حكايات من باب الشعرية

ترويها: بربارة يوسف
لكل باب من أبواب القاهرة القديمة قصة، ولكل قصة تفاصيل.
باب الشعرية هو أحد أهم الأبواب فى القاهرة التاريخية، كان دافع إنشائه تحصين القاهرة من الخارج؛ حيث إن القاهرة بموقعها وأهميتها كانت دائمًا موطن الخطر الخارجى فكانت للأبواب ضرورة استراتيجية.
باب الشعرية يقع فى الناحية الغربية للقاهرة، وكان أحد بابين فى جزء من السور الشمالى الذى شيَّده بهاء الدين قراقوش وزير السلطان صلاح الدين الأيوبى، وشيَّد باب الشعرية بين باب البحر والخليج المصرى، وسُمى أيضًا بباب القنطرة، لأن الباب المطل عليه من سور القاهرة الفاطمية، كان أمام قنطرة على الخليج المصري.

بقى باب الشعرية حتى سن 1884 ولا تزال المنطقة حول الباب تُسمى بباب الشعرية كما عرف به ميدان كبير.
وترجع تسمية الباب بهذا الاسم لسببين؛ أولهما نسبة إلى شيخ جليل هو الشيخ الشعرانى.. كان إمامًا عابدًا فقيهًا محدثًا متصوفًا عاش سنة 1493م، آخر حكم المماليك.. وقبل الغزو العثمانى بقليل.. وولد فى قلقشندة جنوب طوخ وبعد ولادته بأربعين يومًا انتقلت به والدته إلى مكان الباب«ساقية أبوشعرة» اللى منها جاءت التسمية.
انتقل الشيخ الشعرانى إلى القاهرة فى سن صغيرة وتعلم على يد كبار فقهائها علم الحديث وقد اشتُهر بتمسكه بالسنة، وقطع علاقته بالدنيا وكان يتصل بالصوم عدة أيام ويفطر على قليل من الخبز.
كتب حوالى سبعين مؤلفًا منها «مختصر الفتوحات، سنن البيهقى، الميزان.. اختتم حياته بمشارق الأنوار القدسية فى العهود المحُمدية ولوائح الخزلان على من لم يعلم القرآن».
وعرف عن الشيخ الشعرانى افتتاح الذكر بعد صلاة العشاء ولا يختمه إلا عند الفجر، وتُوفى ودفن فى المسجد المقام باسمه وموجود للآن، وكعادة المصريين حبهم لأولياء الله الصالحين وتسمية الأحياء بأسمائهم، وكان لباب الشعرية نصيب أيضًا بعد أن كان يسمى ذلك الباب باب القنطرة أو باب العدوى.

التفسير الثانى لإطلاق اسم «باب الشعرية» يرجع إلى ما يقال لهم بنو شعرية، الذين كتب عنهم المقريرى أنهم جاءوا إلى مصر مع جوهر الصقلى ضمن الجيش الفاطمى من المغرب واستقروا عند المنطقة التى بها الباب عرف بهم.
وظل باب الشعرية قائمًا مثل الكثير من الأبواب القديمة، حتى تم هدم جزء منه سنة 1884 بعد تصدع فيه فيما استمر اسم المنطقة متداولاً بين الناس حى باسم باب الشعرية وميدان باب الشعرية.
وقع حى باب الشعرية داخل أسوار القاهرة الفاطمية قبل أن يمتد الحى إلى خارج الأسوار بعد فترة، وكان الخليج المصرى جزءًا من نهر النيل يقطع قسم باب الشعرية من الجنوب للشمال قاسمًا إياه إلى المنطقة الشرقية «تجاور قسم الجمالية، ويحدها شارع الحسينية من الشرق»، والمنطقة الغربية المتاخمة لمنطقتى الموسكى والفجالة.
سكن باب الشعرية طوائف من اليونانيين، والإيطاليين، والأرمن، وطائفة كبيرة من اليهود عملت بتجارة الذهب، وكان للطوائف المختلفة دور كبير فى رواج التجارة والحركة والتعمير فى الحى القديم.. وسكن كل هؤلاء على ضفاف الخليج المصرى.
والخليج المصرى هو أهم معالم باب الشعرية قديمًا، وهو ما جعل المنطقة واجهة لسكنى المماليك ووجهاء البلد.
فالخليج الذى كان يشق باب الشعرية كان عبارة عن قناة ممتدة من نهر النيل قادمة من حى مصر القديمة الآن.
وعند الفتح الإسلامي -641 ميلادية- كانت القناة مردومة، فقام عمرو بن العاص بإعادة حفرها (644 ميلادية) وعُرفت باسم «خليج أمير المؤمنين» وفى القرن «التاسع الميلادي» تحول إلى اسم «الخليج المصري».
ربط الخليج نهر النيل من الفسطاط «فم الخليج»، ليتجه نحو الشمال الشرقى مارًا بموقع ميدان السيدة زينب الحالى ليصل إلى باب الخلق، ثم باب الشعرية، ثم يجرى بين المزارع خارج القاهرة إلى الزاوية الحمراء والأميرية، إلى أن يصب فى بحيرة التمساح والبحيرات المرة، التى كانت مفتوحة على البحر الأحمر.
وفى زمن المماليك، أقيمت قنطرة على الخليج المصرى عند موقع ميدان باب الشعرية الحالى، كان يمكن الوصول منها بالمراكب إلى ميناء المقسى «ناحية باب الحديد أو محطة رمسيس حاليًا» حيث يسمى فى ذلك الوقت بـ«باب القنطرة».

