تذكرة الدخول التى سينتقل بها للعناية المركزة قال إنه يحمد الله على محبة الناس، وعلى أن فى الدنيا طبًا ودواء يخفف الألم، وقال إنه لم يمرض قط، مع ذلك فقد تجهز من زمن للرحيل.

طلبت منه ألا يرهق نفسه بالكلام، وانتهى محلول عقار إذابة الجلطة. أسبل عينه، وراح يتنفس بهدوء، وفجأة توقف القلب.

طاقم الاستقبال مدرب، لكلٍ منا دوره، كنت فى تحفز لاستعمال جهاز الصدمات الكهربية. توقف القلب مضاعفة متوقعة للجلطة، ونتائج الصدمة الكهربية جيدة معها. استجاب القلب سريعًا وعاد للعمل، غاب وعى الرجل كالنائم بضع ساعات ثم أفاق على وش الفجر، طلب ضبط السرير؛ ليعتدل نصف جالس، وبدا فى كامل الانتباه، سأل عما جرى فأخبرته بتطلف، ابتسم فى مودة، وتحول بنظره للسقف، وبدأ ينشد مقطوعات من شعر الغزل.

لا أدرى كيف أصف جودة هذا الشعر، ندمى شديد على أنى لم أسجله. ألقاه بهدوء مؤثر، وفى عينيه لمعان كدموع بعيدة الغور. صمت برهة يلتقط أنفاسه، قلت: جميل جدًا، أتمنى لو أسمع المزيد، لكنك بحاجة للراحة. قال: لم أشعر بالراحة فى حياتى مثل الآن.

امتلأ وجهه بالمسرة، وفكرت لعله مفعول المسكن. قال: لم تسألنى لمن ألّفت هذا الشعر. قلت: لا تتكلم، ينبغى أن تستريح. قال: راحتى الآن أن أتكلم، هذا الشعر ألفته أول شبابى فى بنت كنت أحبها، كانت من عائلة كبيرة كعائلتنا، وبيننا قرابة، ولسبب يطول شرحه، رفضت العائلتان زواجنا.

قلت: هذه قصة روميو وچوليت. 

لوح بيده بطريقة واهنة، غير مفهومة، وأكمل: كنا قادرين على تحدى كل شىء لولا زعم بأننا أخوان فى الرضاعة، وفتوى بالحرمانية من شيخ الجامع الذى اعترف لى بعد ذلك بسنين طويلة أنه باع فتواه بدكر بط وعشرين جنيهًا. هل تصدق يا دكتور أنى لم أردد هذا الشعر من 40 سنة؟! لم أتصور أنى ما زلت أحفظه.

واستأنف إلقاء شعره على خلفية من أصوات المونيتور وبواكير زقزقات العصافير، بدا مسرورًا بإنصات الممرضات، ثم توقف القلب فجأة مرة أخرى، وفشلت محاولة إعادته للعمل والحياة.