الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

إبحار فى ذاكرة قلب

لماذا نحب أم كلثوم وعبدالوهاب؟

كوكب الشرق، وموسيقار الأجيال.. تلك هى الألقاب الذهبية التى أطلقها عشاق فنهما على «أم كلثوم»، و«عبدالوهاب»، فهما الأشهر فى عالم الفن، وأبرز اسمين فى سماء الغناء العربى. 



تستطيع أن تضبط ساعتك فى الظهيرة على صوت عبدالوهاب، إذ يصدح من إذاعة الأغانى فى الواحدة ظهرًا، أما «كوكب الشرق» وحدها فهى تُشرق دون اعتبار لفروق التوقيت، تفاجئك فى أى وقت من نهار أو ليل يصدح كروان صوتها بلا موعد.

لأن الأذن تعشق قبل القلب فقد عشقنا ألحان عبدالوهاب وغناءه وأدهشتنا أم كلثوم ويبقى السؤال ماثلاً على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان: لماذا نحبهم كل هذا الحب ؟، لماذا يسكنان القلوب؟ 

فيكتب كمال النجمى عن عبدالوهاب أنه مطرب المائة عام، وتتوج أم كلثوم الكروانة بلقب مطربة القرن.

كلاهما غنى للناس وللوطن أعذب القصائد، فجعلا الشعر العربى يجرى على ألسنة البسطاء، وتعتز به ذائقة رجل الشارع، ليس هناك مقهى فى مصر لا يصدح فيه لحن عبدالوهاب وصوته، أو أغنيات أم كلثوم، نسمعها فنطرب، من سكون الأوصال وهى تجيد. صوتها المُطعم بألحان القصبجى، وزكريا أحمد، والشيخ أبو العلا محمد، والدكتور أحمد صبرى النجريدى، وداود حسنى وعبده الحامولى حمل صوت الأصالة والعراقة، وصوتها المُطعم بألحان عبدالوهاب، ورياض السنباطى، ومحمد الموجى، وبليغ حمدى، وسيد مكاوى حمل إلى مستمعيها أصوات الحداثة فاجتمع فى صوتها القديم والحديث معا فى ضفيرة ذهبية كل حلقاتها نغم.

ثلاثمائة أغنية

ارتبط صوتها بالشعر، فهى مطربة القصائد فغنت لأمير الشعراء أحمد شوقى تسع قصائد منها: «سلوا قلبى»، و«نهج البردة»، و«ولد الهدى»، و«مصر والسودان»، و«النيل» و«إلى عرفات الله»، و«سلوا كئوس الطلا».

وصف صوتها رياض السنباطى بعد أن لَحَّن لها قصيدة النيل لتغنيها: «إن لحن قصيدة النيل نعمة – أنعم الله بها عليّ، ولكن أين كان مكانها لو لم يقيض لها صوت أم كلثوم يؤديها؟».

بل إن قصيدة واحدة من شعر أبى فراس الحمدانى غنتها أم كلثوم بأكثر من لحن، فقد كانت قصيدة «أراك عصى الدمع» بكلماتها العِذاب، أيقونة الحب.

القصيدة الفاتنة التى عاشت فى وجداننا من عصر أبى فراس الحمدانى حتى الآن، وغنتها أم كلثوم من مقام كرد عام 1964، والقصيدة نفسها لحنها عبده الحامولى خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وكذلك لحنها زكريا أحمد ثم لحنها السنباطى ليقدم لنا واحدة من أجمل القصائد فى تاريخ الغناء العربى.

 أما طه حسين فقد وصف أم كلثوم فقال: «إن أم كلثوم بصوتها النادر فى امتيازه، سواء فى الجمال أو فى سلامة نطق اللغة العربية – ساهمت عندما غنت القصيدة – فى إثبات جمال اللغة، وطواعية موسيقاها حتى فى أصعب الكلمات لموسيقى الغناء، وكان لصوتها فضل انتشار الشعر العربى على ألسنة العامة والخاصة». 

