الجمعة 21 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

المأساة..الأسوانية

المأساة..الأسوانية
المأساة..الأسوانية


 
تفتحت عينى وأنا طفل صغير على كوكبة من الأعلام جمعتهم بالولد الشقى السعدنى الكبير روابط الصداقة والمحبة، واشتركوا جميعًا فى عشق هذا الوطن، ولأن السعدنى كان فى غرام مع الجيزة يقدس ترابها ويهوى نيلها ويتذوق نماذجها البشرية.
 
 تصورت أن بلدنا أو جنسيتنا هى الجيزة فنحن جيزاوية، ولذلك وعندما وقع بصرى وأنا طفل صغير على بعض أصدقاء الولد الشقى، وكانت ألقابهم غريبة على مسامعى كنت أسأل عن مصدر التسمية، فكان أول من سألت هو عمى وتاج راسى عبدالرحمن الخميسى وقلت له هل أنت جيزاوى ولا خميسى فأجاب بالنفى، وقال: عمك الخميسى يا ابنى لا يتبع أى بلد.. عمك الخميسى ماعندوش قيود أنا ابن الحياة يا أكرم يا ابنى، فعدت لأستجوبه.. يعنى أنت مولود فين يا عم الخميسى.. وهنا أجاب بدلا عنه الولد الشقى السعدنى الكبير فقال.. عمك الخميسى مش مولود فى مكان.. ده موجود فى مكان.. أنا وكل أصحابنا اتولدنا وكبرنا لقيناه كده زى ما هو وضحك الخميسى من أعماق قلبه هو وكل الحاضرين فنظرت إلى عمى عباس الأسوانى وكان يشبه النهر فى عذوبته كان صوته مثل سخريته فى غاية الرقة والجمال، وقد جذبنى عباس الأسوانى فى صغرى لأشياء عدة فهو يتكلم بصوت يجبرك على الإنصات إليه ثم اللغة التى يتكلم بها كانت خاصة به وحده، وبعد ذلك المنطق الذى يجب أن نقف عنده ونقدره كان عم عباس يخشى من أن يجلس إلى جانب سائق متهور، وقد كان السعدنى متهورًا فى سواقته بالتهور وكان عم عباس يقول للسعدنى.. أنت يا سعدنى راجل شجاع مقتحم مقاتل وأنا بحترم فيك ده.. فيرد السعدنى وعلى الطلاق وأنا كمان يا عم عباس باحترم فيك كل صفاتك.. وكنا فى الطريق إلى الإسماعيلية وبورسعيد نركب سيارة السعدنى الفولكس فاجن الخنفسة، ثم أضاف عمى عباس.. وأنا يا ابنى بخاف من الاختراع ده «العربية» وباخاف من السرعة، وزى ما أنا باحترم فيك حب السرعة والتهور.. احترم أنت كمان خوفى من عربيتك ومن سرعتها يا محمود.. ونزل السعدنى عند رغبة العم عباس فقلل السرعة من 120 كيلو فى الساعة إلى 100 كيلو فقط.. ومع ذلك لم يأمن العم عباس لقيادة السعدنى للسيارة وحمد الله على سلامتنا عندما بلغنا حدود محافظة الإسماعيلية فى العام 1966. إذا لم تخن الذاكرة وقد شدنى لقب العم عباس «الأسوانى»، ولم أكن أعلم أى شىء عن أسوان وأهلها ولى من العمر خمس سنوات، فأسهب العم عباس فى شرح طبيعة بلاده «أسوان» وموقعها وآثارها وصفات أهلها والمجتمع البسيط الذى يجمع أناساً بسطاء طيبين شعرت أنه يصف المدينة الفاضلة- بالطبع لم أكن قد سمعت بمدينة أفلاطون فى هذا العمر- واستطاع العم عباس أن يدخل حب أسوان إلى قلوبنا، حال شقيقتى الكبرى وأنا ومن يومها عندما صور لى العم عباس الحياة