السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الإبداع الجميل لا يتنافى مع الحرية!

أضنّ على الغربة.. بمبدعينا.. وأخشى على مبدعينا من الغياب.. فمن ينبه.. ويوقظ.. ويشحذ.. ويحفظ ويؤجج «روح الناس» غير كاتب لم يقايض قلمه أو يغيره؟! ومن يمنح ويلهم ويذود المبدع بالمداد المقدس غير ناسه؟



دار المعنى فى خلفية ما أفكر فيه وأنا أستحضر من قاع الذاكرة مشهدًا غير بعيد.. فى بداية الثمانينيات فى أول مهرجان للإبداع أقامته الهيئة العامة للكتاب.. وفى أمسية شعرية واحدة - على مسرح السلام - جمعت ما بين عملاقينا أحمد عبدالمعطى حجازى والمرحوم أمل دنقل.. شدا حجازى بأبيات تحكى تجربة يوم واحد رمادى فى إحدى مدن الغربة والشاعر يحاول اصطياد «القطا».. ورتل أمل دنقل «لا تصالح»، فبدا كأنه يودعنا «الوصية».

صفق الحاضرون للشاعرين.. لأن ما قاله دنقل لم يكن مجرد شعر جميل، لكنه كان زادًا منا ولنا.. حروفه غمسها دنقل رحمه الله فى أوجاعنا ومعناه قبس من روحنا ودونما تعليق استرجعت المشهد للدكتور غالى بصوت عالٍ واستأنفنا الحوار.

عود على بدء

 قلت: بإمكانى أن أتخيل طبيبًا أو مهندسًا حاملاً أدواته إلى أى بقعة من العالم، لكن حتى الآن لا أتصور كيف - للمبدع - أن يقتات بغير هموم بلده.. ماذا تفعل الغربة بالفنان؟ وهل تكفى بضعة خطوط أو كتب لوصل ما ينقطع؟

- عندما يتحول الوطن إلى مجرد أرشيف.. جرائد ومجلات يتحول الكاتب فورا إلى «خبير».. لا يصبح فنانًا، بل مستشارًا.. فالفنان لو لم يرضع من نبض الشارع اليومى.. «الفنان أى الكاتب والناقد..» أنا فى اللحظة التى شعرت فيها أنى بعدت عن نبض الشارع بقيت حاتجنن على العودة.. لأنى عرفت ساعتها إن أنا ممكن بعد فترة ما «أبقاش كاتب» مهما كتبت.. أكون زى أنور عبدالملك.. أو سمير أمين ودول خبراء عالميين - على عينى وعلى رأسى.. لكن الكاتب حاجة تانية.

هذا الكلام ينطبق علىّ.. وعلى غيرى.. يعنى أنا رأيى إن شاعرنا «حجازى» قدم فى ديوانه «كائنات مملكة الليل» أجمل صدى لتفاعله مع تجربة وجوده فى فرنسا.. لكن بعد كده فيه إيه؟.. أتصور أن حجازى سيقابل.. بل لعله قابل بالفعل «المأزق».. مأزق الاختيار بين أن يعود لنبض الشارع اليومى ليظل شاعرًا لهذا الشارع وبين «...» هناك كتاب كثيرون اغتربوا ولم يقدموا شيئًا طوال سنوات البعد.. محمد عفيفى مطر مثال آخر ظل سبع سنوات فى بلد عربى لم يكتب خلالها بيتًا.. الأستاذ أبوالمعاطى أبوالنجا نموذج آخر.. وهذا الرجل أنا أحبه جدًا.. كل ما كان يكتبه فى مصر كان أفضل بكثير جدًا مما يكتبه وهو فى الكويت حالياً.. كل ذلك أريد من خلاله القول إن الغربة تفقدنا الرصيد.. يعنى أنا لو ماكنتش أحس وأسمع وأشوف مفردات المعجم الشارعى فى مصر لن أستطيع أن أفهم كثيرًا من الأعمال الفنية التى تستخدم هذا المعجم والسياق الذى يستخدم فيه.. لا يكفى أن واحدًا يقول لى وأنا قاعد فى باريس: «عارف دول بيقولوا عن الألف جنيه دلوقت «باكو».. لا.. لابد أفهم وأعيش لذلك قد تندهش لو قلت لك إن أنا أشاهد كل مسلسلات التليفزيون - رغم رداءتها الشديدة ولابد أن أعترف أن كثيرًا من الأعمال التى قرأتها فى الخارج فهمتها أكثر بعد عودتى ومعايشتى لأصحابها.

