دخـل لإجـراء عملية تفتيت حصوة.. فاستأصلوا كليته!
أماني زيان وكاريكاتير احمد جعيصة
قسم بوقراط «أقسم بالله العظيم أن أراقب الله فى مهنتى. وأن أصون حياة الإنسان فى كل أدوارها، فى كل الظروف والأحوال، باذلاً وسعى فى استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عوراتهم، وأكتم سرّهم. وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلاً رعايتى الطبية للقريب والبعيد، الصالح والطالح، والصديق والعدو. وأن أثابر على طلب العلم، أسخِّره لنفع الإنسان لا لأذاه. وأن أوقر من علمنى، وأعلّم من يصغرنى، وأكون أخًا لكل زميل فى المهنة الطبية فى نطاق البر والتقوى. وأن تكون حياتى مصداق إيمانى فى سرى وعلانيتى، نقيًا مما يشيننى أمام الله»، هذا فقط للتذكرة لأنه من الواضح أن هناك البعض نسوا أو تناسوا هذا القسم.
أصبحنا الآن نخاف من الدواء أكثر من الداء.. فقد أمسى الأخير أكثر رحمة وأقل استهانة بنا وبأرواحنا.. الآن يحدث بالفعل أن ندخل مستشفى ما شاكين من ألم ما.. من المفترض أن يكون علاجه بعملية بسيطة.. إلا أنه ببعض الإهمال وقليل من الاستهانة وعدم التركيز والغرور.. تكون النتيجة روحا تفيض إلى بارئها.. أو عضوا يتم استئصاله بقسوة.. ولا نرى جفنا يهتز.. أو دمعة ندم تُزرف.. بل إنكار تارة وتعالٍ تارة أخرى.. مثلما حدث مع السيناريست نادين شمس.. ولا أخص بهذا الحديث المستشفيات الخاصة فقط!! فالقصة التى سأرويها لكم قصة شاب فى الثامنة عشرة من عمره.. فى السنة الأولى بكلية الحقوق.. كل ما شعر به هو ألم فى جنبه الأيمن.. وبعد الفحوصات.. أكد له أطباء المستشفى الحكومى التابع لجامعة الأزهر أن لديه حصوة فى الكلى ويحتاج إلى تفتيتها بالمنظار فى عملية بسيطة.. وبالطبع أغلبنا يعلم أنها بالفعل عملية لا يكون لها فى الغالب مضاعفات.. ذهب الشاب وسلم نفسه وروحه فى عهدة الطبيب «مراد» أستاذ جراحة المسالك البولية فى طب الأزهر.. ومجموعة من الأطباء وقام بإجراء المنظار.. وإذا بأمه التى كانت تظن أن فلذة كبدها سيغادر المشفى معها على قدميه تشاهدهم وهم يضعونه فى العناية المركزة.. وقفت لا تفهم شيئا.. لا تعى ماذا يحدث.. ولا أحد من الأطباء كلف نفسه عناء الحديث معها وشرح أسباب وضعه فى العناية المركزة .. كل ما حدث أن ممرضة رتبت على كتفها وقالت لها.. «إن شاء الله خير».. ظلت السيدة صفاء والدة مصطفى محمد مرسى.. هذه السيدة البسيطة التى ليس لها ظهر ولا سند بجانبها.. عاجزة.. لا تعرف ماذا حدث لابنها.. حتى كانت عاجزة عن البكاء.. ولكن طاردتها صورة ابنها وهو غائب عن الوعى منقول على النقالة لغرفة الإنعاش.. ولكنها صدقتهم أنه سيكون بخير .. أو هى أرادت أن تصدق .. هكذا هو حال المصريين .. يريدون تصديق الأمر الذى يرون عكسه بأعينهم.. حتى لا يشعروا بضعفهم.. ذهبت لمنزلها لتحضر له ملابس نظيفة وطعاما ليأكله عندما يفيق.. لكنها عادت.. فوجدته فى غرفة العمليات مرة أخرى!!
لماذ؟! ماذا حدث لولدى ؟! لا أحد يجيب.. كل ما استطاعت معرفته.. أن مصطفى فى غرفة العمليات مaنذ أكثر من 6 ساعات.. وأنهم يبحثون عن أكياس دم له لأنه نزف بشدة.. لكن لماذا؟ ماذا حدث؟ ولماذا لم يتصل بى أحد؟ هى لا تدرك أن هؤلاء «أطباء أد الدنيا».. وهى مجرد سيدة غلبانة.. لا تفهم شيئا، فهل يضيع الطبيب وقته الثمين فى الشرح والتبرير.. أو حتى الاعتذار عن خطأ أدى إلى استئصال كلية هذا الشاب الصغير فى مقتبل عمره!!
