الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكايـــة 5000 أغنيــة.. لــم يُكـــرم صـاحبـــها

كان غاية ما تمناه أن يظل اسمه يتردد فى القلوب والأذهان مع كل كلمة من كلمات أغانيه التى ملأت بيوتنا المصرية بالدفء والبهجة ولا تزال حتى الآن رغم رحيله منذ أكثر من أربعين عاما وتحديدا فى  أغسطس 1977.



 

هو صاحب الأغانى الرسمية الأشهر للنجاح..حين كتب «وحياة قلبى وأفراحه» لعبدالحليم حافظ و«ألو ألو احنا هنا» لشادية وفاتن حمامة، وللزفاف أغنية «دقوا المزاهر» لفريد الأطرش وللسبوع «حلقاتك برجلاتك» لشادية حتى المشاكسات بين الأحبة فى «يا سلام على حبى وحبك» لفريد الأطرش وشادية وفى السفر والرحلات نجد حلاوة كلماته فى «الأقصر بلدنا بلد سواح»، و«حتشبسوت» التى تغنت بها فرقة رضا، و«عايزين ناكل هم هم»  التى تغنت بها نفس الفرقة فى فيلم إجازة نص السنة، إنه الشاعر الكبير المتفرد فتحى قورة. 

شاء القدر أن أقرأ تعليقا مكتوبا كله فخر واعتزاز من فتاة جميلة اسمها ميرنا تتحدث فيه عن جدّها وكيف أحبته وهى لم تره يوما..فقط أشعاره حدثتها عنه وكلمات أغانيه كانت سببا فى ارتباطها الروحى به.

من هنا كانت بداية بحثنا عن رحلة الشاعر الغنائى صاحب الإنتاج الغزيرمن الأغانى تجاوز خمسة آلاف أغنية.

 

 

 

 سؤال بلا إجابة 

فى أروقة صباح الخير، زارتنا همت قورة الابنة الثانية للشاعر الراحل، وبدأت حديثها بسؤال بلا إجابة هو «لماذا يتم تكريم أقرانه والاحتفاء بهم إلاّ فتحى قورة؟» 

تصف لنا همت شعورها هى وأخواتها الخمس الأخريات بالخذلان من تجاهل- ربما كان عن عمد أو ربما دون قصد - لتاريخ فتحى قورة وبصماته فى عالم الأغانى على عكس رفقائه أمثال حسين السيد ومرسى جميل عزيز ومحمد حمزة، فهى ترى أن والدها صاحب موهبة عبقرية لم تتكرر تفجرت وعمره تسع سنوات عندما كان فى المرحلة الابتدائية بمحافظته الشرقية حيث كانت لديه القدرة على كتابة الشعر والزجل وعلى الرغم من عدم إتمامه تعليمه، إلا أنه استطاع تثقيف نفسه بنفسه وامتلك سلاسة فى اللغة وقدرة على تنظيم الكلمات.

وتستطرد: دفعه طموحه للسفر للقاهرة بعدما حصل فقط على الشهادة الإعدادية لتكون وجهته الأولى كعادة جميع الفنانين السيدة بديعة مصابنى، ولأنه كان فى بداياته ولم يكن ذا شهرة كافية كانت تقدم أغانيه بأسماء شعراء آخرين منها مثلا أغنية تغنى بها عبدالوهاب وأخرى لليلى مراد وليس صحيحا ما أشيع أنه تنازل بإرادته عن عدد من أغانيه فى أواخر أيامه نظير مبلغ مالى لمروره بضائقة مالية أو أنه اعتزل التأليف،على العكس ظل ممسكا بقلمه يكتب ويكتب حتى لحظاته الأخيرة ولم يعيقه مرضه وفقدانه البصر لأكثر من 15 عشر عاما عن غزارة الإنتاج، وأذكر هنا اتصالا هاتفيا بينه وبين المخرج الراحل حسن رمزى يعاتب والدى معتقدا توقفه عن الكتابة فرد عليه قائلا «أنا لا اعتزلت ولا حاجة أنا مش عارف ليه مافيش حد بيتصل بيا». وتعاونا بالفعل بعد ذلك فى عدة أفلام منها «العاطفة والجسد» بطولة نجلاء فتحى.

