الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

واشنطـن - بكيـن.. عـودة الحـرب البــاردة الحلقـــــة الخـامســـــــــة

مصنع العالم.. كيف سيطر الصاروخ الصينــى على تجارة «العم سام»؟

 ألعاب.. ملابس.. أجهزة منزلية.. موبايلات.. أحذية.. منتجات جلدية.. سيارات، منتجات تلاحقك فى كل مكان،حاملة شعار «صنع فى الصين»، مواطنون يبيعون كل شيء، ويطرقون كل الأبواب، انتشار رهيب فى كل دول العالم،لتصبح بكين عن جدارة دولة السلع الأولى.



الصين بالفعل، هى مصنع أو ورشة تصنيع العالم، تنتج كل العلامات التجارية، المزيف والحقيقى منها، لدرجة جعلتها تسيطر على شرايين التجارة العالمية، وفى كورونا، شاهدنا بأعيننا الأثر الذى تركه غياب سلاسل التوريد الخاصة بها.

خلال العشرين عاماً الماضية، أقلع اقتصاد بكين مثل سفينة الصواريخ، كما وصفه الرئيس الأمريكى السابق ترامب، وهذه الانطلاقة للصاروخ الصينى، كانت بعيدة المدى، لا يمكن السيطرة عليها، وتزداد سرعتها يوما تلو الآخر.

 والمفاجأة أن الصعود الصينى ساهمت فيه الولايات المتحدة، وساعدت عليه، لتكون النتيجة فى النهاية، حرباً على تجارتها واقتصادها فى عقر دارها، فالهدف منذ البداية هو تبنى استراتيجية، لتصبح بكين سوقا موجهة للعالم.

 حيث تمتلك الصين أكبر قوة عمل فى العالم،بأجور شديدة التدنى، معتادة على العمل الشاق، وتحترم السلطة، وقليلة الشكوى، كما تتمتع بموارد طبيعية غنية وشديدة الوفرة، وتحرص على أن تكون سياستها الاقتصادية متنوعة، فلا هى خاضعة لأوامر عليا بالكامل، ولا هى سوق حرة، بل تجمع بين السوق والاشتراكية معا. 

 بالإضافة إلى أنها تتبنى مبادرة الحزام والطريق، والتى تهدف من خلالها إلى التوسع فى التصدير عن طريق الحزام (الحدود البرية)، والطريق (الحدود البحرية)، وخلق تحالفات جديدة على مستوى العالم.

 وفى عهد الرئيس الأمريكى نيكسون عام 1973، أصبح هناك علاقات تجارية بين بكين وواشنطن، بعد انفتاح الاقتصاد الصينى عام 1978، وبداية موجة الاستثمار والتجارة بين الدولتين.  

 لتشهد الصين افتتاحات لمصانع الشركات الأمريكية العملاقة، مثل  كوكاكولا وموتورولا وجنرال موتورز، لأن هذه التماسيح كانت تبحث عن مصالحها فى آسيا، فهى غنية بالاستثمارات.  

فى الوقت الذى كانت فيه أمريكا، ترغب فى تحويل بكين إلى دولة رأسمالية، لتحصل شركاتها على نصيب من السوق الاستهلاكية الصينية الضخمة.  

 وبعد أقل من أسبوع على هجمات 11 سبتمبر فى الولايات المتحدة، وتحديدا يوم 17 سبتمبر 2001، انضمت الصين لمنظمة التجارة العالمية، لتبدأ مرحلة السيطرة  الحقيقية لصاروخ بكين على اقتصاد العم سام.  

 فالعلاقة بين الصادرات والواردات بين الدولتين، لم تكن أبدا فى صالح أمريكا، حيث يتفوق حجم الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة،على حجم السلع التى تصدرها الولايات المتحدة إلى الصين.  

لتصبح بكين هى المشكلة التجارية الأولى التى تواجه واشنطن،فمن المعروف أن أمريكا هى أكبر بلد مستورد فى العالم، بقيمة 2.5 تريليون دولار من السلع، فى عام 2018، وأنها تعتمد على الصين فى توفير احتياجاتها.  

 ويصل العجز التجارى للسلع الأمريكية إلى 679 مليار دولار فى 2020، يذهب نصفه إلى الصين، وبدخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية، أصبحت المنافسة مع بكين غير عادلة، للحد الذى جعل المسئولين فى الإدارة الأمريكية، يعتبرونها أحد الأخطاء التى قامت بها الولايات المتحدة، فى تاريخها.

