الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

تجــارة اســـمهـــا الســـعادة!

بحثُ البشر عن السعادة مستمرٌ، هى حلمُهم الذى يسعون إليه،  لكن هل السعادة فى المال أمْ فى الشّهرة أمْ فى النجاح؟! السعادة شعور إنسانى لا يمكن وصفه أو وضع تعريفات مُعلبة أو مكتوبة له؛ حيث يتمتع بالنسبية من شخص إلى آخر. جلس علماءُ هذا العصر ليدرسوه ويقيسوه، وحَوّلوه إلى مؤشرات وأرقام؛ بل جعلوه مثل السلعة التى يتم تصنيعها، وأخيرًا بيعها للحفاظ على استمرار الأرباح، ونحن مَن يدفع الثمَن.



هذا ما كشفه كتاب «صناعة السعادة: كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكبرى الرفاهية؟»، لمؤلفه ويليام ديفيز- وهو أستاذ الاجتماع والاقتصاد السياسى بكلية جولد سميث بلندن، وحقق شعبية على مستوَى العالم.

الكتابُ بدأ بالإشارة إلى كيفية اقتحام فكرة السعادة لقلعة إدارة الاقتصاد العالمى، وذلك منذ أن بدأ التحول فى اهتمامات المنتدَى الاقتصادى العالمى، الذى كان يهتم فى البداية بتدهور نمو الإنتاجية فى أوروبا، ثم أصبح شغله إزالة قيود السوق فى الثمانينيات.

لكن لماذا وكيف تحولت السعادة إلى سلعة، ولماذا ظهر علم اقتصاديات السعادة؟! يؤكد مؤلف الكتاب أن السبب هو أن مستقبل الرأسمالية، يتوقف على قدرتنا على التصدّى للضغوط النفسية والبؤس والمرض، ولذلك تنفق الشركات المليارات للحفاظ على صحتنا الجسدية والنفسية والمهنية.

 ولتحقيق هذا الهدف، ترصد الشركات أقل التقلبات التى تحدث لعقولنا ومشاعرنا وأدمغتنا وسلوكياتنا من خلال كتابة يومياتنا، وتطبيقات المحمول الذكية، ثم تقوم بمعالجتها والتنبؤ بردود أفعالنا حول أنماط الحياة والاستهلاك والتوظيف، وهو ما يدخل انفعالاتنا إلى حسابات البيزنس الواسعة وخدمة المصالح الاقتصادية.

ويوظف عدد كبير من الشركات الكبرى ما يُعرَف بـ «مديرى السعادة»، ويوجد داخل شركة جوجل «مُعلم تنمية روحانية» لنشر الاسترخاء العقلى والتعاطف.

ويشير الكاتبُ إلى أنه منذ أواخر القرن الـ 19، أصبح البشر بمثابة منتَج يتم رصده ومراقبته والتأثير عليه نفسيّا من قبَل المُعلنين ومسئولى الموارد البشرية وشركات الأدوية، وفى القرن الـ21 أصبحت السعادة قضية مُلحّة بشكل أكبر بعد التطور التكنولوجى الرهيب، إلى جانب معاناة يشعر بها الأفرادُ مع انتشار قيم مادية وتنافسية شديدة وانعدام الشعور بالأمان.

صاحبَ هذه الطبيعة المادية للحياة، ميل إلى ميكنة كل الوظائف وسيطرة التكنولوجيا على أماكن العمل، وأصبح بالإمكان أن نكون مرصودين إلكترونيّا كل لحظة من خلال وسائل التواصل الاجتماعى والتطبيقات المختلفة.

 لذلك نشأ عدم شعور رهيب بالسعادة، وقدرت مؤسّسة «جالوب» لاستطلاعات الرأى أن عدم إحساس الموظفين بالسعادة يكلف اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية نحو 500 مليار دولار سنويّا، بسبب تدنى الإنتاجية والإيرادات الضريبية، وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية.

 وفى عام 2014، اختبرت الخطوط الجوية البريطانية «بطانية سعادة» تصف مستوَى رضا المسافر عبر الرصد العصبى، إذ يتحول لون البطانية من أحمر إلى أزرق كلما استرخى الركاب أكثر، وهو ما يعطى مؤشرًا لطاقم الطيران بأن ما يقدمونه من رعاية مناسب.  

وتتوافر الآن فى الأسواق مجموعة من التقنيات لقياس وتحليل مستوى السعادة، بدءًا من ساعات المعصم إلى أجهزة المحمول الذكية إلى كوب ذكى يرصد ما تتناوله من سوائل من ناحية آثاره الصحية.