وكانت هذه القنطرة – فى أول عهدها – تسمح بمرور المراكب من تحتها، ثم أصبحت فى عهد المقريزى قريبة من مستوى الخليج بحيث لم تعد تسمح بمرور المراكب.
وعند مستوى باب الفتوح أقيمت قنطرة أخرى عرفت بـ«قنطرة باب الشعرية»، كانت تسمح بالمرور إلى ما كان يسمى بـ«أرض الطبالة» (موقع حى العباسية الحالي). وعرّفها الفرنسيون على خريطة الحملة الفرنسية بـ«قناطر الخروبى».
وسمحت القناطر على الخليج لحى باب الشعرية بالخروج من حدود أسوار القاهرة المعزية، وامتداد عمرانه شمالًا وغربًا. وآخر من جدد حفر قناة الخليج المصرى هو الإمبراطور الرومانى هادريانوس.
كانت منطقة باب الشعرية سكن الصفوة، فخلال العهد العثمانى، وحتى قدوم الحملة الفرنسية، كان أمراء المماليك والوجهاء يقطنون بيوتًا عظيمة، هناك تطل على الخليج المصرى وبركة الرطلى، حيث أقاموا المراقص والملاهى، وأقاموا جلسات للسمر واللهو والتدخين.
حى باب الشعرية كان واحدًا من أضخم الأحياء وبمررو الزمن تحول الحى إلى مكان لاستضافة أصحاب المهن والتجار وملتقى لتبادل السلع والمشتريات، وانقسم إلى جزء كبير للماليك والأعيان وجزء للعامة فى الأحواش والوكالات التى تُقفل عليها أبواب الحارات ليلاً.
وظلت عدة عائلات كبرى تقيم فى باب الشعرية حتى أوائل القرن العشرين، أشهرها عائلات الشيخ العروسى، والشيخ القويسنى، والحريرى، والشوبرى. وفيما عدا البيوت الكبيرة الواقعة على شاطئ الخليج والبرك، كان القسم هناك مسكنًا للحرفيين. ونظرًا لوقوع جزء كبير من باب الشعرية خارج أسوار القاهرة، فقد تمركزت هناك المهن المضرة بالبيئة التى لم يكن مسموحًا بممارستها داخل أسوار المدينة: مثل المخابز والمسابك، ومحال الجزارة والمذابح، بالإضافة إلى الحرف التى تحتاج لمساحات واسعة مثل تشوين الحبوب والفاكهة.
وظلت عدة عائلات كبيرة تقيم فى باب الشعرية حتى أوائل القرن العشرين.
كان باب الشعرية منطقة انصهر فيها أناس من أجناس مختلفة.
وعلى الرغم من صغر مساحة المنطقة؛ فإنها كانت أكثر مناطق القاهرة القديمة حركة وبدت كخلية النحل تخدم الأقسام المجاورة.
بعد أزمنة عاد لطائفة الجزارين وجود قوى فى المنطقة، نظرًا لمجزر بباب الشعرية خارج أسوار القاهرة المعزية. وكان يعقد فى الحسينية سوق الجمعة لبيع المواشى، كما كان سوق مذبح الحسينية ينصب عصر كل يوم حتى الغروب، ويباع فيه البقر والجاموس والغنم والجمال.
وتفرعت طائفة الطباخين عن طائفة الجزارين، عددهم يقدر بثلاثة آلاف طباخ، أسسوا فى النصف الأول من القرن العشرين، مقاهي خاصة بهم مثل قهوة «سنيور» وقهوة مقابلة لها.
ومن الطباخين تفرعت طائفة الحلوانية وظهرت محال لوازم الحلوانية. احترف الحلوانية صناعة عرائس بالسكر للبنات وأحصنة بالسكر للأولاد فيما عرف بعد ذلك بعروسة وحصان المولد النبوى، وما زال حلوانية باب الشعرية يمارسون نشاطهم حتى يومنا هذا.
ومن أشهر الطوائف طائفة الحمامين: التى مارست نشاطها فى المنطقة حيث بباب الشعرية ثلاث حمامات عمومية هى حمامات «باب البحر»، و«حمام الخراطين»، و«حمام الطنبلي» وكان للحمامات أثر إيجابى على الحى؛ حيث كانت المقاهي والمسامط تورد طلبات زبائن الحمام طوال ساعات الليل والنهار.

