الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

"ياسواق ياشاطر.. ودّينا القناطر"!

«وضع أساسَها ساكنُ الجنان محمد على باشا، محيى الديار المصرية، فى يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الثانى سنة ثلاث وستين ومائتين وألف فى عصر ساكن الجنان الحاج عباس باشا الأول، فجاءت أحسن طريق للمواصلات على النيل وأعظم وسيلة لحجز وتخزين المياه التى بوساطتها تطورت تعاليم الزراعة فى الوجه البحرى فى مصر حتى أحالت ماء النيل ذهبًا وظهر للعيان سر الحجر الفلسفى وأنكرت المعنى المُخبأ وراء سر الكيمياء التى استعادتها القرون الوسطى من مصر». 



هكذا افتتح أمين باشا سامى، المؤرخ القدير، فى "تقويم النيل" تأريخَه للقناطر الخيرية ضمن ما أرّخ ووثّق من تاريخ وعمارة جسور وسدود وكبارى مصر والسودان فى بداية القرن الماضى، ولعل توثيقه المستفيض للقناطر الخيرية كان نابعًا من حُبّه الخاص لتلك المنطقة التى هى مسقط  رأسه بمحافظة القليوبية.

ومن خلال الوثائق التى تركها لنا الزمانُ ما يظهر أن فكرة إنشاء القناطر ربما كانت إحد الأفكار التى راودت أعضاء  الحملة الفرنسية ضمن ما درست فى مصر، فقد ذكر لنا "كلوت بك" فى كتابه "لمحة عامة إلى مصر فى منتصف القرن التاسع عشر" أن بونابرت قد دَوَّنَ فى مذكراته أن إنشاء سدود وقناطر على فرعَى رشيد ودمياط عند بطن البقرة (وهى منطقة التقاء الفرعين) - هى من الأعمال الجليلة التى لا مناص منها.

وسواء أكان الوالى عالى الهمة ومؤسِّس مصر الحديثة محمد على باشا اطلع على تلك الخواطر أمْ لا؛ فقد عزم عزمًا أكيدًا - وبَعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على جلوسه على عرش مصر - على إنشاء القناطر لتعظيم الفائدة من نهر النيل العظيم وحجز مياهه لرى الأراضى الزراعية.

القناطر المجيدية

 كالعادة كان للمهندسين الفرنسيين نصيبُ الأسد من معظم أعمال الدراسات آنذاك؛ حيث بدأ المهندس "لينان" فى اختيار النقطة المناسبة لإنشاء القناطر وتَخَير لها أوفق النقاط لحجز المياه وتصريفها فى كل أنحاء الدلتا والأراضى المجاورة لها، وهى نقطة تفرُّع النيل لتصبح حصنًا حصينًا من أقوى الحواجز على نهر النيل.

وقد حدث خلافٌ فى الآراء حول تصميم وموقع القناطر الخيرية، فظهر رأى المهندس المسيو "موجيل" الفرنسى أيضًا، وكان الرأى الأول يقتضى إنشاء القناطر على الأرض اليابسة بعيدًا عن المجرَى الأصلى للفرعين، بينما كان رأى الأخير يقتضى إقامة القناطر مباشرة فى حوض النهر.

ودون الخوض فى التفاصيل الفنية الدقيقة لذلك المشروع القومى؛ فقد بُدئ فى بنائها قبل وفاة محمد على بفترة وجيزة، فى العاشر من أبريل 1847م، الموافق للثالث والعشرين من ربيع الثانى عام 1263هـ، وأجزل الوالى العطاء للأعمال واستجلب لها الأعداد الهائلة من العمال، واستكمل الأعمال للقناطر المجيدية الخيرية خليفته عباس باشا الأول.

 وكانت تحمل هذا الاسم نسبة إلى السُّلطان العثمانى عبدالمجيد الأول، وتغير اسمها للقناطر الخيرية فقط عام 1914، وتوالى اهتمام أبناء الأسرة العَلوية بها وتناوبوا عليها بالإصلاح والترميم ومتابعة مشكلاتها، فيُذكر أنه تشكلت لجنة لدراسة الرمال والفوارات التى ظهرت بأساس القناطر، وتشكلت اللجنة من "لينان بك وموشيليه بك ودارنود بك" ووضعوا تقريرًا للخديو إسماعيل من عشر صفحات باللغة الفرنسية عام 1269هـ/1861م. 

