الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
إشراقة خمسينية.. رحـــلات الهوانـــم "الحلقة الثالثة"

إشراقة خمسينية.. رحـــلات الهوانـــم "الحلقة الثالثة"

«اكتشفت فجأة أنها فى منتصف الخمسينيات من عمرها.. تلتفت حولها بعدما أفاقت من صدمة العمر الذى تسرسب دون أن تدرى..  فإذا بها تبصر ما لم تبصره من قبل..  و تستشعر معانى لم تدركها فى حينها..  و تمارس طقوسًا لم تألفها فى نفسها..  و كأن القدر أراد أن يمنحها فرصة جديدة لاكتشاف ذاتها  فكانت تلك اليوميات»



الآن وقد أبصرت الواقع الجديد وأدركت ملامحه جيدًا، ها هى تقرر أن تتعامل معه بفكر جديد.. ورؤية مختلفة، فإذا كانت (الخمسين عامًا) من ورائها، والفراغ والإحباط من أمامها، إذن فلتبحث حولها عن (نقطة ارتكاز) تستند إليها وعليها فى خطتها للمقاومة.

طال تفكيرها إلى أن توصلت لكلمة السر التى تكمن فى (السفر)، فقد كانت الرحلات والسفر لهما مفعول السحر على نفسيتها.

والحقيقة أن القدر كان سخيًا معها فيما قبل، وأتاحت لها الظروف فرصة التمتع بالسفر والترحال بصحبة زوجها للعديد من دول العالم.

جوازات السفر كانت متخمة بالتأشيرات لكنها فوجئت وهى تقلب فى أوراق جواز سفرها الأخير بأن صلاحيته قد انتهت منذ شهور، والمدهش أنه لم يكن به أى تأشيرة!!

معقول.. لم تطأ أقدامها طائرة منذ 7 سنوات كاملة دون أن تنتبه لذلك، مر فى ذهنها شريط الأحداث لتكتشف أن السبع سنوات الأخيرة كانت (عجاف)على مستوى السفر.. (سمان) على مستوى المسئوليات فى البيت والعمل. وهكذا مرت السنوات دون أى رحلة تنعش الروح وتنقى القلب مما شابه من أحزان. فهل يمكن للسفر الآن أن يصلح ما أفسده الدهر؟! واذا كانت هناك إمكانية للسفر فمع من تسافر؟! وإلى أين؟! خاصة أن ظروف زوجها الآن لا تسمح له بمشاركتها السفر كما كانا دائمًا من قبل.

وتلفتت حولها فى حيرة بحثًا عن طريق ورفيق، إلى أن قررت أن تسافر إلى (العمرة) ومع (أختها)، فلم تكن قد سافرت من قبل للأراضى المقدسة سوى مرة واحدة فقط من إحدى عشرة سنة، عندما أكرمها الله بأداء فريضة الحج برفقه زوجها، وهناك دعت أن تعود مرة أخرى (معتمرة) لتستمتع بأداء المناسك، وها هو الله قد أذن بقبول دعوتها الآن وسترافقها هذة المرة أختها التى كانت أكثر منها شوقًا ولهفة. 

أمام الكعبة أوكلت أمرها لرب البيت وفوضته أن يهيئ لها من أمرها رشدًا ويعينها على أيامها.

هناك.. برأت من أوجاع نفسها وغشيتها السكينة والطمأنينة.

وهناك.. استشعرت قربًا مع أختها لم تعرفه من قبل.. وكأن هذه الرحلة كانت فرصة (لإعادة اكتشاف) كل منهما للأخرى. فالأجواء الروحية والمرحلة السنية التى يعشنها جعلت كلًا منهما ترى الأخرى بعين جديدة وتشدها نحوها خيوط إنسانية مختلفة، مما جعل صاحبتنا تسترد إحساسها المزمن الجميل بالمسئولية تجاه من تحبهم، ذلك الإحساس الذى كان يدفعها إلى تقديم كل الدعم الإنسانى لهم بإخلاص وعن طيب خاطر.. أما اختها فقد استردت إحساسها بالأمان والونس الذى كانت تفتقده كثيرًا بعد غياب أمهما.

عادتا من العمرة وكل منهما ترى فى الأخرى أمًا وأختًا وصديقة وابنة. 