وكانت مواقد الحمامات تستخدم كذلك فى تسوية قِدَر الفول المدمس، لتوزيعها على المحلات فى مختلف أنحاء القاهرة.
وبالإضافة إلى الانتعاش التجارى، كانت الحمامات تضمن نظافة الأجسام وتخلصها من الروماتيزم. وكان يتم حرق مخلفات الحى من القمامة فى مواقد الحمامات بينما يتم تسخين المياه، وهو ما كان يضمن نظافة شوارع الحى. وكانت مخلفات الحرق تستخدم فى صناعة مونة البناء (الأرسوميل).
وحتى يومنا هذا، ما زال حمام باب البحر يعمل، غير أنه فقد الصبغة التاريخية التى كان يتمتع بها، بعد أن أصبح تسخين المياه يتم بالبوتجاز، وظهر به القيشانى والبلاستيك. واختفى حمام الخراطين بعد أن شيد مكانه سوق الخضار . أما حمام الطنبلى، فقد تم تسليمه إلى هيئة الآثار.
وانتعش فى المنطقة طائفة أصحاب المسامط وصانعو المُمبار: وكان سكان الحى والعاملون به يقبلون على تلك المحال نظرًا لانخفاض أسعارها. وكانت المسامط تعمل الأربع وعشرين ساعة لخدمة رواد الحمامات والصناع.
وسكن باب الشعرية صناع المقشات، وصناع الأحذية، وتجار السمك، وتجار الخضروات والفاكهة، و«النجارين» وخراطو الخشب.
أما العوالم فأقاموا فى حارة العوالم وحارة البير الحلوة. وكن يخرجن للأفراح على العربة الكارو وهن يرقصن ويزغردن ويغنين من منازلهن حتى منزل الفرح، إضافة إلى «العربجية» أو ملاك العربات الكارو الذين أقاموا بمنطقة على أطراف حى باب الشعرية، كما عرفت المنطقة كثيرًا من الفتوات.
وأقام الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب مع أسرته فى حى باب الشعرية وولديه عام 1893، ورياض القصبجى المشهور بالشاويش عطية المولود عام 1903، والصحفى الساخر يعقوب صنوع، والفنان شفيق جلال، والفنانة مها صبرى، والكوميديان محمود شكوكو.
وعاش نجيب الريحانى بداية حياته بمنطقة باب الشعرية، وكتب فى مذكراته حكايته مع إحدى ساكنات الحى التى ظهرت مع الريحانى فى 4 مشاهد فقط من أحد أفلامه وهى أمينة ذهنى.
قصة أمينة تبدأ وتنتهى عند نجيب الريحانى منذ كانت جارة له وكان يحب يمر عليها ويطمئن عليها من آن لآخر، فقد كانت أمينة تعمل فى بيع الخضار، حاول الريحانى أكثر من مرة منحها مبالغ من المال نظرًا لكبر سنها وإشفاقًا عليها لكنها كانت دائمة الرفض، إلى أن واتت الريحانى فكرة يساعدها بها وأسند لها دورًا فى بعض المشاهد فى فيلم «سلامة فى خير».
بدأ التصوير ومثلت لست أمينة المشاهد لكنها ظهرت تنظر كثيرًا للكاميرا، وتدخن، وشكرها نجيب الريحانى ومنحها خمسين جنيهًا، فطارت من الفرحة وأوقف لها تاكسى، ولما رجع الريحانى بيته ونام وصحى فجأة على صوت خبط على الباب من سيدة كانت بتقيم مع أمينة تؤكد أنها لم تعد منذ أمس.
واختفت أمينة وأخذ الريحانى حفيدتها وتولى تربيتها وعلمها ولما كبرت تزوجت وسافرت إلى ألمانيا، وخلفت 3 أبناء وماتت خارج مصر.
ينقسم باب الشعرية حاليًا إلى ثلاثة مناطق، والجزء الشرقى أقرب لقسم الجمالية، خاصة بعد ردم الخليج المصرى وشق «شارع الجيش» وتوسيع شارع بورسعيد.
أما الجزء الشمالى الشرقي فيقترب من أحياء الظاهر والعباسية، حيث المدارس الإرسالية، والمستشفيات، والمستوصفات، والسينمات.
وبينما اختفت برك «الرطلي» و«الطوابة» و«الحاجب»، فقد بقيت الأسماء على الشوارع. أما قلب باب الشعرية فيمتد على شكل مثلث يحده ميدان باب الشعرية وقسما الأزبكية والموسكى، اللذين صبغاه بطابعهما نظرًا لتداخل شوارعهما معه، ويبقى الحى الشعبى حاليًا شاهدًا على عظمة التاريخ.