ووصفها د. مصطفى محمود فقال: «كل أرض لا يتردد فيها صوت أم كلثوم ليلة حفلها، معناه أنك خرجت عن حدود الوطن العربى، أم كلثوم أجمل وأوضح خريطة مسموعة، تبين الحدود المترامية للوطن العربى، إنها أقوى الأدلة على أن الوطن العربى يعيش فوق أرضه شعب واحد، له عقل واحد، قلب واحد، وجدان واحد، وذوق واحد» 

أما الرئيس الفرنسى شارل ديجول فقد أرسل لها برقية تهنئة عندما ذهبت لتغنى فى باريس على مسرح أوليمبيا الشهير عام 1967 إذا أسهم صوتها الجميل فى دعم المجهود الحربى وقد أحيت الحفل بمبلغ يفوق أجر «أديث بياف» مطربة فرنسا الأولى، وعقب انتهاء الحفل كتب إليها شارل ديجول برقية تهنئة يقول فيها: «مرحبًا بك فى فرنسا، حققت نجاحًا عظيمًا، وأنت تقدمين فنًا راقيًا، وتقاليد فنية لها أصول وجذور فى التاريخ، ونحن نرحب بك فى بلدنا.  كما احتفلت بها كبرى المجلات والصحف الفرنسية حتى أن جريدة «اللوموند» قالت فى عنوانها «عندما تغنى إلهة الفن المصرى أم كلثوم، تهتز الرءوس من شدة النشوة، كما تهتز أغضان النخيل على النيل، وأصافت «حققت للمسرح أكبر دخل فى تاريخه الطويل»، كما يقول أحمد مدحت زايد فى كتابه «قطوف من حدائق النغم - مع أم كلثوم وعبدالوهاب». ويستطرد فيقول: «وذكرت صحيفة اللوموند أن ملكة الغناء العربى قد استطاعت أن تسيطر على قاعة «الأوليمبيا»، وتضع جمهورها تحت سحرها لمدة أربع ساعات كاملة، جاذبيتها كامنة فى صوتها الملاطق القوى الحنون، النقى كحبات الكريستال، إنها لا تجذب وتسحر رواد المسرح والمستمعين وإنما تسحر كل فرد على حدة. 

كمال النضج

وقد ارتبط صوت أم كلثوم بالأغنيات العاطفية واصفة أحوال الحب بكلمات شعراء عصرها فغنت لأحمد شفيق كامل «أنت عمرى»، و«ليلة حب» و«أمل حياتى» و«الحب كله»، فيما عُرف بلقاء السحاب وهو الذى أسمعنا صوت أم كلثوم بألحان عبدالوهاب، وبكلمات أحمد شفيق كامل. 

كما غنت لأحمد رامى العديد من الأغنيات.

وأنشدت قصائد وطنية تبدو كالآلئ فى مسيرتها الفنية فغنت «على باب مصر» من شعر كامل الشناوى، و«مصر تتحدث عن نفسها» لحافظ إبراهيم، وقصة السد من شعر عزيز أباظة، و«صوت الوطن» لأحمد رامى، و«النيل» لأحمد شوقى، و«يا جمال يا مثال الوطنية» لمحمود بيرم التونسى، و«منصورة يا ثورة أحرار»، و«ثوار»، و«طوف وشوف» لعبدالفتاح مصطفى، و«قوم بإيمان لعبدالوهاب محمد» 

 كما شدت أيضا بقصائد دينية منها «نهج البردة»، و«ولد الهدى» لأحمد شوقى، و«حديث الروح» لمحمد إقبال، و«عرفت الهوى» لطاهر أبى فاشا..

وكان صوتها الذهبى عبقرية مصرية عبرت عن جموع الناس ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى بأسره، وتجاوب صوتها مع قصائد الشعراء العرب فمنحتنا أجمع إبداعات الشاعر اللبنانى «جورج جرداق» «هذه ليلتى»، والشاعر السودانى الهادى آدم «أغدا ألقاك».

وبهذه المسيرة الغنائية الرائعة أمتعتنا أم كلثوم بفنها الرائع، وصوتها الوطنى الذى جعلها صنو أحداث ثورة يوليو 1952، خاصة فى أغنياتها الوطنية العديدة التى ارتبطت بالمد الثورى وبقصائد صلاح جاهين مثل «والله زمان يا سلاحى»، و«محلاك يا مصرى» فعبرت عن الوجدان المصرى والعربى، وبقى تراثها الخالد عبر العصور نتوارثه ونزهو به ونتمتع به فصوتها نعمة من نعم الله كما وصفه رياض السنباطى. 