خرج طبيب قال لها إننا وجدنا شيئا فى الكلية فاضطررنا لاستئصالها !! ما هو هذا الشىء؟ فقال لها مستهينا بعقلها .. «كانسر يا حاجة» سكتت الأم.. وجلست من الصدمة ولم تر هذا الطبيب مرة أخرى والدكتور مراد المسئول عن الحالة لم يقف حتى دقيقة للحديث معها ولم تره إلا بعد أربعة أيام فى يوم الأحد الذى يأتى فيه للمستشفى.. وعندما سألته قال لها.. «أنا أنقذت ابنك من الموت المحقق.. ده نزف 5 لتر دم.. قولى الحمد لله».
وهل تملك هذه السيدة المصرية البسيطة غير الحمد والشكر ورفع يديها لله شاكية ؟! أما أبوه الأسطى محمد مرسى فهو رجل طيب.. تملأ وجهه تفاصيل حياته.. فترى الشقاء وترى الرضا.. ترى الصبر وترى القهر.. ترسم شقوق وجهه ويديه معاناته فى تربية هذا الشاب وأخوته ليصبحوا أفضل منه حالا!!
عندما تحدثت معه أول مرة كان يروى لى القصة وهو يحاول أن يبتسم ويدارى دموعه التى تسببت أكثر من مرة فى تحشرج صوته وهو يتحدث.. وكان يقول «أنا مش عارف إيه اللى حصل.. ولا عارف ليه شالوا كليته.. نفسى بس أفهم.. فيه ناس بتقولى إنهم سرقوها.. وناس بتقولى إن أكيد الدكتور غلط وتعامل بعنف فتسبب فى نزيف.. لكن أنا مش عارف الحقيقة فين.. أنا مش عارف أعمله حاجة». عندما أخبرته أننى سوف أكتب عن الموضوع كان متخوفا أن يفعلوا شيئا فى ابنه.. فضحكت بحسرة وقلت له: «هيعملوا فيه ايه أكتر من كده يا أسطى» ؟!! فهز رأسه سارحا بعينيه ولم يرد.
هذا الرجل المكسور الذى رأى ابنه الصغير يموت أمام عينيه وهو عاجز حتى عن معرفة السبب الحقيقى، كل ما كان يصبو له هو أن يحافظ على أبنائه لإيصالهم لبر الأمان.. فلم يجده.. حاول أن يحميهم فلم يستطع..
ذهبت للمستشفى فوجدتها بصراحة أنظف المستشفيات الحكومية.. رغم نظافتها غير المكتملة ولكنها أفضل السيئ.. لم ألحظ إلا ما كان مكتوبا على حوائط السلالم من هتافات الجماعة الإرهابية «يسقط حكم العسكر.. وسيسى خائن.. قاتل.. وغيره» وهذا فى كل الأدوار وعلى علب خراطيم الإطفاء.
المهم ذهبت للدكتور أحمد صلاح.. الذى كان مشاركا فى عملية الاستئصال.. وقلت له إننى أخت مصطفى وأريد الحديث معه لأننى كنت فى الخارج وسمعت ماحدث وأبى وأمى لا يعرفان ماذا حدث.. فهل ممكن أن تعطينى من وقتك دقائق لأفهم ما حدث؟! وفى خلال حديثى معه دخلت سيده بسيطة تهرول.. «الحقنا يا دكتور البت تعبانه قوى بتموت!!» وهو لا ينظر لها إلا بطرف عينه قائلا «حاضر» ويقف مكانه.. فتعيد السيدة الاستنجاد به مرة أخرى.. «أرجوك يا دكتور البت تعبانة قوى.. والله ما بضحك عليك!!» استوقفتنى هذه الكلمة .. ولماذا يظن الطبيب أن المريضة تكذب ؟! هل يحب أحدنا المستشفيات والجراحات والأطباء؟!.. أرسل الطبيب لها ممرضة بعد دقائق من ترك السيدة الغرفة قائلا «روحى شوفى فيه إيه»!!
