الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

لماذا رفض عملية إعادة البصر؟!

مكاوى مع أحمد رامى
مكاوى مع أحمد رامى

- هو أنا ممكن أسألَك سؤال؟



 - - اتفضلى... 

- هو أنت بتشوف إيه؟ يبتسم ابتسامة رقيقة وديعة كأنه ينتظر سؤالى منذ زمن... بالطبع لم أكن لأخبره أننى طوال اليوم وأنا أتجول فى المنزل مغمضة العينين فى محاولة منِّى لمحاكاة عالَمه ومعرفة ماذا يرى، لم أرَ إلا سوادًا حالكًا، ، ظُلمة مخيفة بثـَت فى قلبى الرعب من البداية،ثم ألِفتُها وأنِستُ إليها.

 

بعد أدائه العمرة
بعد أدائه العمرة

 

«أيكون هذا حالك يا أبو السيد؟»، انتظرت رده... - شوفى يا ستِّى، الخيال ده حاجة جبارة، أنا باتخيَّل كل حاجة، ماتنسيش إنى كمان كنت باشوف شوية، بس أنا باتخيَّل كل حاجة، وكل حاجة شايفها بخيالى، وكلها حاجات حلوة، إنتى عارفة إنهم زمان وقت جمال عبد الناصر كانوا عارضين عليَّا أعمل عملية فى الاتحاد السوفيتى وافتَّح؟ (استوقفتنى الكلمة واستخدامه «أفتَّح» مش «أشوف»، يعنى هو شايف بس مغمض!) بس أنا مارضيتش. سألته: ليه؟ - يعنى أنا متخيِّل الشجرة حاجة، أفتح ألاقيها حاجة غيرها؟ أتصدم فيها ليه؟ الحمار مثلًا أفتح أنا ألاقيه حاجة تانية، أقوم أزعل منه وأنا باحبه؟ ويضحك عاليًا ويميل رأسه إلى الوراء، هكذا كان يُبَسِّط جميع الأشياء، يحكيها دون خجل، مصحوبة دائًما بضحكة وابتسامة وسخرية. من يخجل من ماضيه فليس له حاضر، هكذا كان يقول، وبهذا آمنت واعتقدت طوال عُمرى، كان يعلن بمنتهى البساطة حكايات عنه وعن عائلته فى وقت كان بعض مَن يُطلَق عليهم مشاهير يُخفُون ماضيهم أو يخترعون قصصًا أخرى غير حقيقتهم.

كان يفتخر بمشواره الذى طالما رأى أنه يستحق أن يُحكَى: «أنا باحكى كل حاجة علشان باعمل تأريخ لنفسى، ماحدّش هيأرَّخ لى حياتى بعد ما أموت».

عدت يومًا إلى المنزل ووجدت البيت أستوديو مصغَّرًا، فقد كان يُقِيم لقاءً مع المحاور الفريد مفيد فوزى، أعتقد أنه الأجمل فى مُجمَل لقاءاته التليفزيونية،كان يتحدث بنقاء سريرة، وعفوية طفل، وحكمة رجل رأى ما لم يرَه غيره.

ونجح الأستاذ مفيد فى مداعبة الجبَّار بداخله حين أبدى دهشته من طريقته فى إشعال السجائر لنفسه وسرعته فى ربط الكرافات، وضحك يومها وحكى ما لم يحكِه من قبل.

استوقفنى سؤال الأستاذ مفيد المباغت له حين سأله عن ملامحى! فأجاب بسرعة شديدة: أميرة بشرتها بيضا وشبهى!

رأيت دموعًا فى عينَى أُمِّى، وتَملَّكَتنى الدهشة، لسببين: أولهما سرعة الإجابة الدقيقة، وثانيهما أننى سألت أمى ثم عددًا من أصدقائه ومرافقيه بعد اللقاء: «هل سألكم يومًا عن ملامحى أو كيف أبدو؟»، وكانت الإجابة بالنفى!

وكأنى محقِّق بوليسى سألته: أنت عرفت شكلى منين؟ ابتسم وأجاب: بقلبى.

شوفى يا ست ميللو، مش مهمّ شكلك اللى الناس بتشوفه، اللى أنا باشوفه هو الأصحّ، لأنى باشوف بقلبى، أنا باشوف ملامح روحك وصوت قلبك، أنا باعرفك من خطوتك، كل واحد ليه فى ودنى بصمة، خطوته حتى لو بيتسحّب ونفَسه، روح الواحد ليها حضور طاغى، فيه ناس تلاقيها حضورها طيِّب كدا، وناس تبقى دمّها تقيل زيّ عمّك.

 

مكاوى فى المسحراتى
مكاوى فى المسحراتى

 

(ونضحك) اعملى لنا بقى واحد شاى يلّا.

ربما كان هذا أول حديث بيننا عن الروح والقلب ويعيه عقلى.

اعتدت وأنا فى المدرسة أن أذهب إليه كلما كان فرض حفظ القرآن واجبًا، أذهب إليه بالسورة التى علَيَّ حِفظُها وأنا مُثقَلة بالرعب من عدم الحفظ والدرجات الدراسية وسُمعَتى بين أقرانى، فيطلب منى أن أجلس قبالته، ويدير جهاز التسجيل الخاصّ به ويبدأ فى قراءة الآيات بتمهُّل... وبعد أن ينتهى يعيد قراءتها أسرع من المرة الأولى، ثم يعيد قراءتها مرة أخرى أسرع، حتى يصل فى قراءتها إلى سرعة لا يمكنك مجاراتها، يغلق الجهاز الصغير ويقول: فُلَّلِى، تشغَّلى الجهاز يا حلوة وتقرى معاه وتعيدى وتقرى زيى وتعيدى وتقرى زيى، ولو اتلخبطتى ارجعى من الأول، بس هاتى بوسة الأول.

يمدّ يده بجهاز التسجيل رفيقه الغالي: خلِّى بالك منه علشان أنا مسجّل أرقام تليفونات مُهِمَّة، أوعى تمسحى حاجة، خليكى مفتَّحة كدا.

يضحك وأضحك، وأفعل ما نصحنى به، وينتهى بى الحال أحفظ ما قدَّمه لى تمام الحفظ، فى وقت قياسيّ، أعود إليه وأسمِّعه ما حفظت فيبتسم: أيوه كدا يا ميللو يا فُلَّلِى يا الله! كيف يا كفيف البصر بصير الرُّوح استطعت أن تكون معلِّمًا بسيطًا عظيمًا بهذا الشكل؟.

كانت بيننا أحاديث متفرقة عن القرآن وما يُحدِثه من أثر فى النطق السليم والإحساس بالكلمات والمعانى، وكيف أن للقرآن الكريم موسيقى باطنة يسمعها قارئوه، وأن حِفظَه القرآنَ أرهف إحساسه برُوحِه وبمن حوله.

أبو السيد كان يمتهن مهنة قراءة القرآن والمَولِد، الكلمة التى لم أكُن أعرف معناها، ثم علمت بعد ذلك أنه يقصد بها قراءة التواشيح والابتهالات والذِّكْر، ولأنه من مواليد منطقة السيدة زينب كان حديثه لا يخلو أبدًا من كلمات تَشِى بمحبَّته الجارفة لحفيدة المصطفى صلوات الله عليه وارتباطه بها.

لم أكُن أدرك ما يقول إلا بعد أن بدأت أفهم كلمات مثل التصوُّف والمحبة وما شابه.

أعود باستكانة الشاى فيُكمِل لى كيف يرانى: أنا عارف إنك شبهى فى حاجات كتير، وده هيتعبك بعدين.