 فالحكومة الصينية ألحت كثيرا، ودخلت فى مفاوضات استمرت 15 عاما، للحصول على هذه العضوية، لكن أمريكا ظلت متمسكة بموقفها ورافضة،لأنها كانت ترى أن بكين لم تحرر تجارتها مع العالم، ثم غيرت موقفها وسمحت بانضمامها، وهو ما كان فيما بعد كارتاً أحمر للاقتصاد الأمريكى.  

 حسب وزير التجارة الأمريكى السابق ويلبر روس، تخالف بكين القواعد المتبعة فى المنظمة، فى ظل عدم وجود آليات إنفاذ حقيقية لها، كما أنها تستفيد من التسهيلات التى قدمتها أمريكا، للمساعدة فى التصدير لسوقها، والتى لا تزال سارية حتى اليوم.  

 حرفيا كانت هذه العضوية، بمثابة الفرخة التى باضت ذهبا للصين، ويقول روس: «ما عليك إذن سوى أن تتأمل فى أن الناتج المحلى الإجمالى الصينى نما ببطء قبل انضمام الصين إلى منظمة التجارة».  

ويضيف: «لكن فكر فيما حدث بعد عام 2001.. ارتفع ناتجها المحلى الإجمالى من 1.3 تريليون دولار إلى 14.3 تريليون دولار فى 2020.. التغيير الوحيد منذ 2001 هو عضويتها فى منظمة التجارة، وليس ميزتها التنافسية المتأصلة».  

 حيث تصنف الصين فى المنظمة كدولة نامية، مما يمنحها مزايا مثل: المعاملة التفضيلية، وزمن إضافى لتنفيذ التزاماتها،مع زيادة فرص فتح الأسواق أمام صادراتها، بجانب المساعدات الفنية والمشورات القانونية فى النزاعات التجارية.  

ليس هذا وحسب، فبالإضافة إلى هذه المميزات، فطنت بكين مبكرا للطموح الأمريكى، وواجهته بحزم، وحولته إلى صالحها بمنتهى الذكاء، حيث قامت بتقليد وتزوير العلامات التجارية للشركات الأمريكية، التى استثمرت هناك، للتمتع بميزة انخفاض أجور العمالة.  

 وبالتالى، دفعت هذه الشركات ثمنا باهظا نظير ذلك، فقد أجبرتهم الصين على نقل حقوق ملكيتهم الفكرية، وحتى الشركات التى لم تنتقل، حاول الصينيون سرقة وقرصنة أسرارها التجارية.  

 وتقدر الحكومة الأمريكية، الحجم الإجمالى للملكية الفكرية التى سرقتها الصين، خلال السنوات الأربع بين 2013 و2017،بـ1.2 تريليون دولار.  

 والأدهى أن الحكومة الصينية عملت على وضع قيود على عمل الشركات الأجنبية هناك، مما جعل الولايات المتحدة تجد صعوبة فى التغلغل فى السوق الصينية، مع ارتفاع الرسوم الجمركية.  

لكن فى المقابل، أغرقت الصين الأسواق الأمريكية  بمنتجاتها الرخيصة، وهو ما أدى إلى إغلاق كثير من المصانع الأمريكية، وخسارة عديد من الوظائف، فيما عرف بالصدمة الصينية.  

 وهو ما دفع الولايات المتحدة لاتخاذ خطوات دفاعية عن نفسها، من خلال 225 إجراء تجارى ضد المصدرين الصينيين، وتحول النزاع بين الدولتين إلى أعمق من مجرد خلاف تجارياً، بل حرب بقاء، وحماية للمصالح والأمن القومى الأمريكى.

 ولذا اتخذت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إجراءات، لحماية منتجاتها المحلية وأسرار شركاتها التجارية، وكان أولها فى عهد الرئيس الأسبق أوباما، عام 2009، حين تم فرض رسوم جمركية بنسبة 35 % على إطارات السيارات الصينية،نتيجة لارتفاع الواردات.  

 وردت الصين بالمثل، بفرض رسوم على الصادرات الأمريكية، كلفت الصناعة مليار دولار، بسبب تراجع المبيعات، وفى عام 2018، أشعل الرئيس ترامب هذه الإجراءات، حتى بلغت قيمة الرسوم الجمركية المتبادلة بين الطرفين، والتى تتراوح من 10 إلى 25 %، حوالى 360 مليار دولار.  