قلت ألا ترى أن مساحة غير هينة تفصل بين المثقف والكتلة أو بين الصفوة والناس.. وأن ثمة «عزلة» تجعل المبدع والمثقف كنقطة «زيت» وسط «بحيرة ماء» الوطن؟

رد: العزلة داخل الوطن إما مفروضة أو بالاختيار، وفى الحالتين لابد من الاعتراف بأن فيه حاجة اسمها «الصفوة» أو «الإيليت» وتاريخ النخبة المصرية هو تاريخ العزلة عن الناس.. سواء نشأت هذه «النخبة» بطريقة الأحزاب أو البيروقراطية المصرية.. هذه الصفوة انعزلت لأسباب ذاتية وموضوعية عن الارتباط الحميم بالقاعدة الشعبية.. وأنظمة الحكم كانت تستغل هذه «الثغرة».. دانلوب على سبيل المثال بمشروعه عن التعليم فى مصر استهدف نوعًا من الموظفين المنفذين للجزئيات دون رؤية شاملة.. يعنى هو سعى لتخريج مهندس يفهم إزاى يضع مسمارًا أو صامولة فى جزء معين فقط دون أن يملك النظرة الأوسع .. الشاملة.

أيضًا لابد أن أشير إلى أن «النخبة» تعتبر الثقافة ترفًا اجتماعيًا وليس وسيلة لأجل المزيد من الالتحام بهذا الشعب.. بالعكس صارت الثقافة مؤهلاً لنوع من التعالى الاجتماعى.. الدبلوم أو الدكتوراه.. «ترقية اجتماعية» فى اللاوعى.. شهادة ميلاد طبقية «ووجاهة»!

وحتى الآن مازالت النخبة فى مصر معزولة إما بالقمع أو بالتعالى.. بالنسبة للقمع فلفترات طويلة قبل نشوء التعددية الحزبية كان الوضع يجعل النخبة بعيدة عن الناس بقوة القهر وهذه إحدى ثغرات النظام الناصرى والساداتى: عزلة النخبة المثقفة عن الناس.. الناس تبع الحكومة.. والمثقفون خليهم بعيد.. مما أدى إلى نشوء فهم وآليات بمعزل عن الناس وأصبحت هناك امتيازات واحتكارات لهذه النخبة.

بالمناسبة.. منذ أيام كنت فى «أكس بذوفانس» فى ملتقى أدبى وتكلمت عن «الخطاب اليسارى فى الرواية المصرية»، لقد اكتشفت «البعد النخبوى» الذى يظهر فى اختيار المفردات.. وتراكيب الجمل والفقرات فى «البنية الروائية»، وهى للأسف بنية معزولة عن الناس.. يعنى الرواية اللى بتوزع 3 آلاف نسخة هى بتوزع هذا الرقم مش لأن مفيش إعلام أو لقاء لا.. هى بتوزع هذا الرقم المحدود لأنها مش مكتوبة للناس.. حتى شعراء العامية المصرية.. يكتبون العامية لكن ببنية معزولة عن الناس.. وأعطيك مثلاً.

أنا شديد الولع بصلاح جاهين كشاعر، لكن رأيى أن فؤاد حداد هو الأقرب لعبقرية الشعب.. جاهين عبقرى لكن حداد مفرداته وخبرته من الشعب.. القضية مش أن الشاعر يستخدم «ديكورًا شعبيًا» لا.. بل المهم البنية اللغوية والوجدانية والعقلية.

سألته: هل ينطبق هذا الكلام على شاعرينا الكبيرين الأبنودى وسيد حجاب ولم ينف د.غالى شكرى!

قلت: من برأيك قادر فنيًا وإبداعيًا على التعبير أو الإمساك بروح زماننا؟

رد: حاليا الجيل التالى فنيا لجيل محفوظ وإدريس وغانم.. جيل ما يطلق عليه «بالستينيات»، وبالمناسبة أنا السبب فى تسمية هذا الجيل بجيل الستينيات.. أطلقتها وقتها كأداة تحليل وقد استنفدت أغراضها وحاليا هذا الجيل هو «صلب نسيج الثقافة المصرية»، هم أعطوا فى السبعينيات والثمانينيات أكثر مما أعطوا فى الستينيات،بل أصبحوا هم أصحاب العطاء الأساسى فنيا وثقافيا وحضاريا وليس من هم خارج تاريخ الكتابة حتى ولو كانوا من أصحاب فوضى المجاملة لهذه المجموعة!

