الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
التفكير والتكفير اختلاف الأولويات

التفكير والتكفير اختلاف الأولويات

عجبًا للغتنا العربية التى منحت خصمين متضادين لا يعترف أحدهما بالآخر نفس الأحرف. وكأنها من سخريات القدر فى حياتنا أن يكون التفكير والتكفير من نفس الأبواب الحَرفية مع اختلاف شاسع فى المعنى. فما بين فعل يعتمد على العقل- تلك الأمانة التى حملها الإنسان وأبت السموات والأرض أن يحملنها- الساعى للفهم والمعرفة والتغيير والنهوض بحياتنا والسمو بها وقبول الآخر، وبين فعل يرفض الآخر من مبتداه ويرى فيه خصمًا ناقص الكفاءة والتديُّن والقرب من الله، ما بين هذين الشتيتين من الأفعال تتبدى أزمتنا فى عالمنا العربى بين ساعين لنور المعرفة ومجاهدين فى ظلمة الدم، وتائهين بين كليهما. 



أزمة التكفير بدأت منذ مئات السنين دون أن يكون لها علاقة بدين وإن استخدم فيها ببراعة؛ ليكون الاعتراض على الشائع كفرًا، والجدال حرامًا، والنقد مكروهًا، والاتباع محمودًا، والعنعنة دليلًا، وطاعة أولى الأمر-أيّا كانوا- فرضًا. وهكذا كان مقتل «هيباثيا» أهم عالمة فلك ورياضيات فى القرن الثالث الميلادى بالإسكندرية من قِبَل مسيحيين لأنها لم تؤمن مثلهم فوصفوها بالهرطقة، وقتلوها دون سماع دفاعها، جروها فى شوارع المدينة الحجرية حتى سالت الدماء من كل أنحاء جسدها. ليصمت صوت العقل لسنين حتى مجىء الإسلام ليُعلى من شأن التدبر والتفكر ورُغم هذا كان التكفير مُلاصقًا لمَن أبدع فى استعماله وإعمال عقله كما قال الله. حدث هذا مع «ابن سينا والرازى والخوارزمى والبيرونى وابن الهيثم والسهروردى والكندى والفارابى والغزالى وابن رشد» وغيرهم كثيرين، تعرّضوا لدواعش زمانهم. يكفى أن أنقل لكم ما قاله «ابن القيم» عن العالم والطبيب والفقيه والفيلسوف «ابن سينا» فى «إغاثة اللهفان» من أنه «إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر». وما قاله عنه «الكشميرى» فى «فيض البارى» من أنه -ابن سيناء- «الملحد الزنديق القرمطى». وما قاله عنه الشيخ «صالح الفوزان» بأنه «فيلسوف ملحد»! واسمعوا وصف ابن القيم للطبيب والعالم والفيلسوف أبو بكر الرازى من أنه «ضال مضلل»! كما مورس التكفير باسم الهرطقة ضد «جاليليو وكوبرنيكوس ونيوتن وفولتير وديكارت» وطاردوهم وأحرقوا كتبهم ونكلوا بهم. ولم تنجُ أوروبا إلا حينما قررت فصل الدين عن السياسة، وإبعاد سيطرة كهنة المَعبد عن السياسة. ولكننا لم ننجُ حتى اليوم. لم تكن المشكلة فى الإسلام؛ بل كانت فى استخدام الإسلام، كما لم تكن المشكلة فى المسيحية؛ بل فى استخدام المسيحية. 

يبقى السؤال: لماذا يمارس فعل التكفير عنفه ويسعى لفرض سيطرته على فعل التفكير؟

الإجابة بسيطة يا سادة.. فما أجهل صاحب التكفير وما أزيف حججه وما أسهل كشفها  بمنطق صاحب العقل. يُعرى صاحب الفكر صاحب السيف بكلماته وهو جالس فى مكانه دون أن يريق دمه. بينما الآخر باع عقله لغيره وتبعه دون مناقشة، صار حالمًا بأوهام التدين والقرب من الله كالغائب فى آثار إدمانه. ولذا كان شرط الانضمام لأى جماعة عهد الطاعة العمياء، أن تترك عقلك على أبوابها مع نعليك.