بين شادية وعبدالحليم 

اشتهر عن الشاعر فتحى قورة خفة ظله وأسلوبه الساخرالشديد الذى ربما كان سببا فى ابتعاد الكثيرين عنه وسببا فى قلة ظهوره الإعلامى فلم تتم استضافته سوى مرتين فى الإذاعة إحداها مع الراحل وجدى الحكيم وهنا توضح ابنته أنه كان من الصراحة فى قول رأيه للدرجة التى يمكن أن يخشى مقدمو البرامج من استضافته حتى لا يسبب لهم حرجا وفى المقابل كان يرفض أن يملى عليه أحد ماذا يقول لكن ذلك لم يشغله كثيرا فقد كانت كتابة الأغانى هى كل حياته يعتكف فى مكتبه بالساعات ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منه أو التحدث معه وإذا حدث فلن يسمع له،.كانت له القدرة على الانتهاء من ست أو سبع أغان فى اليوم الواحد وكان شديد الولاء لكلماته حتى إنه رفض للفنانة شادية طلبها بتغيير بعض كلمات أغانى فيلمها «التلميذة» وقال لها «أنت ممكن تغيرى المخرج لو عايزة لكن ماتغيريش كلمة أنا كاتبها»...وربما كانت المرة الوحيدة الذى حدث وعدَل فيها إحدى كلماته كانت لعبدالحليم حافظ فى أغنية وحياة قلبى وأفراحه، حيث استبدل كلمة فرح وهدايا بفرح وزهور حيث مازحه عبدالحليم قائلا «أنا بيجيلى هدايا كتير خليها زهور أحسن».

تتذكر همت كيف أثرت فى نفسها زيارات كل من عبدالحليم وفريد الأطرش وشادية وكارم محمود وعبدالعزيز محمود وماهر العطار وفريد شوقى, هدى سلطان، منير مراد وغيرهم الكثيرين لمنزلهم فى المناسبات المختلفة وتذكر كيف كان والدها شديد الاعتزاز بساعة يد أهداها له المخرج عز الدين ذو الفقار.

 مهمة فى بيروت 

تكمل همت قورة، كان شديد الحنان والخوف علينا أذكر أن المخرج حسن رمزى طلب منه أن نظهر أنا وأخوتى فى أحد مشاهد فيلمه «عمر الخيام» لكنه رفض وقلق من فكرة دخولنا فى هذا المجال، وحين كانت تصادفنا فى المدرسة بعض المشاكل كانت ناظرة المدرسة والمدرسات يقلقن من رد فعل والدى لأنه لن يترك لنا حقا أبدا.

عندما تزوجت أختى وسافرت مع زوجها إلى لبنان وقامت الحرب الأهلية وانقطعت أخبارها أصر على السفر واستعادتها لمصر على الرغم من مرضه وضعف بصره فى تلك الفترة.

كان يحكى لنا بعضا من المواقف اللطيفة التى تعرَض لها فأغنية شادية «حبينا بعضنا» تعثر فى كتابتها وقرر مقابلة مخرج الفيلم فى كازينو الأوبرا ليبلغه بذلك ووجده هناك مشغولا بالحديث مع شخص ما وطلب منه الانتظار قليلا وعندما انتهى سأله عما يريد فأجابه لا شىء سوى إعطائه الأغنية التى سهر طوال الليل فى كتابتها وحقيقة الأمر أنه استطاع الانتهاء منها أثناء انتظاره فى الكازينو.

والدى كان دائم التشجيع لنا وحين تعثرنا أنا واثنتين من إخوتى فى الثانوية العامة فى نفس السنة كتب لنا خصيصا أغنية «من الثانوية للكلية» التى تغنت بها ليلى نظمى.

ويتدفق حديث الذكريات، تقول همت قورة : كان بارا جدا بعائلته على الرغم من مقاطعتهم له فى بداياته رفضا لدخوله مجال الفن حتى إن أخاه الأكبر أغمى عليه غضبا حين سمع اسم أبى لأول مرة فى الإذاعة لكن بعد نجاحه وإثباته لموهبته استحق احترامهم وفخرهم به، وكان تجمع العائلة فى منزلنا كل يوم جمعة طقسا ثابتا لم يتغير حتى رحيله.

