السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
«طبيـب أريـاف» لمحمـد المنســى قنديل

«طبيـب أريـاف» لمحمـد المنســى قنديل

محمد المنسى قنديل رحلة إبداعية ثرية تنوعت ما بين كتابة القصة القصيرة والرواية، والدراسات الأدبية العميقة فى التراث العربى والكتابة للأطفال. وأصدر العديد من المؤلفات منها فى فن القصة القصيرة مجموعات «من قتل مريم الصافى»، «احتضار قط عجوز»، «وآدم من طين». ومن فن الرواية «انكسار الروح» 1988، و«قمر على سمرقند» 2005، و«يوم غائم فى البر الغربى» 2009، و«أنا عشقت» 2012، و«كتيبة سوداء» 2015. وقد حصل على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب لهذا العام عن مجمل أعماله الإبداعية، وتقديرًا لدوره الأدبى، والإبداعى والثقافي .. وفى السطور القادمة قراءة فى أحدث رواياته «يوميات طبيب أرياف».



 

نماذج إنسانية

توقعه الوحدة وأجواء العزلة لاكتشاف ذاته، والتأمل فيما مضى منها فقد آنس فى القرية بداية جديدة لحياته التى ضاع شطر كبير منها فى سجن سياسى، وحب لم يتوج بالارتباط، فقد عانت خطيبته من عمله بالسياسة، وآثرت الزواج بآخر. وفى القرية يتطلع إلى الحب والاكتمال، فيلتقى بفرح التى تعمل ممرضة فى الوحدة الصحية كمساعدة له، ويراها رمزا للبراءة والجمال والتفانى فى العمل فينجذب إليها، ولم يكن يعرف أنها متزوجة من ابن عمها «عيسى» أحد شباب القرية البسطاء، ومن تفاصيل قصة هذا الحب يثير الروائى العديد من القضايا الخاصة باكتشاف الذات والآخر، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وارتباطهما بقيم وتقاليد المجتمع أو تمردهما عليها، وما ينشأ عن ذلك من صراعات وأحداث من خلال نماذج إنسانية منها الطبيب «على» و«فرح»، و«أبانوب» الخيّاط و«جليلة»، و«الجازية» الغجرية وحبها للطبيب «على»، ورفضها لرغبة المأمور فيها، ويتجلى ذلك فى حكايتها وأساطيرها الساحرة التى تجذب إليها أهل القرية فهى عاشقة الصحراء، جاءت من مجتمع مختلف بل هى ملكة الغجر التى تسعد لياليهم بالغناء والحكى، وفى حكاياتها تصوّر شخصية «الجازية» فى السيرة الهلالية على النحو الذى تراه يحققها كامرأة فالجازية فى حكاياتها تختار زوجها وعندما تمل عشرته تتمرد فقد تزوجت من أمير برقة الذى عرف روحها المنطلقة فلما صارحته برغبتها فى مفارقته استجاب لها وحل عقدة زواجهما، لترتبط هى بعد ذلك بحب آسر لأبى زيد الهلالى لكنه كان عاشقا لزوجته «وطغة» ويدفعها ذلك للتآمر عليه مع «دياب»، وعندما جعلته فى حكايتها ينتصر على أبى زيد الهلالى ثار عليها الفلاحون، وكل من سمع الحكاية فى القرية لأنها اصطدمت مع رؤاهم الذهنية، ومشاعرهم تجاه أبى زيد الهلالى. 

الغجرية العاشقة للطبيب تهواه، وتطرح حبها عليه بجرأة تجتذبه، يتمنى أن تصبح «فرح» متمردة مثلها، لكنها أحبته بطريقتها الخاصة بهدوء امرأة تريد أن تحقق أنوثتها وأمومتها فتمردت داخليا على زواج لا يحققها فاندفعت فى طريق الحلم والمغامرة، وآثرت لحظة ضعفها اليائسة على حياتها الرتيبة المستقرة، ورآها الطبيب على طريقته الخاصة قد آثرته بحبها واحتضنت بذرته، وأنها هى التى أرادت أن يكون لها طفل منه، فقرر أن يتزوجها، وأن يقصى زوجها فيعطيه المال ليحقق حلمه بالسفر والعمل، وأغراها بطلب الطلاق منه، لكن الزوج «عيسى» يضيع فى رمال الصحراء مع من سافر من شباب القرية فتأكلهم الضباع، وتبدأ مأساة الطبيب وإحساسه بوخز وتأنيب الضمير .

 الريف فى الرواية المصرية

وتأتى هذه الرواية لتؤكد قدرة الريف المصرى كمنبع روائى ثرى للمبدعين فالرواية المصرية بدأت ابنة للريف من خلال رواية «زينب» محمد حسين هيكل، والتى نشرها مسلسلة على صفحات «الجريدة» عام 1911، ثم طبعت فى كتاب عام 1912، ولم ينشرها حينذاك بتوقيعه بل باسم «مصرى فلاح» ثم نشرها بتوقيعه بعد ذلك. 