لقيت الطبطبة

 كانت الرحلة هذه المرة بالصدفة البحتة لم ترتب لها أو تسعى نحوها، لكنها قادتها لتجربة إنسانية فريدة.كانت الرحلة إلى شرم الشيخ حيث سافرت هى وأسرتها مع زميلاتها بالمؤسسة، لم تكن المرة الأولى التى تسافر فيها إلى شرم، ولكنها كانت لأول مرة تكتشف زميلاتها عن قرب شكلًا وموضوعًا.. فهى لم تكن تراهم إلا من وراء مكاتبهم يتبادلون حوارات تقليدية بين الزملاء، فإذا بها فى هذه الرحلة تراهم عن قرب على المستوى الإنسانى فكانت هذه الرحلة التى لم تزد على 5 أيام نقطة تحول فى علاقتهن ببعض.

بالورقة والقلم.. وبالعقل والمنطق كانت نقاط الاختلاف بينهن أكثر بكثير من نقاط الاتفاق، ورغم ذلك حدث توافق مذهل بين عشر سيدات!! ليس بينهن عامل مشترك واحد سوى أنهن ينتمين لنفس المؤسسة ويمارسن نفس الوظيفة (انضمت لهن فيما بعد صديقات لا يعملن معهن).

بينما كان لكل منهن فكر ومنهج وأسلوب شخصى ومهنى مختلف تمامًا عن الأخرى، حتى السن كان متفاوتًا بدءًا من سن الخامسة والأربعين وحتى سن الثانية والستين !! 

لم يكن التشابه هو الذى جمع بينهن ولكنه التوافق والتكامل، وكأن كلًا منهن عاهدت الأخريات – دون عهد أو وعد- أن تكون لها سندًا ودعمًا، وأن تكون ساعات لقائهن ساعات راحة واستجمام.. وهدنة لالتقاط الأنفاس. تقاسمن اللقمة والهم والحلم.

وكانت النتيجة أنهن قررن القيام برحلات (للستات فقط) بدأت برحلات داخلية زرن خلالها (شارع المعز.. القلعة.. الهرم.. مجمع الأديان ومتاحف وجوامع وكنائس و.. و..).

بعد ذلك انتقلن إلى مرحلة جديدة.. فقمن بتنظيم رحلات إلى المحافظات وكن يبحثن عن أفضل أماكن للإقامة.. يخترن وسائل انتقال جماعية ويضعن ميزانية لكل رحلة ويسلمنها لصديقة لهن باعتبارها وزيرة المالية، وهناك كل منهن تبادر لتتولى دورًا بلا غضاضة أو تكلف.. هذه مسئولة المشتروات وأخرى مسئولة الطبخ.. وثالثة مسئولة النظافة.. والرابعة مسئولة الغسيل، وتلك مسئولة عن إعداد المشروبات، وهذه تخصص حلويات.. سافرن إلى (الواحات.. الفيوم.. الأقصر وأسوان.. دهب.. سانت كاترين.. طابا) بالإضافة إلى سفريات الساحل الشمالى والعين السخنة المتكررة.

كن يقضين أوقاتهن فى تلك الرحلات فى الترفيه والاستجمام.. والضحك.. واللعب.. والسباحة وركوب العجل (اكتشفت صاحبتنا أنها أول مرة تركب عجلة) والغناء والأكل.

ولم يكن الأمر يخلو من مناقشات جادة حول الأحداث الجارية وأهم الكتب التى يقرأنها والبرامج التى يتابعنها وحكايات عن أولادهن وحياتهن الشخصية والأوقات السعيدة.. والصعبة.

كل الموضوعات كانت مطروحة لكن المثير للإعجاب أن داخل كل واحدة منهن كان هناك رادار داخلى يرصد بسرعة أى اقتراب من منطقة شائكة فكانت سرعان ما تتوقف عن الاقتراب وتغير الموضوع فورًا.

كانت كل منهن تفعل إرادة التوافق والاستمتاع (بالمكان والصحبة) دون أن تسمح لنفسها أو لغيرها بأى شىء يعكر صفو (رحلات الهوانم).

كانت هذه الرحلات.. رحلات فضفضة.. وطبطبة.. وعلاج نفسى يشبه تمامًا جلسات العلاج الجماعى التى يلجأ إليها الأطباء النفسيون فى محاولة لدعم كل مريض للآخر ومشاركته همومه ومتاعبه.

لذا فقد كانت صاحبتنا تعود من كل رحلة شاركت فيها الهوانم وهى تشعر بأنها عائدة من رحلة ترميم بدنى ونفسى ورصيد عظيم من الطبطبة.

وتتوالى الإشراقات الخمسينية

الأسبوع القادم