والقناطر الخيرية، الواقعة على بُعد نحو 20 كم من القاهرة وتتبع محافظة القليوبية، لم تكن جسرًا أو سدّا منيعًا يعترض مجرَى النهر ويوزع خيراته على أراضى الدلتا فيجلب الرزق والخير الوفير للمصريين فحسب..

 فقد تميزت القناطر بعدة خصوصيات ميزتها عن باقى الحدائق التراثية والتاريخية ليس فى مصر فقط وإنما على مستوى العالم فى هذا الوقت الذى أنشئت فيه فى منتصف القرن التاسع عشر، فقد جمعت القناطر عناصر الجَمال والفن والثقافة والفائدة والمتعة والترفيه أيضًا.

ويبدو أنها قد بلغت آنذاك من روعة الجَمال ما جعل الأديب على الدرويش أفندى  ينشد معجبًا بالقناطر قائلًا: 

أنظر لها ماثرا مصريــــة

قناطرا كوكبا دريـــــــــــــة 

بحران ما بينهما ذو برزخ 

لا يبغيان على القرى النيلية 

 كما تضم أيضًا متحفًا رائعًا للرى يستعرض وسائل الرى  فى مصر منذ عهد الفراعنة، كما يحتوى على مجسمات شيقة للسد العالى والخزانات والكبارى والأهوسة المقامة على النيل، وما أحوجنا اليوم إلى هذا النوع من المتاحف التى أصبحت ذات أهمية بالغة فى العالم وتجذب إليها الآلاف من الزّوَّار عالميّا، وتُصنف تحت اسم "المتاحف المتخصصة"  التى تروى تفاصيل فنية وتاريخية متخصصة لموضوع بعينه. 

القلعة السعيدية

ويرشدنا المتحفُ إلى كَمّ المشروعات والإنجازات التى تمَّت على طول هذا النهر عبر العصور؛ لندرك قيمة هذا الشريان العظيم لحياتنا ونتعرف على ما بذله حُكام مصر من جهود على مَرّ الأزمنة لتصل إلينا نقطة المياه؛ خصوصًا فى ذلك الوقت.

فضلًا عمّا سبق تحتوى القناطر الخيرية على مركز لبحوث الطمْى والهيدروليكا الذى يختص ببحوث ودراسات الرى والصرف والنباتات والبساتين، علاوة على مركز لمشروعات النهوض بالتنمية الزراعية. 

ولو عُدنا للتاريخ مرّة أخرى لوجدنا أن أسرة محمد على لم تبخل على القناطر بالعمارة الجذابة، فضمت القناطر القلعة السعيدية التى أنشأها محمد سعيد باشا عندما تولى حُكم مصر خلفًا عن أبيه وتحقيقًا لرغبته.

 وقصر الخديوى أو استراحته التى كان الملك فاروق يقضى فيها أوقات نزهته لاستعادة نشاطه، وكذا الاستراحة الشهيرة التى كان يقضى فيها الرئيس الراحل أنور السادات أوقاته ويلتقى فيها بضيوفه من رؤساء وحُكام الدول، كما شهدت هذه الاستراحة جانبًا من لقاءاته مع قادة القوات المسلحة أثناء الإعداد لحرب السادس من أكتوبر عام 1973. 

ولم ينسَ محمد على إنشاء محلج للقطن، ويُعد إحدى نقاط  التميز والعناصر التراثية التى تم تسجيلها كأثر ضمن ما هو مسجل بالحديقة تحت رقم 181 لعام 1989، وجار إحياؤه كمركز تراثى متخصص؛ حيث يُعد من التراث الصناعى المتميز والفريد فى مصر ولا تمتلكه الكثير من دول العالم. 

ولاتزال القناطر الخيرية بعناصرها المتنوعة ومتنزهاتها المائية وبساتينها المزهرة رُغْمَ مرور الزمان وما طالها من الإهمال والسلوك العشوائى على مَرّ العصور  مزارًا أساسيّا ونزهة مبهجة وغير مكلفة لجميع أفراد الأسرة، وتحفة مصرية نادرة احتفظت بقيمتها كلؤلؤة محفوظة بمحارة تأبَى الأيامُ إلّا أن يظهر جمالها للعيون.

 وتم مؤخرًا تطوير وتجديد حديقة "عفلة" بالقناطر الخيرية على مساحة نحو 13 فدانًا، وجار دراسة إحياء حدائق القناطر الخيرية ضمن مشروعات إحياء الحدائق التراثية التى وَجَّه الرئيس عبدالفتاح السيسى بإحيائها وإظهار تاريخها واستثمار مواردها الطبيعية كأحد مصادر الجذب السياحى فى مصر التى افتقدتها الأسرة المصرية.