حديث الطرب

أما موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب «1902-1991» فقد أسهم فى تشكيل الوجدان المصرى والعربى الذى انطلق يجدد ألحانه عبر مراحل فنية مختلفة، ويصفه كمال النجمى فيقول: «فى العشرينيات والثلاثينيات الأولى، كانت حنجرة عبدالوهاب تتألق من أجمل وأكمل الأوتار الغنائية فقد كان صوتًا جديدًا تمامًا بالنسبة لأصوات ذلك الزمان كأنه شعاع انبعث من نجم بعيد مجهول».

أما أحمد زكى باشا فيقول: أن الآية التى جاء بها أحمد شوقى للشرق والفن هو عبدالوهاب، وكتب يصف إحدى حفلات عبدالوهاب وألحانه فيقول: «هل أتاكم حديث آلات الطرب،إن الأوتار المشدودة والمعادن المطروقة والمسبوكة والمصبوبة، والعيدان المنشورة والمربوطة والمشقوقة كانت كلها فى اتساق واتزان، وفى تناسب وتجانس وهندام».

ثم يصف جمهور عبدالوهاب فيقول: كانت الأبصار شاخصة، والقلوب راجفة، والألسن منعقدة، والرءوس مطرقة، وكان ذلك السكون التام، وكل ذلك السكون العميق فكأن الطير على الرءوس، فلم تكن تسمع للقوم ركزًا ولا همسًا، ولا تكاد تصدق أن فيها حركة أو حسًا إلى أن انتهى التلحين الحزين. 

ومن العجب أن إنسانًا واحدًا لم يسمح لنفسه بالتصفيق كما ذكر عبدالمنعم شمس فى كتابه شخصيات فى حياة عبدالوهاب.

كلنا نحب القمر 

جدد عبدالوهاب فى ألحانه، واختار أعذب الكلمات لما تميز به من حس شعرى مرهف فكانت بعض أغنياته لا تتجاوز البيتين لكنها كانت تأسر القلوب، وبعضها صار يشبه الأمثال معبرًا عن واقع القلوب وحقيقة المشاعر فاستمع إليه وهو يغنى بصوت مُقطر من الندى والورد متغزلاً: «كلنا نحب القمر / والقمر بيحب مين حظنا منه النظر / والنظر راح يرضى مين؟»

وقد صال صوت عبدالوهاب وجال فى حدائق الغناء فغنى الموال وهو من أحب ألوان الغناء إليه فاستطاع أن يجمع بين استعراض الصوت بالغناء المرسل، ومتعة اللحن المكتوب فكان هذا المزيج السامى من الغناء الرفيع، ومن أشهر مواويله «أمانة يا ليل» و«كل اللى حب اتنصف»، و«اللى انكتب ع الجبين»، و«شجانى نوحك»، و«فى البحر لم فُتّكم» وغيرها. 

وقد أدخل عبدالوهاب الآلات الغربية على التخت الموسيقى مثل الفلوت فى «الليل لما خلى»، وآلات الإيقاع الغربية مثل المثلث والكاستانيت فى «جفنه علم الغزل»، والماندولين فى مقدمة أغنية «كان أجمل يوم»، والجيتار فى «إنسى الدنيا»، والأبوا فى «أوبريت مجنون ليلى» وقصيدة «سجى الليل» و«الأوكورديون» فى قصيدة «سهرت منه الليالى»، وآلة البلايكا «تشبه الماندولين» فى مقدمة «عاشق الروح»، كما استخدم الإيقاعات الغربية مثل «الرومبا» فى «جفنه علم الغزل، ويا ناسية وعدى». 

كما استخدم «التانجو» فى مقطع من مونولوج «مريت على بيت الحبايب»، وقصيدة «سهرت منه الليالى» والكوكارتشا وهو إيقاع راقص من أمريكا اللاتينية واستخدمه عبدالوهاب فى الجملة الغنائية «هل ترى يا ليل أحظى» من قصيدة «عندما يأتى المساء» من شعر محمود أبو الوفا. 

