الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مــلك الإنشـــاد.. الشــــيخ محمــد عمـــــران

«الليل أقبل والوجود سكون، بالليل راحت تستريح جفون، وهناك أحلام الخيال توافدت، فترة، فتسبح فى الخيال عيون»، ابتهال يحفظه الجميع عن ظهر قلب للمنشد والمقرئ الشيخ محمد عمران، الذى حباه الله بصوتٍ عذبٍ عريض، فضلاً عن معرفته الواسعة بالمقامات والنغمات، فحفر اسمه بحروفٍ من نور فى جيل عمالقة المنشدين و«الصييّتة» وكذلك قراء القرآن الكريم، حتى إنه لُقِب بنسّاج المقامات الموسيقية، وملك الإنشاد، وظل صوته عالقًا فى قلوب مُحبى الابتهالات الدينية حتى وفاته عام 1994م.



وُلِد المنشد والمقرئ الشيخ محمد عمران فى الخامس عشر من أكتوبر عام 1944م بمدينة طهطا التابعة لمحافظة سوهاج، وفقد بصره بعد عامٍ واحدٍ من ولادته دون أسباب واضحة آنذاك، وكان ترتيبه الرابع بين أشقائه الخمسة، التحق بأحد الكتاتيب حتى أتمّ حفظ القرآن الكريم عند بلوغه التاسعة من عمره على يد الشيخ «عبدالرحيم المصرى»، وأعاد تسميعه وتجويده على يد الشيخ «محمود خبوط» بمركز طما ثم التحق بالثانوية الأزهرية.

ولعب القَدَر دورًا كبيرًا فى حياة «عمران»منذ صغره عندما انتقل الشيخ «سيد النقشبندى» للعيش فى مدينة طهطا ليكون جارًا له، فتعلق بصوته، وكان سببًا فى حبه للإنشاد الدينى، وعندما كان يغيب عن المنزل كانت جدته تقول بصوت عالٍ: «هتلاقوه موجود عند الشيخ النقشبندى».

وتنبأ «النقشبندى» بموهبة «عمران» فعلّمه وشجعه واصطحبه معه إلى ليالى الإنشاد، ونشأت تلك العلاقة بينهما كتلميذٍ وأستاذه، وبعد فترة من التعلُّم نصحه بالذهاب إلى القاهرة لكى ترى موهبته النور، وبالفعل سافر فى سن العاشرة إلى القاهرة وأقام فى حى مصر القديمة.

وشاء القدر للمرة الثانية أن يتعرف هناك على الحاج على نوفل، الذى تولى هو ووالدته رعايته، فيما كان جارهما الشيخ سيد موسى الكبير، أحد كبار مشايخ بطانة المنشدين، الذى احتضن «عمران» وعلّمه أصول القراءات والموشحات وعكف على تدريبه على فنون الإنشاد الدينى حتى ألحقه بمعهد المكفوفين للموسيقى العربية، وهناك تعلّم المقامات الموسيقية والموشحات الدينية.

ذاع صيته فى مصر القديمة من مسجد حسن الأنور، وكان عمره 13 عامًا آنذاك، وبعدها بدأ يقرأ فى المآتم، وقاده القدر للمرة الثالثة أن يعمل مؤذنًا فى مسجد شركة حلوان للمنسوجات، ثم يمارس الإنشاد الدينى بعد انتهاء عمله.

سَجَلَ العديد من الابتهالات الدينية، من أشهرها «أسماء الله الحسنى»، و«أدركنا يا الله»، ويمكنك سماعه يوميًا فى إنشاد «الليل أقبل والوجود سكون» أو فى مقدمة برنامج «بلاغة الرسول» أو فى برنامج «قطوف من حدائق الإيمان»، كما شارك فى العديد من البرامج والاحتفالات الدينية، بالإضافة إلى تسجيل الابتهالات الدينية لبعض الدول العربية.

ولم يكن «عمران» مُحبًا للسفر لدرجة أنه كان يرفض كل العروض التى تُعرض عليه فى الدول العربية والأوروبية، فقط كان يسافر فقط للسعودية لأداء فريضة الحج والعُمرة، والمرة الوحيدة التى وافق فيها على السفر كانت لإحياء 30 يومًا فى شهر رمضان بالمسجد الأقصى، لكن لم يتم ذلك لدواعٍ أمنية.

وكان يحب قراءة القرآن فى صعيد مصر باعتبار أن أهله «سميعة» مثلما كان يعتبرهم، وكانت سورة «مريم» أكثر السور المُحببة إلى قلبه، وكثيرًا ما كانت تُطلَب منه فى المآتم، والشى بالشىء يذكر فقد كان «عمران» القارئ الرسمى لجميع الفنانين فى مصر، فقرأ فى عزاء المطرب عبدالحليم حافظ، وفى ذكرى رحيله كان يقرأ فى منزله بالزمالك، كما قرأ فى عزاء الموسيقار محمد عبدالوهاب وبليغ حمدى ومحرم فؤاد، وغيرهم.

التقى «عمران» بالموسيقِىّ وعازف الكمان عبده داغر الذى علّمه العزف على الكمان والعود وكيفية قول المقام الموسيقى بأكثر من طريقة، فأنشد من ألحان محمد الموجى وسيد مكاوى وحلمى أمين، وعندما استمع إليه الموسيقار محمد عبدالوهاب، أعجب بموهبته وقرر أن يلحن له، وتم الاتفاق على عمل مشترك بينهما من تلحين عبدالوهاب، لكنه توفاه الله قبل اكتمال العمل بعد ما تم اختيار الأشعار.

كما كان شغوفًا بسماع جميع أنواع الموسيقى، ليس من مصر فقط، ولكن من جميع أصوات العالم، لدرجة أن مكتبته احتوت على 10 آلاف شريط كاسيت، وقبل وفاته كان معه جهاز كاسيت لم يكن موجودًا فى الإذاعة، اشتراه فى أواخر الثمانينيات بألف دولار من الخارج.

واللافت للنظر أن «عمران» كان زملكاويًا متعصبًا، وحصل على العضوية الفخرية لنادى الزمالك، كما كان مقرئًا للنادى،وخصصت له مجلة النادى صفحة بعد وفاته تكريمًا وتقديرًا له.

وفى السادس من أكتوبر عام 1994م، عاد الشيخ محمد عمران إلى منزله فى حالة إرهاق شديد بعد إحيائه الفجر بمسجد الحسين، وتم نقله إلى مستشفى المَبرّة وتُوفىّّ فى نفس اليوم، قبل أن يتم عامه الخمسين، وذلك بعد معاناة مع مرض الكبد قبل عامين من الوفاة، وحضر عزاءه وقرأ فيه كبار قرّاء مصر، وفى مقدمتهم الشيخ محمد محمود الطبلاوى والشيخ أحمد نعينع، وتم دفنه بالمدافن الموجودة بجوار مسجد عمرو بن العاص، تاركًا خلفه تراثًا من الإنشاد والابتهالات، جعلت اسمه محفورًا فى ذاكرة المنشدين الدينيين.