 وفى سبتمبر 2014، أطلق هاتف «آى فون» بتحديثين جوهريين، أولًا تطبيق «هيلث» الذى يراقب النشاط الجسدى والعَرَق والتعب، وكان الأكثر تحمسًا له أصحاب العمل، وشركات التأمين الصحى، ومقدمى الخدمات الصحية، والآخر يمكن استعماله فى السداد داخل المحلات التجارية؛ حيث يرغب الخبراءُ فى رصد عاداتنا فى التسوق. 

كلها تفاصيل قائمة طويلة من مقاييس لاختبارات السعادة طورتها الشركات، واستخدمتها للتنقيب فى أعماق مشاعرنا.

 ويفسر الكتابُ هذه الحالة التى وصل إليها العالمُ، بأن المستهلك أصبح هو مَن يحدد سعر ما يباع فى الأسواق، لذلك فمشاعرنا وقرارات العقل وصعودها وهبوطها، هى ما يتم تسجيله بدقة فى قوائم الأسعار فى الأسواق. 

 فمثلًا يتحمل الأفرادُ مشاقَ العمل لجنى مزيد من النقود؛ لإنفاقها على التجارب الممتعة، وعندما أجرى الاقتصاديون دراسات على الرفاهية طوّروا ما يُعرف بعدّاد المتعة،  من خلال الربط  بين اللذة النفسية والنقود مع مقارنة الرفاهية لدَى أصحاب الدخول المختلفة، وبَعدها دراسة العلاقة بين الرفاهية وسلع مثل: السلامة والهواء النظيف والصحة، وهو ما يمكن من خلاله تسعير أى شىء.

ولأن الانفعالات هى ما يقود إلى الاستهلاك، فتحديد الصور أو الأصوات أو الروائح التى تسبب تعلقًا عاطفيّا للبشر بعلامات تجارية مُعينة، هو ما قد يجعل العلماءَ فى يوم ما على وشك اكتشاف «زر الشراء» داخل الدماغ، وهى المنطقة التى تدفعنا لوضع سلعة ما داخل سلة مشترياتنا.

ويشير الكاتبُ إلى أن هناك دراسة كشفت أن الخوفَ هو ما يدفع الناسَ إلى شراء منتجات العلامات التجارية الكبرى، وأن أغلب ما نحسّ به من لذة فى الشراء يحدث أثناء ترقب الاستلام، لذلك تنصح الشركات بتحسين ممارسات البيع، كما بينت الدراسات أن الألمَ النفسى الناتج عن إنفاق المستهلكين النقود باستخدام بطاقة ائتمانية أقل من أن يدفعوا نَقدًا.

ولذلك لم تترك دراسات السعادة لدى الشركات الكبرى حول العالم شيئًا للصدفة فى عاداتنا فى التسوق؛ حيث تركز الشركات على فكرة واحدة، وهى حرية الاستهلاك، لكن من دون إشباع كامل لرغباتنا، وإلا سيتوقف النهم للشراء.

ولفت الكاتبُ إلى أن مرض الاكتئاب الذى يصيب ثلث البشر فى مرحلة من حياتهم، ونسبة 8 % من الراشدين الأمريكيين والأوروبيين، يرتبط بشكل وثيق بزيادة أرباح شركات الأدوية الكبرى والمصالح المالية لها؛ حيث إن صناعة الدواء مسئولة عن نصف ميزانية الجمعية الأمريكية للطب النفسى البالغة 50 مليون دولار.

لكن الشركات الكبرى حول العالم تؤمن بأنه لا مكان للاكتئاب فى الاقتصاد ولا محل له فى السوق، لذلك طوروا قدراتهم على دعم الحماس داخل مَقر العمل، والرغبة داخل مركز التسوق.

حيث إن تخليص البشر من الاكتئاب أصبح أمرًا حتميّا لاستمرار أرباحها.   

ولذلك فإن مؤسّسة «جالوب» استطلعت آراء ألف شاب أمريكى بشأن إحساسهم بالسعادة أو الرفاهية يوميّا، وفى جامعة «بيتسبرج» الأمريكية درس مجموعة من علماء النفس حجم السعادة فى تغريدات تويتر، من خلال قاعدة بيانات ضمت 5 آلاف كلمة، ومنحوا كل كلمة قيمة سعادة على مقياس من واحد إلى تسعة.

واستطلعوا اتجاهات السعادة أيضًا من خلال تحليل 50 مليون تغريدة يوميّا، ونتيجة لذلك نشأت «خرائط السعادة» على خلفية هذه البيانات، وأصبح الباحثون يعرفون الآن أن يوم الثلاثاء هو أقل أيام الأسبوع سعادة، بينما يوم السبت هو الأسعد.