ومن القوالب اللحنية التى أبدعها عبدالوهاب القصيدة ومنها «همسة حائرة»، و«الجندول» و«الكرنك»، و«كليوباترا»، و«جبل التوبار» والديالوج مثل «يادى النعيم» و«طال انتظارى» مع ليلى مراد و«ياللى فوت المال والجاه» مع رجاء عبده، كما غنى المونولوج والطقطوقة والدور فغنى خمسة أدوار منها «القلب – يا ما انتظر»، و«عشقت روحك»، و«أحب أشوفك». كما غنى الأغنية السينمائية فى أفلام «رصاصة فى القلب» و«يوم سعيد»، و«لست ملاكًا»، و«الوردة البيضا» و«يحيا الحب»، و«ممنوع الحب» وغيرها.

وفى المقطوعات الموسيقية أمتعنا عبدالوهاب بموهبته اللحنية فأنتج حوالى ستين معزوفة منها: إليها، وفكرة وألوان، وابن البلد، وبنت البلد، وعش البلبل. 

كما ذكر أحمد مدحت زايد فى كتابه «قطوف من حدائق النغم مع أم كلثوم وعبدالوهاب».

 قصة الجندول

لقصيدة «الجندول» قصة طريفة يحكيها عبدالوهاب فيقول: إن طه حسين عندما علم بعزمه على تلحين قصيدة «الجندول» لعلى محمود طه، وكان ذلك عام 1939، طلب منه ألا تأتى على غرار ما لحن قبل ذلك من قصائد لأنها رومانسية حديثة فى مبناها ومعناها، وتحتاج لأسلوب جديد فى التلحين، وهذا بالضبط ما فعله عبدالوهاب فى تلحينه لهذه القصيدة البديعة، وكان رأى طه حسين فيها بعد ما سمعها أنه أظهر إعجابه بها وأثنى عليها وقال إنها نقلة مهمة يجب متابعتها، وقد حرص طه حسين على حضور تسجيلها إيمانًا بقيمة الفن والفنان. كما ذكر أحمد مدحت زايد فى كتابه «قطوف من حدائق النغم».

ومن أشهر القصائد التى غناها عبدالوهاب: «دعاء الشرق» لمحمود حسين إسماعيل، ومن أجمل أيقونات عبدالوهاب تلحينه لنشيد «وطنى الأكبر» الذى كتبه أحمد شفيق كامل، وغنته مجموعة من أشهر المطربين مثل عبدالحليم حافظ، وشادية، ووردة، ونجاة.

كما لحن عبدالوهاب للعديد من المطربين والمطربات فقدم لنا حقبة فنية كاملة، تألق فيها عبد الوهاب فى قصة الدنيا الطويلة، ونقل الموسيقى العربية والغناء العربى من الفطرة إلى القاعدة، وومن الارتجال إلى العلم، فمن الأغنية الفردية إلى المجموعة ومن التخت إلى التأليف الأوركسترالى، ومن العاطفى إلى الحماسى مواكبًا أحداث الوطن العربى فى كل مكان.

ومن الجدير بالذكر أن كلًا من عبدالوهاب وأم كلثوم قد أسهما فى تقديم أفلام سينمائية شهيرة نجحت نجاحًا حقيقيًا، فغنى عبدالوهاب وقام بالتمثيل فى أفلام عديدة منها: «يحيا الحب» و«دموع الحب»، و«ممنوع الحب»، و«رصاصة فى القلب»، و«الوردة البيضاء»، و«لست ملاكًا».

أما كوكب الشرق فقدمت عددًا من الأفلام المهمة غنائيًا مثل «سلامة» و«وداد»، و«دنانير»، و«عايدة» و«فاطمة»، و«نشيد الأمل».

كوكب الشرق، والموسيقار عبدالوهاب رسما بأصوات ذهبية ألوان حياتنا الوجدانية، بعمق المحبة، والأصالة والتجديد رحلة غنائية ثرية ستبقى فى ذاكرة الأجيال.