السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
إشراقة خمسينية.. علـى الهامــش .. ولكــن "الحلقة الثانية"

إشراقة خمسينية.. علـى الهامــش .. ولكــن "الحلقة الثانية"

«اكتشفت فجأة أنها فى منتصف الخمسينيات من عمرها.. تلتفت حولها بعدما أفاقت من صدمة العمر الذى تسرسب دون أن تدرى..  فإذا بها تبصر ما لم تبصره من قبل..  و تستشعر معانٍ لم تدركها فى حينها..  و تمارس طقوسًا لم تألفها فى نفسها..  و كأن القدر أراد أن يمنحها فرصة جديدة لاكتشاف ذاتها  فكانت تلك اليوميات»



و أنت فى منتصف الخمسين من عمرك تشعر بأنك فى مرحلة ملتبسة محيرة تشبه تمامًا المرحلة العمرية ما بين 12 - 17 سنة .. فصاحب هذه المرحلة لا هو طفل .. ولا هو شاب .. و كذلك أنت لا أنت فى سن الأربعين عز التحقق والعطاء ولا أنت فى الستين على المعاش رسميًا محاولاً التعايش مع المرحلة فى سلام و تقبلها قبولاً حسنًا .. فى الخمسينيات أنت فى مرحلة تشبه تمامًا ما مر به اللاعب المخضرم «عماد متعب» قبل استسلامه و إعلان اعتزاله رسميًا !!

فلم تعد أنت كابتن الفريق و بطل الملعب الذى يصول ويجول ويحرز الأهداف الصعبة بكل سهولة و لا أنت اللاعب الذى خذلته لياقته فأعلن اعتزال اللعب رسميًا .. أنت على الدكة أيام و شهور بطل مع إيقاف التنفيذ على أرض الواقع الجديد الذى تغيرت ملامحه من حولك و دفعت بك إجبارًا و ليس اختيارًا إلى الظل  .. و على الهامش لتدرك بنفسك قبل أن تعلنها على الآخرين إنك قد أصبحت الآن من أصحاب (المعاش المبكر .. الإجبارى) تعانى فراغًا رهيبًا يستنزف الروح  .. و يكبل الجسد ..  ويربك حساباتك الإنسانية بكل ما حولك و يزلزل ثقتك بنفسك.

كانت تتساءل فى حيرة بحثًا عن إجابة شافية  .. (هل هذا الشعور هو انعكاس للأزمة التى كانت تمر بها فى عملها ؟ فربما لو لم تمر بها لكانت قد عبرت هذه المرحلة العمرية بسلام دون أن تلتفت إليها )

لكنها كانت تجيب  فى صدق .. إن انسحابها من الضوء إلى الظل فى عملها قد جسد الأزمة و لكنه لم يخلقها و لم يكن السبب الوحيد لها. لقد كانت تعشق عملها وتمارسه برضا رغم أى معاناة بدنية أو نفسية. 

العمل فى حياتها هو (رمانة الميزان) به تتوازن وعليه تستند. لم تسع نحو كرسى أو منصب و كانت تدرك أنها قد وصلت إلى أقصى حدود السقف المتاح لأمثالها .. هؤلاء الذين يمارسون عملهم بمنطق الهواه وليس المحترفين ،كانت تهوى عملها إلى الحد الذى دفع رئيسها السابق أن يقول لها متعجبًا ( أنت لا تعرفين فى عملك أى حسابات أو مؤامات)وكانت تتمنى أن يتواصل عطاؤها فى الظل إلى النهاية و لكن البعض أزعجه وجودها و اعتبروه تهديدًا لوجودهم فما كان منها سوى الانسحاب فى صمت احترامًا لنفسها و تاريخها فكان انسحابًا بطعم الفوز .. على الجانب الآخر من حياتها كانت تمر بمنحنى خطر آخر كثف من  مشاعرها وأزمتها العمرية ..

فقد تغيرت خريطة أيامها بل حياتها كلها و هى تقترب من منتصف الخمسين من عمرها .. لقد كانت وعلى مدى سنوات طوال يومها يبدأ فى الخامسة صباحًا و لا ينتهى قبل منتصف الليل .. كانت ساعات اليوم لا تكفى لإنجاز مسئوليتها ،أما الآن وهى فى الخمسين فقد تغيرت الأحوال وأصبحت الساعات تمر بطيئة رتيبة فقد كبر الأبناء و انتهت مرحلة الهرولة ما بين الدروس والتدريبات والمتابعة المركزة وإذا بشمس قيادتها و توجيهاتها لحياتهم قد غربت لتهل أقمارهم فى سماء أيامهم.