 قلت: ماذا تعنى بالكتابة خارج تاريخ الكتابة ومن تعنى؟

رد بوضوح: هى كتابة الذين مهما سودوا من صفحات، فإنهم يظلون خارج تاريخ الكتابة.. يعنى كتابة محمد عبدالحليم أو إحسان عبدالقدوس أو نجيب محفوظ أو يوسف إدريس أصحاب «هذا الزمن» أعطونى بما فيه الكفاية وأنا دايما أقول إن واحد زى نجيب محفوظ هو «هرم» فى تاريخ الرواية العربية.. ومهما سود من صفحات فإن عطاءه الحقيقى أعطاه وهذا العطاء سارى المفعول فى الأجيال الجديدة.

نجيب لا يحتاج إلى أن يستمر فى تسطير الصفحات.. أنا رأيى بصراحة كاملة - ومحدش حايزايد علىّ فى علاقتى بنجيب محفوظ - إن محفوظ العشرين سنة الأخيرة أعطى فيها ملحمة الحرافيش فقط وهى تنتمى بالعقل والروح للماضى.. أى أن نجيب محفوظ وصل ذروة عطائه فى سنة 1967 وليس مطلوبا منه ولا من يوسف إدريس ولا من فتحى غانم أكثر مما قدموا.. يوسف إدريس هو لحظتان تاريخيتان: هو الواقعية الجديدة التى أسسها سنة 1954 وتفوق فيها على زملائه الأكبر سنًا «مثل عبدالرحمن الشرقاوى» والأصغر منه سنا مثل فاروق منيب وبدر نشأت وعبدالله الطوخى وصالح مرسى.. يوسف إدريس هو الواقعية الجديدة اللى طلعت أرخص الليالى وجمهورية فرحات وهو أيضا المسرح اللى قدم «الفرافير» و«لغة الأى أى» و«النداهة».

فى هاتين اللحظتين قدم يوسف إدريس أقصى درجات التحديث التى بإمكان موهبة كيوسف إدريس.

 قلت: هل يعنى ذلك أن عطاء المبدع محدود بطاقة تستنفد فى مدى زمنى معين وبعدها يكرر الكاتب نفسه؟

قال: عشان أوضح هى طاقة غير زمنية، فالفن العظيم لا يجوز نسبته إلى تاريخ محدد.. احنا بنقرأ شكسبير ودستوفسكى بمتعة شديدة كذلك نقرأ نجيب محفوظ وفتحى غانم.. لكن هذه الطاقة مرتبطة بروح معينة.. توفيق الحكيم مثلا.. ارتبط بروح ثورة 1919 ولم يعبر الحكيم أبدا عن روح ثورة 23 يوليو مهما كتب شمس النهار وإيزيس ومش عارف إيه.. نجيب محفوظ عبر عن ثورة ثانية - الجيل الجديد.. عبر عن ثورة مش لازم ثورة سياسية لكن تحولات وهكذا يلتقط كل فنان الروح الأقرب فى فترة زمنية ويعبر عن كنهها.

 سألت: داخل آخر موجات الإبداع فى الساحة المصرية هل تلمح «تمايزات» أو سمات خاصة؟

قال: بإمكانى القول إن «جيل الستينيات» أو الماكسين الآن بلب التعبير عن زمانهم قد أضافوا على كل المستويات.. كانت هناك رؤية معينة للحياة والواقع والفن.. هذه الرؤية تغيرت رأسًا على عقب.. هناك الآن ما أسميه «البحث عن رؤى فى الظلام»، هذه النهضة الخبيثة فى ثنايا الروح والفكر بناء الشخصية على صعيد الكتابة والمجاز والرمز.. كل ذلك تغير عند أدباء الستينيات.. لو توقفنا عند عنصر واحد فقط هو «اللغة» سنجدها عند الغيطانى اقتراحا بالتاريخ بمعنى استحضار عبق روح التاريخ فى رواية الحاضر فتولد هنا قيمة معيارية يقاس بها الحاضر على الغائب لرؤية المستقبل.. اللغة عند إدوارد خراط كيان بشرى كامل.. فيه نحت لغوى.. على فكرة زمان أنا أطلقت على مجموعة قصصية لكاتب اسمه محمد إبراهيم وصف «القصة القصيرة» لرفعة مستوى النحت اللغوى بها.. أما اللغة عند عبدالحكيم قاسم فلها خصوصية نامية ليس من الشخصيات التى تنطق اللغة، بل من الموقف الذى يبنيه الكاتب.

