الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
إشراقة خمسينية.. يــا نجــف بنــور "الحلقـــة السادسة"

إشراقة خمسينية.. يــا نجــف بنــور "الحلقـــة السادسة"

«اكتشفت فجأة أنها فى منتصف الخمسينيات من عمرها.. تلفتت حولها بعدما أفاقت من صدمة العمر الذى تسرسب دون أن تدرى..  فإذا بها تبصر ما لم تبصره من قبل..  و تستشعر معانى لم تدركها فى حينها..  و تمارس طقوسًا لم تألفها فى نفسها..  و كأن القدر أراد أن يمنحها فرصة جديدة لاكتشاف ذاتها  فكانت تلك اليوميات»



عندما قرر ابنها أن يسافر للخارج بعد تخرجه فى الجامعة بسنتين للحصول على المجاستير.. باركت هذه الخطوة.. لم تسمح لأنانيتها  كأم لابن وحيد أن تقف حجر عثرة فى طريقه.. هونت على نفسها الأمر بأنهم مجرد (عامين سينقضيان سريعا ويعود بالسلامة) كانت تستشعر مدى الإحباط الذى يعيشه. فقد كانت تجربة العمل – رغم أنها فى نظر كثيرين فرصة جيدة جدا – محبطة لطموحه المهنى وشعرت و كأنه فرس مكبل بالأغلال فى مضمار سباق. وحتى الترقية التى نالها بعد اختبارات قاسية وحقق فيها أعلى نسبة نجاح لم ينلها أحد من قبل.. فوجئ بمديره الجديد وهو الذى وضع الاختبارات بنفسه يستدعيه ليسأله فى شك عن كيفية تحقيق هذه النسبة غير المسبوقة.. وهل كان على علم بأى شكل بأسئلة الامتحان!! نظرات  التوجس والترقب من زملائه جعلته بعد شهرين ينوى السفر.

فى الأيام القليلة التى سبقت رحلته جلس مع أمه وسألها (هل أنا بقرار سفرى هذا أكون قد اخترت وحدتى بإرادتى يا أمى.. سأتركك أنت ووالدى وشقيقتى الوحيدة وأصدقائى وأهلى وأقاربى وعملى وسأقفز للمجهول هل تظنين أننى سأندم على قرارى هذا؟)

يومها استشعرت أمه مدى قلقه وخوفه مما هو مقدم عليه من خطوة فاصلة فى حياته وقالت له (بل أنت تنحاز لموهبتك العلمية وسفرك هذا هو تدعيم لها بمزيد من العلم والثقافة.. هذه الخطوة هى بالتأكيد فرصة ستضيف لك الكثير على المستوى الإنسانى والعلمى .. توكل على الله وإن شاء الله ربنا سيجبر بخاطرك). غالبت دموعها يوم سفره.. إلى أن اجتاز بوابة الدخول للمطار. 

فانفجرت باكية ..

عاشت هى ووالده كل تفاصيل حياته الجديدة من خلال النت (الماسنجر والواتس آب والتليجرام) الشهور الأولى وما بها من صدمات  ومحاولات التكيف.. المدينة الجامعية والسكن المشترك.. الوحدة التى دفعته لكتابة ورقة على باب غرفته يعرِّف زملاءه بنفسه ويدعوهم للتعارف لكى يجد أحداً يتحدث إليه.. البحث عن الوجبات الحلال.. محاولاته الأولى لعمل أكل لأول مرة فى حياته فى المطبخ المشترك.. العمل بجانب الدراسة.. وو .. تفاصيل كثيرة إلى أن فوجئ بعدما حصل على الماجستير وعرضت عليه وظيفة جيدة بإحدى الشركات هناك بأنه يقول لهم..(بابا .. ماما .. أنا عايز أكلمكم فى أمر هام..

أنا نويت إن شاء الله أتزوج زميلتى (..) المهندسة الروسية المسيحية التى تعد الماجستير أيضا هنا فى نفس الجامعة).

تبادلت النظرات هى وزوجها.. لم تستطع أن تتجاوز صدمتها بسهولة فلاذت بالصمت. لقد تناقشت معه فى أمر الزواج كثيرا من قبل.. بل ورشحت له أكثر من عروس وكان دائما يرجئ هذا الأمر لحين حصوله على الماجستير .

لم تستمتع إلى الحوار الذى دار بين ابنها ووالده لم تفق من صدمتها إلا وزوجها يقول له: (من الأفضل أن نؤجل أى مناقشة لهذا الموضوع لحين وصولك للقاهرة بعد أسابيع قليلة).