فلقد سافر ابنها للخارج لاستكمال دراسته العليا و عمل و استقر هناك بصفة دائمة ولا يفكر فى العودة إلا فى إجازات قصيرة للزيارة وابنتها أنهت تعليمها وأصبح وقتها واهتماماتها موزعة ما بين مشروعها الخاص الذى تحاول أن تثبت فيه نفسها ومابين صديقاتها و موبايلها ..

و زوجها .. صديق الأمس و رفيق الدرب وحبيب القلب مشغول دائما .. وهاهى الاهتمامات المشتركة قد تبدلت وعوالمهم المتداخلة قد تفرقت وإن كان رصيدهما المشترك من المشاعر مازل عامرًا مما يسمح بمساحات من الود.. و الصحبة الطيبة .. 

الحياة على استحياء 

تستطيع أن تؤكد الآن دون أى شبة مجاملة للذات أو رثاء للنفس أنها مارست الحياة على استحياء!!

وأنها لم تعرف الحياة الناعمة المرفهة المخملية اللاتى تعشقها الكثيرات ويسيعين نحوها بإصرار شغفًا و نهمًا هذه الحياة لم تعرفها صاحبتنا إلا من بعيد لبعيد.

فدائما هى فى حالة استنفار.. وعلى أهبة الاستعداد لتولى المسئوليات والمهام وأدائها على أكمل وجه دون أى تذمر أو تهرب مهما كانت هذه المسئوليات ثقيلة و صعبة .. وقتها ليس ملكًا لها و مجهودها مقسم بالعدل على من حولها دون أن يكون لها نصيب منه إلا قيما ندر.

يصفونها بأنها – دءوبة -  تملك نفسية محارب و هى صفة ورثتها عن والدها الذى كان من المحاربين القدامى .. فنشأت تتعاطى الصبر بانتظام و تتخذ من البال الطويل منهج حياة .. و لطالما راهنت طويلاً على سياسة (النفس الطويل) فى مواجهة الإحباطات وكانت تفوز دائما حتى بات يقينًا لديها بأن (الصبر مفتاح الفرج) 

و رغم ذلك و رغم مرونتها وقدرتها على العطاء كان البعض يتعجب من كونها ( عصية على الذوبان و التلاشى فى كيان الآخرين) والحقيقة إن شخصيتها المتحفظة و حرصها على ترك مسافة ومساحة خاصة جدًا لا يجوز الاقتراب منها أو اختراقها من الآخرين قد وفرت لها الحماية من محاولات الهيمنة و الاستقطاب أو السيطرة الذى يحلو للبعض ممارستها على الآخرين إلا أنها بلا شك قد افتقدت  - خاصة فى عملها –أن تكون لها مظلة تحميها ودرع يصد عنها الهجمات وقت اللزوم، و لكنها اعتبرت أن هذا ثمن عادل و مقبول مقابل الاستقلال الذى تمتعت به طوال حياتها سواء على المستوى الشخصى أو المهنى.

 ملامح شخصيتها المتحفظة هذه كانت قد ورثتها عن والدتها مثلما ورثت ملامحها الجميلة و كانت صاحبتنا مبهورة بهذه السيدة صاحبة الخلطة المتوازنة ما بين (الحنان  والحزم) وما بين (بيتها و عملها).

مهدت صداقتهما وإعجابهما ببعض إلا أن يتبادلا الأدوار فى سلاسة فتعاملت الابنة مع أمها كأم لها خاصة فى السنوات الأخيرة وكان إحساسها بالمسئولية تجاه والدتها ورغبتها الصادقة فى إسعادها يمنحها شغفًا وحماسًا لممارسة الحياة فقد كان دعمها لأمها معنويًا و إنسانيًا بيضيف لها أكثر مما كان يضيف لوالدتها.

 فلما توفيت أمها بات القلب حزينًا مكسورًا و عانت الابنة بعدها فراغًا نفسيًا هائلًا.

وتتوالى الإشراقات الخمسينية

الأسبوع القادم