فاللغة.. هذه الأداة وحدها تحمل رؤى متعددة وغنية عند هذه المجموعة، بينما لم تكن أيام محفوظ وإدريس تطرح اللغة كقضية إلا عامية أو فصحى.. أو عامية الحوار وفصاحة السرد أو عامية الحوار والسرد، هكذا كانت كل حدود قضية مثل اللغة.

ثم صمت لحظة، لكن فيه شىء «حاصل للشعر الآن» فى مصر، لكن لا علاقة له بما يشاع عنصريًا عن الثقافة المصرية بأنها ثقافة غير شعرية.. فهذا غير صحيح شعريا لأن ما حدث فى مصر فى الأربعينيات مثلا من تطور شعرى لم يحدث فى أى قطر عربى آخر.

رصد

فى ظروف تاريخية - حجبت تعدد الآراء - كان المثقف المصرى قادرًا على إعلان رأيه ودفع ثمن هذا الإعلان حتى دخول عتبات السجن ولما تغيرت الخريطة واتسعت نوافذ الإفراج عن الرؤى مال المثقفون أو بعضهم على الأقل إلى العزوف أو ضمور المشاركة الحقيقية.. تبنى جزءٌ لا يستهان به منهم شعار الاكتفاء بهامشية الحضور.. هل تراجع دور المثقف؟ أو هل قنع المثقف بمجرد تحقيق أهدافه الخاصة؟

يعلق دكتور غالى على رصدى:

فعلا الرقعة الواسعة من المثقفين صاروا مستقلين فى ظل التعددية الحزبية، الأمر الذى يتناقض مع ما كان مطلوبًا فى ظل الديكتاتورية.. كان المثقف يدخل السجن لأنه يريد انتماًء واضحًا لرؤية.. صار أغلبهم قانعا بأن يكون مستقلا.. سادت القيم الفردية فى أوساط المثقفين.. غلب عليهم جانب «التكنوقراط» فأصبحوا جميعًا «خبراء» ولنقل أغلبهم حتى لا يغضبوا.. أصبح «الارتزاق» هما شخصيًا مباشرًا يحرك هذه الغالبية، لذلك سهلت عمليات اختراق صفوفهم من قبل مراكز بحث أجنبية ومؤسسات وجدت فيهم تربة خصبة لأهدافها.. كلمة مثقف تعنى كمًا مصرفيًا ملتزمًا بقضايا مجتمعه وصاحب رؤية شاملة.

وبهذا التوصيف أو قياسًا عليه  نحن نفتقد «المثقف» وتعيش بيننا كما قلت طبقة من التكنوقراط يعملون أبحاثا ويأخذون «فلوس» عليها.. فهناك مثقفون فتحوا مراكز أبحاث خاصة! يعنى مؤسسة أجنبية تبعث له وتطلب دراسة عن أثر المجارى على صحة الأطفال فى مصر.. فينفذ طلبية الشغل زيه زى السمكرى أو الترزى.. أو.. غيره!

 قلت للدكتور غالى: كيف ترى العلاقة بين المثقف والدولة ولا أقول السلطة؟

قال: المثقف فى مصر مرتبط بالدولة منذ بداية تكوينه وحتى وهو يعارض الدولة فإن الحلم عنده فى النهاية أن يعود للدولة وليس للسلطة لأنه بدون الدولة يروح فين؟.. ليست عندنا جامعات خاصة أو دور أو مؤسسات ثقافية تستوعب دوره.. كل المؤسسات الثقافية تعنى الدولة، والدولة من خلالها ينعزل المثقف شاء أو لم يشأ عن الناس اللى الدولة عاوزاهم يكونوا بتوعها! بالمناسبة أنا مهموم جدا فى عملى بالنقاط أو رصد العلاقة وتطلب النخبة المثقفة أو المبدعة وبين الناس.

 سألته: أى التيارات السياسية مسئول عن صبغ النقد الأدبى بالمسحة السياسية وإفقاده لكنهه الحقيقى؟