 ثم توالت الروايات عن الريف المصرى فأبدع توفيق الحكيم روايته «يوميات نائب فى الأرياف» وكتب طه حسين «دعاء الكروان»، وكتب يوسف إدريس روايته «الحرام»، وكتب بهاء طاهر روايته «خالتى صفى والدير» وإذا كانت رواية الحكيم «يوميات نائب فى الأرياف» بوجه خاص تعد وثيقة أنثربولوجية حافلة بالتفاصيل، وصورة من أكثر الصور بلاغة فى التعبير عن مجتمع القرية المصرية بمباهجه، ومثاليته، وتصّور روح التكافل التى تثير الإعجاب به فإنها قد اختزنت شحنة الغضب والرفض التى ضمنها الحكيم وثيقة لكل السلبيات التى يعانى منها المصرى كما يقول الكاتب الفرنسى جان لاكوثور فى مقالة له بصحيفة «الموند الفرنسية».

وإن وثيقة محمد المنسى قنديل الحديثة، روايته «طبيب أرياف» تؤرخ للقرية المصرية فى ثمانينيات القرن الماضى بما حفل به من تصوير الصراعات والأحداث الاجتماعية، وهى أيضا تحمل شحنة الغضب والرفض نفسها لكثير من السلبيات التى لا زالت تؤثر فى تطور الريف المصرى، وخاصة على الجانب الاجتماعى، والجانب الاقتصادى بل والسياسى 

صور من الحياة الاجتماعية

ومن خلال تدفق السرد، والانتقال برشاقة بين مشاهد الرواية يرسم المنسى قنديل ملامح أبطال روايته فإذا بها شخصيات تتجسد فتراها، وتسمع أصواتها، وهمس انفعالاتها الداخلية، واصطراع مشاعرها.

وتبدو مغامرات الطبيب فى اكتشاف ذاته بين القرية والمدينة، وتعرفه على عوالم شخصيات جديدة رحلة مثيرة يتجاوب معها الطبيب كنموذج إنسانى عذبته الوحدة، ويتوق إلى تحقيق الذات فى واقع قاس.

ورغم أن أحداث الرواية تدور فى ثمانينيات القرن الماضى فهى تحمل المشكلات والقضايا نفسها التى تعود إلى ثلاثين أو أربعين عامًا مضت، فكما نرى صور الحياة الاجتماعية فى الريف من علاقات المصاهرة والارتباط فى رواية «يوميات نائب فى الأرياف» على سبيل المثال نراها أيضًا فى رواية المنسى قنديل فالمرأة لا تختار زوجها مثل «فرح» التى تزوجت ابن عمها رغم عدم رغبتها فى الزواج منه.

وتقع حوادث قتل النساء بسبب عواطفهن مثل نموذج «جليلة» فى رواية «طبيب أرياف»، أو لأسباب غامضة لا تكتشف أبدا، ومحاطة بالسرية التامة مثل نموذج «ريم» الزوجة الثانية لقمر الدولة علوان، وزوجته الأولى أيضا فى رواية «يوميات نائب فى الأرياف». 

 كما رصدت الروايتان الممارسات البدائية فى تطبيب النساء، حيث أحرشت الداية يدها بحفنة تبن وضعتها فى رحم امراة تلد فقضت وطفلها فى رواية توفيق الحكيم. ونجد الممارسة البدائية أيضا فى تطبيب الداية لجليلة الأرملة لإجهاضها بعد قصة حب لأبانوب الخيّاط، حيث كان زواجهما فى نظر أهل القرية مستحيلا، فقتلها أهلها، وتم تغريبه وإبعاده عن القرية فى رواية المنسى قنديل.

العزلة ووسائل الاتصال 

وقد صوَّرت الروايتان عزلة الريف عن وسائل الاتصال فلم يكن هناك سوى تليفون ضخم توجد منه آلتان أو أكثر، واحدة فى بيت العمدة، وأخرى فى مكتب المأمور، وثالثة فى عيادة طبيب الأرياف. أما فى رواية توفيق الحكيم فالتليفون كان رمزا للسلطة فإذا خرج من دار العمدة السابق استقبل أهل الدار ذلك بالعويل، وإذا انتقل إلى بيت العمدة الجديد استقبله أهل داره بالزغاريد والدفوف. فالتليفون رمز لزوال السلطة أو تأكيدها والفخر بمظاهرها، وكأن التليفون فى مقام الصولجان.

يوميات نائب ويوميات طبيب

وكانت رحلة السرد فى الروايتين تشبه اليوميات على لسان السارد أو الراوى البطل الذى يكشف عن انطباعاته، وآرائه، وانفعالاته، واشتباكه مع الآخرين فى علاقات مركبة أو بسيطة وكلها دالة، فالبطل هو النائب نفسه عند توفيق الحكيم. والبطل السارد هو الطبيب عند المنسى قنديل.