وقال لى: سأكمل المرور ثم آتى لك.. فانتظرته فى الخارج وذهبت للممرضة التى تقف فى الخارج واستأذنتها فى أن أرى دوسيه مصطفى وأشعاته وتخيلت أنه من ضمن الدوسيهات الكثيرة الملقاة على مكتب الاستقبال الذى تقف عليه.. إلا أنها ذهبت على الفور تنادى طبيبا اسمه «الدكتور عماد» وتخبره أننى أسأل على الأشعات.. فعادت لى مبتسمة بحذر.. أصل الساعة 2 دلوقت حضرتك تعالى بكرة «الجمعة» ويكون الموظفون موجودين لأن الدوسيهات كلها هناك وهم قفلوا وروحوا خلاص!! فقلت لها متسائلة بسخرية.. «بكرة!!
متأكدة؟!» فردت بنفس الابتسامة .. «أيوه أكيد»!!
خرج الدكتور ولم يناد علىَّ بعد انتهائه من المرور مثلما قال لى.. فذهبت له ودخلت له مكتبه.. وبدأ الحديث.. «العمليات دى لازم يكون لها مضاعفات» فقاطعته.. «لازم؟!!» ما أعرفه أنها عملية بسيطة يا دكتور والكثير يخرجون على أقدامهم فى نفس اليوم؟ فهز رأسه.. «نعم ولكن أحيانا تحدث مضاعفات كما حدث مع مصطفى فعندما أدخل الدكتور مراد القسطرة لكلية محمد حدثت مضاعفات أدت إلى نزيف حاد.. وعندما كشفنا عليه بعد العملية اكتشفنا النزيف وأدخلناه غرفة العمليات مرة أخرى لاستكشاف ماذا حدث وحاولنا منع النزيف دون جدوى فقررنا استئصال الكلية إنقاذا لحياته!!»
فسألته «ولكن قبل إنقاذكم لحياته لابد من وجود خطأ فى العملية الأولى».. فقال «لقد قلت لك أن هناك مضاعفات قد تحدث».. فقاطعته «مضاعفات!! تقصد خطأ وأن الطبيب تعامل بعنف..» فقال نحن نقول عليها مضاعفات!! وأكمل «كل طبيب معرض لذلك وكل مريض معرض لهذا!!»
واستطرد: لا يوجد دكتور يقصد إيذاء مريض.
فوافقته قائلة «هذا حقيقى ولكن.. ألا يكون من أبسط حقوق الإنسان أن تبلغوا أهله ويقف الطبيب الذى تسبب فى الخطأ أقصد فى المضاعفات معتذرا للشاب شارحا له الخطأ الذى دفع هو ثمنه كلية من كليتيه؟!!».
فهز رأسه قائلا «أنا لم أكن إلا مشاركا فى عملية إنقاذه من النزيف ولكن تستطيعين الحديث من الدكتور مراد أحمد مراد وهو يكون موجودا يوم الأحد من التاسعة وحتى الثانية عشرة.. وهو سيحكى لك كل ما حدث».. وأكمل: مصطفى أخ وكلنا نحبه وحضرتك أخت نحترمها!!
حاولت التحدث للدكتور مراد أكثر من مرة على الهاتف لكنه لم يرد على هاتفه.. لكنى أعلم جيدا أن الموقف لن يتغير كثيرا.. فهو قال للأم إنه أنقذ ابنها من الموت ولكنه نسى أن يقول لها إنه المتسبب الأول فى تعريض ابنها للموت بسبب النزيف الذى سببته القسطرة التى أدخلها هو لكلية مصطفى واضطر على أثرها لفتح بطنه واستئصال كليته!!
ما حدث مثال واضح وضوح الشمس فى نهار مشمس بقدر المواطن المصرى فى هذا الوطن.. عيش حرية كرامة إنسانية.. هذا كل ما نتمناه بل أقصاه.. لا نطالب برغدٍ فى العيشة.. لا نطالب عدم وجود أخطاء أو مضاعفات حتى ولكن أكثير علينا كمصريين أن نطالب باحترامنا كبشر .. أكثير علينا أن نطلب من أخطأ أن يعتذر لن نقول يعاقب فربما هذا صعب!! ولكن يعتذر.. لربما يحذر فى المرة القادمة.
مصطفى ذو الثامنة عشر عاما خسر إحدى كليتيه.. وسيظل طوال حياته متخذا احتياطات مشددة حتى لا تصاب الكلية الأخرى بأذى خاصة أنه صاحب كلى من طبيعتها تكوين الحصوات.. فهل سيحتمل خطأ.. أقصد مضاعفات مرة أخرى؟!! والى متى سيبقى فى مصر «كله بالحب حتى فى الطب».