رد: هناك تبادل للمواقع.. يعنى المسألة غير مرتبطة لا باليمين وحده أو باليسار وحده.. فى فترة قد تجدين اليسار يعتنى بالمنظور السياسى بينما يقول أدباء اليمين «الفن للفن»، وفى فترة أخرى عندما يتربع اليمين على عرش السلطة يرفع هو راية الأيديولوجية.. أنا لن أنسى أن يوسف السباعى الذى هاجم كتابًا لمحمود أمين العالم بضراوة هو نفسه الذى نشر مقالاً بمجلة الرسالة بعد مسابقة لنادى القصة وقال: لقد أعطيت لهذه القصة صفرا لأن الكاتب انتصر للعامل على صاحب العمل.. قالها بوضوح.. وكان ذلك قبل التأميمات، لكنه بعد التأميمات غير رأيه وهكذا.. لكن هناك رؤية سياسية.. فجزء من تكوين الناقد لا ينبغى أن يؤثر على أدواته النقدية.. منذ خمس سنوات قرأت لناقد يهاجم نجيب محفوظ باعتباره رجلا ضد العروبة والإسلام ونادى بضرورة مراجعة أعماله وفقا لذلك والأيام الماضية قرأت مقالا فى مجلة مصرية لكاتب يحمل نفس المعنى.. عن موقف نجيب من ثورة يوليو وجمال عبدالناصر واستخلص صاحبها أن نجيب معاد بضراوة..

الخطأ هنا فى طريقة قراءة العمل الفنى.. يعنى كيف نقرأ عملاً أدبيًا.. حين أقرأ على لسان شخصية عند محفوظ هجوما على عبدالناصر هل هذا يعنى أن هذا رأى محفوظ؟ أبقى أنا راجل أعور ما بعرفش أقرأ لأن نجيب هو الأثر الكلى للعمل، لكن لو استنطقت الشخصية أو استقطعتها من السياق - الزميل صاحب المقال فعل هذا - لا تكون قراءتى منصفة، العمل الفنى شىء معقد جدا.. يمزج الوعى باللاوعى.. يخلط بين الماضى الموغل فى القدم واستشراف المستقبل فالأثر العام وليس سلخ بضع جمل على لسان بعض الشخصيات هو مفتاح قراءة العمل الإبداعى.

 تشوه

 قلت: هل النقد قادر على علاج ما يمكن أن نسميه «تشوهات الوجدان» أو اختلال معايير الذوق؟

قال: قد لا يقوى الناقد وحده على العلاج، لكنه مطالب بوضع يده ويد المتلقى على هذه التشوهات، فقد يكون العلاج المطلوب «لإصلاح ما أفسده الدهر« فى الذوق والتذوق عملا أكبر.. ربما مشروعا قوميا.. النقد «رادار» يشير إلى مواطن التشوه أو القيم الجمالية.. «ينبه» بالمقال.. أو الكتاب أو مستويات أخرى من العمل النقدى كالندوات.. وأخص بالذكر هنا بعض ندوات «الأتيليه» ودار الثقافة الجديدة.. هذه ندوات مليئة بالجدية والعمق والحضور والأهمية ومع ذلك تتجاهلها أجهزة الإعلام وخاصة «التليفزيون» وربما لا يسمع عنها التليفزيون!

 قلت: قد يكون السبب أن التليفزيون يرى فى مثل هذه الندوات شيئا شديد التخصص أو «ثقيلا» على المتلقى العادى!

رد: من قال ذلك؟ الجدية والمتعة ليستا نقيضتين، بل على العكس كثير مما يطرح من هذه اللقاءات ممتع وجذاب بدرجة كبيرة جدا.. وأنا شخصيا مع الإبداع الجميل وهذا لا يتنافى أبدا مع الجدية!

 قلت: لكن هناك أكثر من برنامج تليفزيونى يحمل عنوان «الثقافة»!

رد: هذه أشياء تندرج أكثر تحت الإعلام ويدهشنى أن هناك قائمة سرية تمنع استضافة ألمع وجوه الأدب والنقد والثقافة.

 قلت: بحسب علمى لا توجد مثل هذه القائمة رسميا.

قال: إذن هو اجتهاد أصحاب هذه البرامج!

 سألته: كم مرة استضافك التليفزيون منذ عودتك؟

بمسحة مرة لم تخف علىّ: ولا مرة! حتى كان فيه ما يشبه التقليد عند عودة واحد من المثقفين المهاجرين.. يعملون له برنامجا أحيانا على حلقتين.. عملوا لحجازى ورجاء النقاش.. لكن أنا محدش كلمنى!

كانت الوقفة مع الناقد الدكتور غالى شكرى بمثابة «طلة» على بعض ما يؤرق ويوجع.. كانت محاولة أقرب إلى «جس النبض» وإن بقى العلاج بعيدا وإن كان غير مستحيل فالوضع بحد تعبير د. غالى من خلال الإبداع الثقافى الموجود وما أتمكن من متابعته أستطيع القول بضمير مطمئن: إن الثقافة المصرية كما عهدناها «تعطى» عطاء ثريا وإن كان رصدها فى حاجة إلى المزيد من المتابعة اليقظة فهى الضمير الذى لم يمت.