وتميزت روايته بمحاولة تصوير العديد من الشخصيات سواء تلك التى كان لها أدوار ثانوية أو رئيسية فى الرواية بحيث استطاع المنسى قنديل أن يصوّر فى فضائه الروائى ما تحفل به الحياة فى الريف من مظاهر شعبية أو سلطوية، كما وصف المهمشين، وكذلك وصف حياة الخارجين عن القانون عندما جعل بطل الطبيب يشتبك فى علاقات عديدة من خلال عمله مع نماذج إنسانية مختلفة.

وكان لبعض الشخصيات الثانوية فى الرواية دور مهم فى السرد مثل شخصية «دسوقى» فهو مساعد الطبيب العارف بأحوال القرية وطقوسها، ويعرف أبناءها ويخلص الطبيب من مآزقه، فقد كادت الوحدة تدفعه للتورط مع «الجازية» الغجرية فذهب إلى حضور حفل غنائها فى خيمتها، وبسبب هجومها على شخصية أبى زيد الهلالى أغضبت الفلاحين، وثاروا عليها وأحدثوا شغبا فجاء المأمور ورجاله وكادوا أن يأخذوا الطبيب مقبوضا عليه لولا «دسوقى» الذى أخبرهم بأن «على» هو طبيب الوحدة، وقد مر بالمصادفة فى هذا المكان فيفلح فى إنقاذ الطبيب الذى يصور صراعه مع ذاته فيقول : «أصعد إلى السكن وأغلق أبوابى، وأرتمى على الفراش، ماذا فعلت بنفسى؟، كيف تركت هذا الأمر يحدث لى ؟، أحدق فى ظلام الغرفة وأدرك فجأة إنها الوحدة الممضة الباردة التى تحيط بى، لا عذر لى». لكنه يندفع أيضا فى اتجاه «فرح» فيتعلق بها وهى تمس بشفتيها خده، مسة خفيفة كرفة فراشة، كومضة ضوء، كذوبان سحب» فيضع يده على خده مبهورا، وهو بين إقبالها وإدبارها يتأمل قدرة امرأة أن تختار حبها رغم القيود المحيطة بها فيتأمل كيف دبرت لقاءهما، واندفعت إليه، ويذهلها موقفها بعد ذلك، وهى تهتف فى وجهه: «لن أكون المرأة التى باعت كل شىء، وخسرت كل شىء». أريد «عيسى» زوجى، أريده أن يعود وأن يجدنى فى انتظاره داخل بيته، من أين أحضر «عيسى» النقود ؟، لقد سألت أقاربنا والناس الذين يعرفوننا، لم يعطه أحد قرشا واحدا، وهو أيضا لم يطلب شيئا منهم».

وهنا يشعر الطبيب بذنبه العميق فهو الذى أعطى زوجها النقود ليضيع فى الصحراء، فى بحر الرمال، وهنا تعرض الرواية لهذه الأسفار المضيعة للأرواح، وما يكتنفها من أخطار، يلجأ إليها أبناء القرى لضيق ذات اليد، ومحاولة البحث عن رزق أوسع إذا ضاقت بهم قراهم، وتصبح أمنية الطبيب فى هذه اللحظة أن ينقذ «عيسى»، وأن يأتى به سالما لفرح يعذبه غيابه كما يعذبها فيقول: «أتقلب على جنبى قلقا فأجد «عيسى» نائما بجوارى يشاركنى وسادتى والضباع تملأ الغرفة، أستيقظ مفزوعًا، فراشى خشن من أثر الرمال، كابوس لن يغادرنى لفترة طويلة».

وكما يصور السارد تمرد «فرح» وتمزقها بين رغبتها فى تحقيق أمومتها وأنوثتها بين ارتباط العميق بعيسى زوجها الذى لا يستطيع إخصاب بذورها، كما يصور تمرد زوجة العمدة عليه، ورغبتها فى الهرب منه لقسوته عليها. لقد تزوجته للحصول على غرفة خاصة، وها هو الفقر يعد سببا أساسيا لمعاناة هذه المرأة فهربت من حراسة خفره، وقسوته. 

البحث عن المفقود 

«الجازية» الغجرية هى الشخصية النسائية الثالثة الأكثر تمردا فرغم ما تتعرض له قسوة فهى تحقق ذاتها المحرومة فى حكايتها، تحب الطبيب، وتود أن تكون فى حياته امرأة عابرة فيحار فى شخصيتها هل هى الجازية أميرة الحكايات أم الجازية الغجرية، لكنه فى كل حال متعاطف معها فهى التى قادت الرجال فى رمال الصحراء للعثور على شباب القرية الضائعين فيها. فالمرأة فى هذه الرواية هى رمز الجمال والسحر والتمرد، تقود بمعارفها وخبراتها رحلة البياض، والعثور على المفقود.

.. رواية «طبيب أرياف» هى أحدث رواية تتناول الريف الذى لا يزال منبعا ثريا للرواية المصرية، ولا تزال قضاياه محورا مهما فى مجال السرد القصصى والروائى.