والابن يقول له.. أنا يهمنى رضاكم ومباركتكم لهذه الخطوة وهى تكاد تصرخ من أعماقها.. عن أى رضا ومباركة يا ابنى التى تنتظرها مننا؟

ألا تدرك بأنك ستعانى بزواجك هذا من غربة أبدية مكثفة.. غربة مكان.. ولغة.. وعقيدة.. وعادات وتقاليد؟

بدلاً من أن تتزوج من بلدك من تهون عليك غربتك. وحتى لو أقامت هناك بصفة دائمة أكيد (حتزن) عليك كل فترة لتعود لبلدكما لترى أهلها.. فأراك وأرى أولادك لكن زواجك بأجنبية يعنى إنك ستعمل وتستقر هناك للأبد ولن تعود لبلدك ولحضن أمك إلا كل حين.

عندما وصل القاهرة كانت استعدت للمعركه واعتبرتها معركة وجود..

تكون أو لا تكون فى حياة ابنها. 

استخدمت كل السبل.. المناقشات الهادئة .. صرخات الغضب الهادرة .. الدموع الساخنة.. الإنذارات والتهديد بغضب قلبها عليه.

ولما استنفدت كل طاقتها طالبت زوجها باستدراج ابنها يومين فى الشاليه الخاص بهما فى السخنة والتحدث معه بهدوء.. حديث من رجل لرجل بلغة العقل وليست بالعواطف.

ونزعا للفتيل ولتهدئة الموقف سافر زوجها وابنها وبعد يومين عادا دخل عليها ابنها بجسد متورم ووجه محتقن. 

أسرعت بحجز موعد عاجل مع الطبيب الذى صارحها بأن ما يعانيه ابنها هو (حساسية عصبية) نتيجه التوتر والضغوط و كتب له علاجاً لمدة 3 شهور  وأسقط فى يدها .. لقد حملت ابنها ضغوطا نفسية رهيبة  أنهكته فى مناقشات و جدال لم يسفر إلا عن مرضه. 

ليلتها لم تنم راجعت موقفها.. وتذكرت عتاب ابنتها لها عندما طالبتها بالتدخل والتأثير على أخوها إذ قالت لها (لم تفرضى على أحد منا قرارا منذ صغرنا واعتدنا دائما منك دعما وسندا لأى قرار نأخذه فكيف فى هذا القرار المصيرى تصادرين منا هذا الحق .. احترمى قراره يا ماما ثقى فى حسن تربيتك له). 

وزوجها الذى قال لها منذرا إنك ستخسرين ابنك .. أنه ممكن أن يفعل كل ما يريده دون علمك من غير المعقول أن نعاقبه أنه يريد أن يعصم نفسه ويكمل دينه .. أقدر مخاوفك تماما لكن ما هو المضمون فى العلاقات الإنسانية .

فى الصباح دخلت غرفة ابنها وهو نائم.. احتضنته وقالت له وهى تبكى مبروك يا حبيبى.

سافر ابنها بعدما استرد عافيته النفسية والبدنية وأرسل لهم بأنه بدأ فى إجراءات الزواج .. و بالفعل تم تحديد الموعد فى دولة أوروبية أخرى إجراءات الزواج بها أكثر تيسيرا. 

بالصدفة فى هذا اليوم كانت مدعوة لفرح ابن إحدى قريباتها بمجرد ما انطلقت الزفة بأغنية يا نجف بنور يا سيد العرسان لم تتمالك نفسها وانفجرت فى نوبة بكاء حار وهل هناك (سيد العرسان) حقا مثل ابنها.. الذى حرمت من أن تراه عريسا يزف لعروسه فى الكوشة. ابنها الذى سيذهب وحيدا فى بلد غريبة ليتزوج بمراسم زواج مختلفة.

بعد أيام جلست إلى زوجها قائلة له (أنا عايزة أفرح بابنى) أنا عايزة أعمل فرح لابنى هنا فى مصر .. أرسل لهما تذاكر السفر ليحدوا أقرب موعد يناسبهما لنحجز قاعة فرح.

زوجها نظر لها فى ذهول وتمتم لا حول ولا قوة إلا بالله فاستطردت قائلة فى رجاء حاسم.. (أنا لى حق عندك من 28 سنة.. عندما تزوجنا و لم تكن ظروفك المادية تسمح بإقامة فرح الآن تغيرت الظروف).

فى بهو الفندق الأنيق بدأت الزفة.. الحضور منبهرين بجمال العروس الأجنبية وهى لا ترى سوى ابنها عريسا. 

حاولت صديقاتها وقريباتها أن يجذبوها لترقص معهن وهى لا ترى سوى ابنها عريسا.. واقفة صامتة تماما عينيها مثبتتين على ابنها فى بدلة الفرح لا ترى سواه تحاول أن تستوعب المشهد و تحبس صورته فى عينيها وابتسامة رضا على شفتيها. 

فجأة عزفت الفرقة لحن أغنية.. يا نجف بنور يا سيد العرسان لحظتها فقط تحركت نحو ابنها واحتضنته بين ذراعيها وبعينيها رقصت معه فى فرحة عارمة.. ونشوة جامحة وهمست فى أذنه ألف مبروك يا سيد العرسان. وتتوالى الإشراقات الخمسينية الأسبوع القادم.