الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

هجوم فيروزى

ذكريات وأخبار فيروز هاجمتنى الأسبوعين الماضين وأحاطتنى من كل صوب واتجاه. استعيد أوراقى القديمة فأجد فيها برنامج حفلة حضرتها لفيروز فى قصر بيت الدين فى جبل لبنان قبل عشرين عامًا، أتذكر كل تفاصليها وأجوائها كأنها كانت بالأمس.



 باحة قصر بيت الدين المشيد فى 1806 ، وكان مقرا لحكم الأمير بشير الثانى شهاب الدين الذى حكم جبل لبنان فى زمن السلطنة العثمانية.  امتلأت باحة القصر بأكثر من ستة آلاف شخص جاءوا من دول عربية مختلفة لسماع فيروز وزياد رحبانى. الجلبة والصخب فى كل مكان، وما إن بدأ زياد رحبانى بالعزف على البيانو، وبدأت فيروز بالغناء، إلا ولف الصمت جبل لبنان، وانتابنى شعورًا أنها تغنى لى وحدى فى حجرة موسيقى خشبية صغيرة. 

غنت فيروز أجمل أغانى شريط «كيفك أنت»: عندى ثقة فيك – مش قصة هاي- كيف أنت». هذا الشريط الذى أحببناه كشباب، وحقق أعلى مبيعات فى السوق المصرية، آنذاك، بحسب «زياد رحبانى». وكيف لا نحبه وهو الذى قدم لنا صياغة زياد الرحبانى الجديدة «لفيروز». أغانى لها بناء موسيقى سريع ومتلاحق، وكلمات تحكى روايات وحوارات الحب الواقعية فى حياتنا،  فى صراحة وندية بين الرجل والمرأة، لا ينقصها الحنو والرقة. 

وقدم زياد جانبًا من تراثه  اليسارى الجريء فى أغنية «شو ها الأيام اللى وصلنالا قال إنو غنى عم يعطى فقير». وفى الجزء الثانى من الحفل شدت «فيروز»  من تراث الأغانى الوطنية لسيد درويش وبديع خيرى أغنية «أهو ده اللى صار»، وكأنها كتبت خصيصًا لها، وكأنها أغنية فى الحب والعتاب. لقد صارت «أهو ده اللى صار» سيد درويش/ الرحبانية حالة موسيقية عابرة للزمان والمكان والواقع السياسى..  هذه الحفلة، التى أقيمت فى 4 أغسطس 2000 كانت استعراضًا لملخص وافٍ للمشروع الموسيقى المنير لفيروز والأخوين رحبانى وزياد رحبانى، المستمد من التراث والفلكلور اللبنانى والمنفتح على تراث الموسيقى الكلاسيكية وشعبيات أوروبا الشرقية، والمتواصل كذلك، مع تراث الموسيقى المصرية من سيد درويش وحتى عبد الوهاب.. هو  مشروع حداثى ومدينى بامتياز فى بنائه الموسيقى الرشيق والقصير والبعيد عن التكرارية والتطويل الممل للطرب العربى التقليدى، وفى انحيازه لموضوعات المدينة  العصرية فى الحب والسياسة والوطنية. 

ازدهار هذا المشروع وتطوره لا يعكس النبوغ الموسيقى لعائلة رحبانى فقط، بل يعكس مشروعات الحداثة والاستقلال الوطنى وبناء الدولة الحديثة التى سادت المنطقة العربية منذ منتصف القرن الماضى وحتى سبعينياته... وفى ذكرى هذه الحفلة، وتحديدًا فى 4 أغسطس / آب 2020، أى بعد عشرين سنةً، حلت بلبنان كارثة تفجير مرفأ بيروت وسقوط الكثير من الضحايا والجرحى والمفقودين وتحطم التراث المعمارى الجميل لبيروت...ويقول أغلب المحللين السياسيين إن أركان دولة ما بعد الاستقلال الوطنى فى لبنان وغيرها من الدول العربية تمر باختبارات قاسية فى مقدمتها: التشدد الدينى، والطائفية، والصراعات المذهبية، والإرهاب والأزمات الاقتصادية، والتعثرات فى إدارة ملفات التنمية المستدامة، ما يمثل تهديدًا وجوديًا لكل مؤسساتها وتراثها بما فى ذلك تراثها الفنى بكل تأكيد. وتطل علينا فيروز مرة أخرى فى زيارة الرئيس الفرنسى ماكرون،  كرمز للبنان الوطن،  وصوت عابر لكل الطوائف والمذاهب، وأمل فى مشروع مقاوم جديد يُفيق لبنان العزيز من كبوته. 

ولعلنى أتفق مع الأستاذ طارق رضوان رئيس تحرير مجلة صباح الخير فى أغلب ما كتبه فى مقال العدد الماضى «عمرو دياب لا يعرف قيمة نفسه»: أن فيروز «وطن» وأم كلثوم «وطن». وفى تقديرى أن غيرهما من نوابغ الموسيقيين المعاصرين من سلسال مدرسة سيد درويش وعبد الوهاب والرحبانية، هم أيضًا «وطن»، لأن مشروعاتهم الموسيقية كانت مخلصة للفن، وحاولت بجدية أن تكون صوتًا للحداثة والتجديد وبناء ذائقة الإنسان العربى صانع الأوطان.

ويقول  أ. طارق رضوان أن عمرو دياب «لا يريد أن يكون وطنًا» مثل أم كلثوم وفيروز. وظنى أن هذا لا يعود فقط لرغبته الشخصية، وإنما لأن السياق الراهن، أصبح يُخضع بصرامة شديدة، الحالة الغنائية بكافة عناصرها لشروط السوق وتسويق السلع والشركات.  تراثنا الموسيقى المميز مازال قادرًا على بناء الإنسان، شريطة أن نجعله متوفرًا، ودليلى على ذلك أن لبنان لم يجد فى أزمته الحالية إلا صوت فيروز سندا وحماية.