13 جولة من المفاوضات لتسوية هذه النزاعات،لكن باءت جميعها بالفشل،حتى يناير 2020، بتوقيع اتفاق المرحلة الأولى التجارى، الذى أبقى بعض الرسوم على الصين، حتى تشترى سلعاً أمريكية إضافية بقيمة 200 مليار دولار خلال 2020 و2021، مقابل إلغاء الولايات المتحدة للرسوم.  

 لكن فى الحقيقة، هذه الرسوم لم تحقق المرجو منها، حيث تسببت فى زيادة أسعار السلع اليومية التى يحتاجها الأمريكان، ولم تضر بكين بل أضرت الصادرات الأمريكية التى عوملت بالمثل، فالصين لا تدفع هذه الرسوم المرتفعة، بل هى عبارة عن ضرائب جمركية، يدفعها المواطنون للحكومة الأمريكية، مقابل السلع المستوردة.  

وبالأرقام دفع الأمريكان أكثر من 68 مليار دولار رسوماً، منذ اشتعال الخلافات فى 2018، وقدر مكتب الموازنة فى الكونجرس، تكلفة هذه الرسوم على كل أسرة أمريكية بـ1300 دولار فى 2020، والكارثة الأكبر أنها عطلت سلاسل التوريد، وجعلت من الصعب على الشركات، توفير السلع الضرورية بأسعار معقولة.  

 والمثير أكثر هو زيادة الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالى (الربع الاول)، بنسبة 74.7 %،مقارنة بنفس الفترة من العام الماضى، مع ارتفاع الواردات من الولايات المتحدة، بنسبة 69.2 %.  

وحققت الصين فائضا تجاريا مع الولايات المتحدة، بقيمة 21.4 مليار دولار فى مارس الماضى، و23 مليار دولار فى فبراير الماضى.  

وبالرغم من أن التصريحات الأخيرة لكبير المسئولين بمجلس الأمن القومى الأمريكى لشئون آسيا، تقول أن حقبة المشاركة مع الصين انتهت، وأن المنافسة هى المعيار المهيمن، فيما يشير إلى تصاعد النزاع التجارى بين البلدين مرة أخرى، وخاصة مع تأكيد الرئيس الأمريكى بايدن على أنه ملتزم بوقف الانتهاكات الاقتصادية للصين.  

لكن يبدو أن الأيام المقبلة، ستشهد انفراجة فى الملف،حيث تقيم إدارة بايدن أثر الرسوم، وتنسق خطواتها مع حلفاء الولايات المتحدة، حيث تواجه الإدارة الأمريكية مشكلة أكبر على الصعيد التجارى، وهى أمن السلع، وهيمنة الصين المستمرة على سلاسل التوريد، حتى بعد كورونا.  

 وما يؤكد هذا الاتجاه، أن «كاثرين تاى» - الممثل التجارى الأمريكى الحالى، هى محامية من أصول آسيوية، تتحدث اللغة الصينية بطلاقة، ومتخصصة فى النزاعات التجارية الصينية، وكانت قد دافعت عن الولايات المتحدة أمام منظمة التجارة العالمية، فى خلافاتها مع الصين.  

 فمن المتوقع أن تساعد بايدن على مواجهة بكين فى قضايا حقوق الملكية الفكرية، مع الحفاظ فى الوقت نفسه على العلاقة التجارية وإعادة ترميمها، وبالفعل أجرت كاثرين مؤخرا محادثة تليفونية،مع نائب رئيس مجلس الدولة الصينى «ليو هى»، المسئول عن الملف التجارى بين الدولتين.  

 وتحتاج حزم التحفيز التى أعلنها بايدن إلى مزيد من السلع، على رأسها الحديد،  والأسمنت، والمعادن الأرضية، والنحاس، وتقدر شركة «سى آر يو جروب» الاستشارية،أن إطلاق حزمة تحفيز بنحو تريليون دولار، يتطلب توفير 6 ملايين طن إضافية من الحديد، و110 آلاف طن من النحاس، و140 ألف طن من الألومنيوم سنويا.

 فلك أن تتخيل إذا وصلت حزم بايدن إلى 4 أو 6 تريليونات دولار، فى وقت ضرب فيه فيروس كورونا، كثيراً من سلاسل التوريد الأمريكية، الأمر الذى أدى إلى نقص ومشكلات فى إنتاج المواد والسلع الأساسية.  

ولذلك وقع بايدن فى فبراير الماضى، قرارا تنفيذيا يلزم الحكومة بمراجعة هذه السلاسل، وإنشاء سلاسل توريد أكثر مرونة وأمانا للسلع الأساسية، وخاصة الأدوية، والمعادن النادرة، والبطاريات، فهل يستطيع بايدن المواجهة؟!