كنا بالنسبة له إمبراطورية «إلهاء» فنحن ستة من البنات، هند، همت، هدى، هويدا، هالة، وهيام، ولتسميتنا بالهاء قصة لطيفة حيث تعثرت أمى فى ولادة أختى الكبيرة فكانت تخرج الممرضة لوالدى تطمئنه قائلة «هانت» من هنا استشعر جمال حرف الهاء ووقعه الجميل على الأذن وكانت البداية بهند.

 

فتحى قورة فى سنواته الأخيرة
فتحى قورة فى سنواته الأخيرة

 

فقد البصر ولم يفقد الوحى

بعد فقدانه البصر لم تكن حالته النفسية جيدة وكان يملى عليَ أحيانا كلمات الأغانى لكتابتها وأندهش لقدرته على تمليتها دفعة واحدة وكأن الوحى يمليه هو الآخر.

كان عاشقا لمصر سكنت روحه وقلبه وتفاعل بقلمه مع ما مرت به أثناء ثورة يوليو 52 أو انتصار أكتوبر 73 فكتب «ضربة معلم»، «تسلم إيده» لشادية، و«إيد لوحدها ما تصقفش»لشريفة فاضل.

كان يحب للشاعر كامل الشناوى أغنيته «عدت يا يوم مولدى» لفريد الأطرش كما تأثر بكلمات مرسى جميل عزيز  «فى يوم فى شهر فى سنة»لعبدالحليم حافظ.

كان يطرب لصوت عبدالوهاب والسيدة أم كلثوم ولا يغادره ليلا أبدا راديو ترانزستور صغير يضعه على وسادته أثناء النوم للاستماع إلى القرآن الكريم.

كان والدى على علاقة وطيدة بعدد كبير من الممثلين والمطربين أو الملحنين أمثال فؤاد المهندس وفريد شوقى وصباح ومها صبرى وكون ثنائيات رائعة مع كل من منير مراد ومحمود الشريف إلا أن أبرز صداقاته كانت مع الفنان أنور وجدى حيث جمع بينهما الحس الفكاهى والأسلوب الساخرلكل ما حولهما وتعمقت بينهما الصداقة أكثر عندما لجأ والدى إليه ومعه الطفلة المعجزة فيروز لينتج لها فيلما بعد أن توجه بها للمنتجة آسيا ورفضت الإنتاج لها فجاء ترحيب وجدى بمثابة توافق الفكر بينهما فكانت سلسلة أفلام «ياسمين»، «دهب»، و«فيروز هانم» باستعراضاتها الغنائية الخالدة التى صاغها فتحى قورة.

 لم يحضر والدى جنازة أو عزاء شخص قط سوى عزاء أنور وجدى ولم يتغاضى عن موقف أغضبه من أحد سوى ما بدر فى حقه من أنور وجدى عندما نزل تتر فيلم «ياسمين» ولم يكتب اسمه باعتباره مؤلف أغنية «معانا ريال» ونسبت جميع أغانى الفيلم لأبوالسعود الإبيارى وعندما غضب قورة أراد أنور وجدى أن يصالحه فجعل السفرجى يتصل به ويخبره أنه على فراش المرض ويريد رؤيته لأمر ضرورى وبالفعل أسرع والدى إليه وأغلق عليه السفرجى باب الغرفة لحين عودة وجدى من الخارج ليمتص غضبه قليلا وبالفعل عادت المياه لمجاريها والعجيب أنه لم يتم تعديل التتر ربما لصعوبة ذلك من الناحية التقنية. 

من المقربين أيضا لوالدى وكثيرا ما لجأ إليهم ولم يخذلوه الكاتب الكبير يوسف السباعى ووزير الإعلام والثقافة الأسبق عبدالقادر حاتم وفى محنته الأخيرة كان لعبدالوهاب وأم كلثوم فضل كبير فى علاجه مرتين على نفقة الدولة.

ليه يا حليم؟

بعد لحظات من الصمت تكمل الابنة همت حديثها وملامح الحزن على وجهها وهى تتذكر كيف شعر والدها بالغصة والأسى عندما علق بالسلب على أغنية «زى الهوا» لمحمد حمزة فى البرنامج الإذاعى» منتهى الصراحة» فجاء رد عبدالحليم عليه عنيفا وبمنتهى القسوة قائلا «أصل أنا بطلت أتعامل مع فتحى قورة واتجهت لمؤلفين آخرين».

