الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الإتقان والتدين و«كل شىء كان»

الإتقان والتدين و«كل شىء كان»

باتت تراودنى شكوك بوجود علاقة ما بين جيناتنا ومبدأ «كلشنكان»، حيث «اللكلكة» فى الإنجاز والإهمال فى الإتمام، لكن لعنة الله على التشكيك. ولعنة أكبر على ما جرى لنا وجعلنا نشك فى أنفسنا وفى قدراتنا وفى أصولنا وحضارتنا الضاربة أصولها فى التاريخ والجغرافيا. ولعنة أكبر وأكبر على العوامل والأسباب التى حولت بعضنا من سلوكيات شعب بنى الأهرامات والمعابد ورسم أروع الرسوم ونقش أجمل النقوش على الجدران إلى أشخاص قابلة لمبدأ «كلشنكان».



«كلشنكان» هذه الكلمة التى يُعتقد أن أصلها «كل شىء كان» تعنى الإنجاز دون إتقان أو تركيز، لكنها أيضاً تعنى افتقاد الشغف والإيمان بشىء ما يجعل الشخص ينجزه وخلاص.

خذ عندك مثلاً عزيزى القارئ النقاش الذى يقوم بعملية طلاء جدران بيتك «كلشنكان» وتجدها تتشقق وتتقشر رغم أنك دفعت فيها دم قلبك بأسابيع وربما أيام. وخذ عندك الملابس التى تشتريها بالشىء الفلانى ثم تجد الخياطة فكت والزراير وقعت بعد مرة أو مرتين من الاستخدام. وخذ عندك الشارع الذى يتم رصفه ثم يهبط أو يتشقق بعد انتهاء عملية الرصف بقليل. وخذ عندك السباك الذى يصلح السيفون ليضرب بعد ساعات ويغير جلدة الحنفية لتبلى بعد أيام ويسد ثقب الماسورة ليعاود الاتساع قبل أن يعود إلى محله. وخذ عندك اللافتة الإعلانية الضخمة التى يتم تثبيتها ثم تهوى على رءوس المارة، والزيجة التى تعقد ثم تنتهى بالطلاق بعد أشهر، والبحث الذى يكتب بغرض النشر ثم يُرفض لأنه لا يرقى إلى قواعد البحث والنشر المحترمة، وافتتاح مقهى ثم إغلاقه بعد أشهر لأن صاحب المشروع لم يفكر فى دراسة جدوى ولو بدائية للتأكد من إمكانات واحتمالات نجاح الفكرة، والمدرس الذى يشرح الدرس «كلشنكان» فى الفصل لأن الدرس الخصوصى أولى، والقائمة طويلة طول السنوات والعقود التى جعلتنا نعتنق عقيدة «كلشنكان».

وما يدعو إلى القهر حقاً هو أننا مازلنا نملك مقاليد العمل والإنجاز والإتقان، إلا أن أتربة وصدأ وعطب اللكلكة ضربت بعضنا فى مقتل. والعجيب والغريب أن هذا الضرب لا يزعجنا. والأعجب هذه الهوة السحيقة والفجوة العميقة بين ما نبدو عليه من تدين – نعم تدين- وما نعيشه حقاً من لكلكة فى أغلب ما ننجزه من أعمال.

ما نعيشه هو العصر الذهبى للازدواجية. جعلونا نعتقد أن التدين شكلاً وقولاً يكفى لضمان الآخرة واجتياز الدنيا. وكانت النتيجة أن أجيالاً بأكملها خرجت إلى النور وهى تعتقد أن التعليم «كلشنكان» هو التعليم، وأن العمل «كلشنكان» هو العمل، وأن الترميم «كلشنكان» هو الترميم، وأن الترفيه «كلشنكان» هو الترفيه. خرجت أجيال – ومنها من أصبح آباء وأمهات- يعيشون عيشة «كلشنكان» بتفاصيلها، ويورثونها لأبنائهم لتكتمل بناء منظومة «كلشنكان» على أنقاض الإنجاز بمهارة، ويعتقدون أنهم ملتزمون وعلى الدين باقون، لكنهم فى حقيقة الأمر على ما تبقى من إتقان قاضون.