على أرض أسوان، وكيف يشقها النيل وسط الحياة كما خلقها الله سبحانه وتعالى، وليس كما أضاف إليها الإنسان من إضافات شوهتها والآثار التى تقف شامخة شاهدة على عظمة وتاريخ الفراعنة.. المصريون الأوائل الذين أدهشوا البشرية.. هذه البلاد كانت أشبه ببلاد الأساطير وأهلها لصقوا فى ذهنى على أنهم الطيبون فى أرض الله، وكيف لا يكونون كذلك ومنهم ذلك الملاك الذى صوره الله على هيئة بشر وهو عمى عباس الأسوانى المحامى الذى ظل وفيًا لأصدقائه طوال سنوات عمره، وأتذكر العم عباس هذه الأيام وأترحم عليه فقد صور لى أسوان المدينة التى تحتوى على الفضيلة ممثلة فى مواطنيها أهل الخير والفنون والبهجة وقد أذهلوا الإنسانية بما تمتلكه محافظتهم من مكنون الآثار ومكارم الأخلاق، واليوم أدهشوا العالم ببركة الدماء التى سالت كالنهر الموازى لنهر النيل بفضل عبارات كتبها ولد موتور معتوه العقل أصلع الموهبة فنشبت فتنة بين الهلالية والدابودية واشتعلت نيران لم يطفئها أحد، ولا أعتقد أن أحدًا قادرًا على ذلك سوى رموزنا الفنية الكبيرة القامة الذين جاءوا من هذه البقعة الطيبة الودودة من أرض مصر.. أولهم وأستطيع أن أؤكد أنه قادر على الفعل الفنان النوبى الجميل محمد منير الذى يعشقه أهل مصر من حدودنا مع برقة فى المغرب حتى حدودنا مع أولاد الـ«....» فى الشرق، هذا الفتى الذى يحمل عذوبة النيل وبين جنباته يفيض الخير كما هو حال أرضها وهو يقف فى كل المواقف شامخًا كما نخيلها.. أقول محمد منير يستطيع أن يفعل الشىء الكثير.. وأيضًا كاتبنا وأديبنا العالمى ابن العم الغالى العزيز عباس الكاتب الرائع علاء الأسوانى عليه أن يعود إلى مسقط رأس الوالد لينقذ ما يمكن إنقاذه وهو صاحب شعبية غير مسبوقة بين أدباء وكتاب مصر وفوق ذلك فإن أثره الأدبى تعدى حدود مصر وغزا العالم أجمع بعد أن ترجمت أعماله إلى أغلب اللغات العالمية، مثل هذا الكيان الممتلئ بالصفات التى تجلب لصاحبها الاحترام وتضفى عليه الوقار وتجبر الآخرين على تقديره والاستماع إليه.. أقول أمثال علاء الأسوانى ليسوا كثيرين ولكنهم ندرة وقلة، علينا أن نستفيد منهم فى وأد هذه الفتنة التى أراد بها أنصار بيت الشر والكراهية أن يحرقوا بها بلادنا، ومع هؤلاء ننتظر من فضيلة شيخ الجامع الأزهر الشريف أعظم مؤسسة إسلامية فى العالم أجمع والمرجعية الكبرى فيه وهو ابن هذه البقعة الساحرة.. وهو رجل فاضل أعز الله سبحانه وتعالى مصر ومشيخة الأزهر به، نتمنى على الله ولا يكثر على الله أن يكون فى هذا الثلاثى العلاج الناجع والحل الأمثل لهذه المأساة التى حلت بجزء غالٍ ونفيس وعزيز من وطننا الذى نسأل الله له السلامة.. وفق الله أبناء هذا الوطن لرفعة شأنه بين الأمم، فمصر فى محنة لا يعلم مداها إلا علام الغيوب.. هذه المحنة أهل مصر أجدر بأن يخرجوا منها بأقل الخسائر.
 
اللهم احفظ هذا البلد آمين!!