شعر والدى وقتها بنكران الجميل حيث كانت أولى أغانى عبدالحليم وهو مازال مغمورا لم ينل من الشهرة شىء من تأليفه بعنوان «ليه تحسب الأيام» مرورا بأغانى كثيرة بعدها مثل «بكرة وبعده»، «وحياة قلبى وأفراحه» بل يعتبر من جعل عبدالحليم يغنى لونا مختلفا بغنائه «يا سيدى أمرك» وهى مزج بين الموشحات الأندلسية مع اللغة العربية الفصحى والعامية.

 

 

 

ابن الوز مش عوّام

لم ترث واحدة من بنات فتحى قورة موهبة والدها ولم يمهله العمر أن ينميها فى أحفاده فقد رحل فى سن الخامسة والخامسين مخلّفا إرثا ضخما من حوالى 5000 آلاف أغنية منها حوالى 2000 فى الأفلام السنيمائية بالإضافة للصور الغنائية الإذاعية والمسرحيات والاسكتشات الاستعراضية مثل «حماتى قنبلة ذرية» لإسماعيل ياسين وتحية كاريوكا ومونولوجات محمود شكوكو. ومع ذلك اتجهت حفيدته مريم تامر للتمثيل وهى فى عمر 6 سنوات فى فيلم «المعدية» بطولة درة وفيلم «قدرات غير عادية» لداود عبدالسيد ومسلسل «مريم» لهيفاء وهبى.

وبنفس حس والدها المرهف وهو يكتب كلمات أغنيته البديعة أمانة يا ليل يا ليل طول وهات العمر م الأول التى تغنى بها كارم محمود تتمنى ابنته همت أن يمهلها العمر الوقت لتعرف السر وراء اتصال الكاتب الكبير نجيب محفوظ راغبا فى محادثة والدها بعد رحيله بعام...كيف لم يعرف بوفاته ؟ وماذا كان يريد منه؟

كما تتمنى أيضا أن تعرف مصير آخر أغنيتين كتبهما فتحى قورة وتم إعطاؤهما للفنانة شادية قبل اعتزالها ولم يتم إنتاجهما.

 نهاية الرحلة

تحكى همت عن معاناة والدها الشاعر الراحل فتحى قورة من أمراض القلب وتصلب الشرايين بالإضافة لانفصال فى شبكية العين وقبل رحيله فى صمت وهدوء شديدين طُلب منه تحضير أغانٍ 30 حلقة للإذاعة تقوم فكرتها على إعادة صياغة أغانى موجودة بالفعل لكن بشكل فكاهى مرح على أن يقوم بالغناء فى كل حلقة ممثل لا علاقة له بالغناء مثل فريد شوقى وعبدالمنعم مدبولى، ومع كتابة آخر كلمات الحلقة الثلاثين أسند رأسه للأمام وهو جالس وفاضت روحه لبارئها وكان معه أختى وزوجها.ولم يمهله العمر من إتمام اتفاقه مع فؤاد المهندس وشويكار لكتابة فوازير لهما للإذاعة.وتضيف أنه لم يشهد جنازته أحدا من الأصدقاء أو الزملاء سوى الفنانة لبلبة التى كانت مقربة جدا لنا ودائما ما أخلص لها والدى النصيحة وكانت تعمل بها، غاب كذلك عن عزائه أى مسئول من جهات الثقافة والفنون فى الدولة.

همت قورة فى مجلة صباح الخير
همت قورة فى مجلة صباح الخير

 

وبمقارنة لطيفة أرادت الابنة همت قورة لفت نظرنا لأبسط طرق التقدير التى لم ينلها والدها حينما علقت على صور بعض الشخصيات التى تزين جدران مجلة صباح الخير فى حين تفتقد هى وجود صورة والدها على جدران جمعية المؤلفين المغطاة بصور أقرانه وزملائه. وتأمل أن يكون هناك إعادة تصور لحقوق الأداء العلنى الزهيدة التى تعود على أسر المؤلفين والملحنين عموما.وتعبر عن حزن أسرتها لغياب اسم والدها عن أى تكريم فى أى محفل أو مهرجان أو أى جهة نشطة فى مجال السينما والفنون كالمركز الكاثوليكى.